على مدار الساعة

موريتانيا وصراع الموانئ على ضفاف الأطلسي

5 مايو, 2021 - 15:23
د. يربان الحسين الخراشي

تتسابق دول عدة للسيطرة على الموانئ الاستراتيجية المطلة على ضفاف المحيط الأطلسي، وخطوط الملاحة العالمية، وقد باتت سواحل الأطلسي تزخر بعدد كبير من الموانئ البحرية المتطورة بدءا بميناء كريبي، الذي يعد منفذا جديدا يتمتع بموقع تنافسي في الكاميرون، ومرورا بميناء لومي التوغولي الأكثر نشاطا في المنطقة، والذي من المتوقع أن يستقطب استثمارات تصل إلى 500 مليون يورو، وكذلك ميناء أبيدجان المستقل، الذي تمت توسعته مؤخرا، وأصبح قادرا على استقبال السفن الكبيرة الناقلة للحاويات، ويسجل حركة مرور تجارية في حدود 30 مليون طن سنويا، بالإضافة إلى ميناء كوتونو، الذي تسعى بينن جاهدة لتطويره وتحديثه، وانتهاء بميناء تيما في غانا الجاري تحويله إلى أهم موانئ المنطقة عن طريق استثمارات بأكثر من مليار دولار.

 

خريطة الموانئ البحرية على ضفاف الأطلسي باتت تتغير بفعل التنافس الدولي والإقليمي المتصاعد، وأصبحت دول الجوار الموريتاني تسارع الزمن في حجز مواقع لها على الخارطة الجديدة كأحد أبرز تجليات مظاهر الصراع الإقليمي والدولي على الموانئ، حيث أعلنت المغرب عن مشروع ميناء مدينة الداخلة الجديد، الذي تقدر تكلفته بحوالي 1.1 مليار دولار، وتسعى المغرب من وراء إنشائه إلى تحقيق عدة أهداف تنموية، وجيوسياسية بل حتى أمنية على رأسها الإفلات من كماشة "الكركارات"، والتواصل والتجارة مباشرة مع إفريقيا في سابقة لم يعرفها التاريخ المشترك لشعوب المنطقة، كما أن المشروع يعد استجابة طبيعية من المملكة على التنافس الإقليمي المحموم في ميدان النقل البحري بين الدول المطلة على الأطلسي المشار إليه أعلاه، هذا بالإضافة إلى أن المشروع يعد رأس حربة في تنمية الأقاليم الجنوبية، وربما خلق ظروف جديدة قد تمتد لما بعد وادي الذهب.

 

مشروع ميناء الداخلة الأطلسي لا يخدم المغرب لوحدها بل تعول عليه الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ مبادرة "ازدهار إفريقيا"، التي تتخذ من المغرب مقرا لمكتبها، حيث تعتزم رصد 5 مليار دولار من الاستثمارات بالمغرب، وعبره إلى المنطقة خاصة إفريقيا جنوب الصحراء، مما سيعزز من دور المغرب كطب اقتصادي، وكبوابة للاستثمارات الأمريكية في القارة. العودة القوية لأمريكا إلى المنطقة عبر حليفها التقليدي المغرب قد لا تكون لأسباب تجارية واقتصادية فحسب بل وأمنية وجيوسياسية، وقد يمكنها الميناء من مراقبة متقدمة للدور الصيني، والروسي المتنامي في القارة.

 

أما السنغال فقد وقعت مع موانئ دبي اتفاقية بمليار دولار من أجل إنشاء ميناء في المياه العميقة بمنطقة ندايان، وسيعزز هذا الميناء الجديد من دور داكار كمركز لوجستي رئيسي، وبوابة لغرب وشمال غرب إفريقيا، ولا يخفى علينا أن منطقة شمال وغرب إفريقيا منطقة بالغة الأهمية نظرا لقربها من أوربا، وإطلالتها الاستراتيجية على أمريكا، وكونها المنطقة البكر الغنية بثروات الطبيعة، وجزء من الخزان البشري القادم إفريقيا جنوب الصحراء، وعلى الرغم من أن المنطقة بها عدد كبير من الدول، إلا أنها تفتقر إلى الدولة الأساسية التي تعمل كمحرك إقليمي، وسعي السنغال الحثيث إلى لعب دور المحرك الإقليمي الثقافي، والسياسي، والآن الاقتصادي عن طريق ربط موانئها بالعمق الساحلي مرورا بمالي قد يؤهلها إلى لعب أدوار أخرى أكبر خاصة في منطقة الساحل هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تشكيل محور ميناء طنجه - الداخلة - ندايان قد يخلق منافسة قوية لموانئ جزر الكناري الإسبانية، ويعزز من علاقات التحالف الاستراتيجي المغربي – السنغالي.

 

الجزائر أيضا دخلت على خط المنافسة عن طريق إحياء مشروع ميناء الحمدانية بالتعاون مع الصين بقيمة استثمارات تصل إلى أكثر من 3 مليار دولار، وأعلنت رسميا أن الميناء الكبير يستهدف الدول الإفريقية الغير مطلة على البحر، وتعويضا عن البوابة الأطلسية المفقودة تراهن الجزائر كثيرا على الطرق السريعة العابرة للصحراء (طريق الجزائر – نيجيريا، وطريق تندوف – الزويرات)، وتسعى إلى تحويلها إلى ممرات اقتصادية تربطها بالعديد من الدول مثل النيجر، وبوركينافاسو، ونيجيريا، ومالي وغيرهم من البلدان الإفريقية، هذه الممرات قد تغير ملامح المنطقة اقتصاديا، وجيوسياسيا، مما قد يخلق منافسة قوية مع المغرب على العمق الإفريقي.

 

الصين بدورها تعول كثيرا على محور مينائي جوادر الباكستاني – جيبوتي - الحمدانية بالجزائر في مشروع مبادرة الحزام والطريق أو إحياء طريق الحرير، الذي يعد الطريق إلى خلق ظروف جيوسياسية عالمية جديدة نظرا لإبراز دور التجارة القارية على حساب التجارة البحرية، ونظرا لكونه يشكل طريقا إلى تدويل العملة الصينية، وخروج شركاتها إلى العالمية، وإدخال المزيد من العناصر الصينية في صياغة القواعد الدولية، وكذلك كونه الطريق إلى تحويل مركز الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق.

 

موريتانيا تقع على مفترق طرق المنطقة، ويمكنها استغلال الموقع الاستراتيجي لمنطقة نواذيبو الحرة المفتوحة على إفريقيا، والعالم العربي، وأوروبا، وذلك بربطها بمبادرة الحزام والطريق عن طريق إنشاء ميناء في المياه العميقة متعدد الأغراض، وبطاقة منافسة إقليميا مع امكانية التوسيع مستقبلا عند الحاجة لتحويل المنطقة إلى ممر اقتصادي، ومنطقة تخزينية تصديرية أولا، وتصنيعية ثانيا تستهدف بشكل رئيسي الأسواق الإقليمية ثم العالمية، فلا ننسى أن قطارات طريق الحرير الصينية أصبحت تجوب أوروبا شرقا وغربا وصولا إلى إسبانيا، التي تبعد جنوبا عن الشواطئ الموريتانية حوالي 400 ميل بحري، كما أن بلادنا وقعت على منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وأعادت جسورها التجارية مع المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، هذا بالإضافة إلى أن الصين أعلنت على لسان سفيرها الجديد لدى موريتانيا في مقاله الأول المنشور تحت عنوان "يداً بيد لدفع العلاقات الصينية الموريتانية نحو مستقبل مشرق" عن أنها تولي أهمية كبيرة لمكانة موريتانيا الفريدة في إفريقيا والعالم العربي، وتعتبرها شريكا إقليميا أساسيا، وتدعم لعبها لدور فعال في المنطقة.

 

وتظهر أهمية الميناء الذي نعتقد أنه محرك قاطرة التطور الاقتصادي لما بعد كورونا، والضامن للاستفادة من موقعنا الاستراتيجي فيما يلي:

أولا: هذا الميناء سيصبح من أهم الموانئ التجارية في شبه المنطقة نظرا لقربه من مسار الخطوط الملاحية العالمية المتمثلة في مسار أمريكا أوروبا عبر الأطلسي، ومسار آسيا غرب إفريقيا مرورا برأس الرجاء الصالح، وكذلك مسار آسيا أوروبا غرب إفريقيا، مما يعزز من هوية بلادنا المتميزة كمفترق طرق، ومنفذ تجاري رئيسي، وبالتالي يسرع من سياسة الاندماج الإقليمي التي تنتهجها بلادنا، ويضمن الاستفادة أكثر من موقعنا الاستراتيجي كملتقى طرق بين مجموعتين اقتصاديتين هامتين هما اتحاد المغرب العربي، والمنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، كما يدعم دور بلادنا المحوري كفاعل وشريك في المبادلات الدولية؛

 

ثانيا: الميناء يعتبر حجز الزاوية في إحياء القطب الاقتصادي الشمالي، حيث سيساهم بقوة في تنمية القطاع اللوجستي، والصناعي، والتجاري بل وحتى السياحي بشكل مستدام خاصة مع وجود الحوافز والمزايا التي تمنحها المنطقة الحرة، مما سيجلب المزيد من المستثمرين المحليين والإقليميين والدوليين، ويخلق الآلاف من فرص العمل بل أكثر من ذلك قد يشكل فرصة لتنويع مصادر اقتصادنا الوطني، وبالتالي كسر معادلة مستقبلنا مرهون بأسعار المادة الخام؛

 

ثالثا: الميناء يضمن زيادة صادرات بلادنا إلى منطقة دول الساحل، والنفاذ إلى عمقها عبر ربط الميناء بسكة حديد اسنيم إلى منطقة شوم ثم تمبكتو شمال مالي حتى جنوب النيجر، وهو ما سيعزز من تنشيط حركة التجارة بين بلادنا والدول المجاورة خاصة منطقة الساحل التي لا تحتوي على موانئ، بحيث تتولى بلادنا نقل البضائع عبر أراضيها إلى دول الجوار، والدول الأخرى؛ مما سيخلق الكثير من فرص العمل وحركة اقتصادية يمكنها تشجيع المستثمرين العالميين على الاستثمار في مجال تطوير البنية التحتية عن طريق مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في بلادنا والمنطقة، والأهم من هذا كله أن دخول بلادنا في شراكات اقتصادية دولية، وبقوانين خاصة قد يوفر نوعا من الحماية غير المباشرة، والغطاء الأمني للمنطقة في المستقبل.

 

إن الصراع المحتدم على شواطئ الأطلسي من ناميبيا إلى المغرب للاستحواذ على موانئ المنطقة بات جليا ، وتسارع الدول إلى حجز مواقع لها على خارطة عالم ما بعد كورونا لضمان الاستفادة القصوى من مشاريع الربط الإقليمي والدولي المستقبلية التي ستحول التجارة العالمية من تجارة بحرية خالصة إلى تجارة شبه قارية، وهو ما يعطي للمناطق القارية الجيوإستراتيجية أهمية بالغة خاصة مناطق الربط الإقليمي والدولي، التي تعتبر بلادنا من أهمها عالميا، ويعد إنشاء ميناء المياه العميقة في نواذيبو تمهيدا للطريق أمام إعادة إحياء الدور التاريخي التجاري لبلادنا كهمزة وصل بين شمال إفريقيا وغربها، وتمكين قطب الشمال من لعب دور اقتصادي أكبر بالوصول إلى العمق الساحلي، وتحويل مدينة انواذيبو إلى منطقة جذب استثماري عالمي، ومصدر تموين إقليمي، وعاصمة اقتصادية ليس فقط لموريتانيا بل لمنطقة الساحل كلها، مما قد يمكن بلادنا من لعب دورها الاستراتيجي الهام في موازين القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي الدفع نحو تحقيق قيمتها الحقيقية في عالم ما بعد كورونا التي تكمن في موقعها الجغرافي لا في مواردها، كما أن إحياء التجارة عبر الصحراء وتحقيق الازدهار الإقليمي المشترك عبر الموانئ، والطرق العابرة للصحراء قد يخلق ظروفا جيوسياسية جديدة في المنطقة تفضي إلى المساهمة في حل مشكلة الصحراء، فقد يصلح الاقتصاد ما أفسد التاريخ، وعجزت السياسية، والحرب عن إصلاحه.