على مدار الساعة

وقفة رمضانية مع قيم الحكامة والتنمية!..

26 أبريل, 2021 - 15:19
د. محمد ولد عابدين - أستاذ جامعي وكاتب صحفي

تراعى وقفتنا الرمضانية خصوصية الفضاء الزماني لرمضان، فتستعرض القيم والمفاهيم المركزية في الخطاب الإسلامي من منطلق شرعي، لكنها تنفتح في الآن ذاته على الواقع، فتطرح أسئلة الحكامة والتنمية، وتبحث إشكالات الفكر والتربية، وتعرض لكل المشاغل والقضايا الوطنية؛ انطلاقا من منظور شمولي حداثي، منفتح على كل المقاربات الفكرية والإسهامات العلمية؛ في شتى المجالات المعرفية والتجارب البشرية العالمية.

 

وفى هذا السياق تؤكد وقفتنا اليوم على حاجة الموريتانيين - أكثر من أي وقت مضى- إلى صياغة وبلورة "مشروع مجتمع مؤسسي حداثي" يرتكز على منظومة قيم معاصرة، تحدث قطيعة سوسيو - ثقافية مع تراث "البداوة" وإرث "السيبة" من أجل تجذير مفاهيم الحكامة والتنمية، وتكريس قيم الدولة المدنية، وترسيخ ثقافة القانون والنظام والكيان المؤسسي الجامع.

 

لا مراء في أن الديمقراطية نظام سياسي حديث من أرقى نظم الحكم التي توصلت إليها البشرية، ولا جدال في أنها تشكل آلية راقية ووسيلة حضارية للتداول السلمي، وتدبير وتسيير الشأن العمومي.

 

بيد أننا نسيئ إليها ونسيء فهمها حين نجتثها من سياقها التاريخي العام، ونقتلعها من ظروفها الموضوعية ومسوغاتها المجتمعية، فنراها وفق نظرة اختزالية قاصرة مجرد (قوائم للناخبين ولوائح للمترشحين وصناديق للاقتراع...) ..إنها في الواقع جزء لا يتجزء من منظومة قيم حداثية شاملة، إذا لم تتكرس عوامل وجودها ومناخ احتضانها في بيئة مجتمعية معينة، فإن الديمقراطية بمفهومها الشكلي تصبح ترفا سياسيا وطلاء تجميليا لا طائل من ورائه.

 

لا بد لإرساء ديمقراطية حقيقية وحكامة نموذجية من تجذير الوعي المدني وترسيخ ثقافة المواطنة، وتعزيز مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وتوطيد دعائم الحكم الرشيد، والقضاء على البيروقراطية والرشوة واختلاس المال العام، ومحاربة شتى أنساق وأصناف الفساد الإداري والمالي.

 

ولا بد للوصول إلى ذلك من منطلقات سليمة، تؤسس لقيم أخلاقية جديدة في الحكم، قوامها سيادة القانون والإنصاف والعدالة والمساواة، وغايتها احترام الحقوق وحماية الحريات، ومنهجها تعزيز وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة لإشاعة قيم النزاهة والشفافية والكفاءة المهنية في إدارة المصادر البشرية وتسيير الموارد المالية العمومية.

 

لقد شهدت البلاد خلال العقود الأخيرة استشراء ظاهرة خطيرة، تدرجت مع مرور الزمن، فتحولت من طور الاستثناء لتتكرس قاعدة لعمل ممنهج، يستنزف ثروات البلاد وينهب خيرات العباد في سياق ما بات يعرف باختلاس المال العام، ولعل الأدهى والأغرب في الأمر أن هذه الممارسة انتقلت من صفة العيب والقدح، لترتدي لبوس المدح، في بعض الموازين المختلة، فاضطربت المفاهيم والتبست المصطلحات التي ينعت بها أصحابها في قاموس وأدبيات الخطاب السياسي المحلي، وكأنما غاب عن الأذهان والأفهام أن اختلاس المال العام جريمة قانونية واقتصادية بشعة، ومعضلة اجتماعية وأخلاقية سيئة، مدانة في كل الشرائع والقوانين والأعراف البشرية، وهي من أخطر الظواهر المعيقة للتنمية.

 

ومن غرائب الأمور ومفارقاتها أن النخب الثقافية والفكرية والسياسية التي تتغنى بالقيم والمثل والمبادئ، ما إن تتولى مسؤولية في تسيير الشأن العام - في الغالب- حتى تغرق في الوحل ، وتبدأ في ممارسة الفساد متنكرة لمبادئها وقيمها، والأغرب من ذلك أننا نجد بعض من مارسوا الفساد في هذه البلاد يتنطعون أمام الملإ، ويتحولون بين عشية وضحاها إلى واعظين ومصلحين ومدافعين عن قيم الديمقراطية والجمهورية.

 

نحتاج إلى "نقد العقل الموريتاني" وتحليل بنيته النفسية والذهنية، وتفكيك تركيبته الانتروبولوجية لفهم هذه التناقضات والمفارقات السلوكية الصارخة بين الرؤية النظرية والممارسة الميدانية لبعض النخب الوطنية.

 

إننا بحاجة ماسة إلى التأسيس لنهج جديد في الحكامة، قائم على المساءلة والمحاسبة، والبحث عن الخبرة والكفاءة، والقطيعة مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية، والحث على التسيير العقلاني الراشد للثروات والموارد العمومية؛ الموجهة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الرفاهية للمواطنين؛ بوصفهم الثروة الحقيقية ووسيلة التنمية وغايتها.

 

ولا بد لتحقيق ذلك من العمل المدروس والممنهج، والتفكير الإستراتيجي الخلاق، والانفتاح على الثورة التقنية والمواكبة الديناميكية لمستجدات القرية الكونية؛ فضلا عن القطيعة الكلية مع القنوات التقليدية المناقضة لقيم العصر؛ وبذلك نصل إلى إرساء أسس مجتمع حداثي، تغيب فيه الذوات وتحضر المؤسسات.