على مدار الساعة

المغرب وموريتانيا: من أجل تعاون خال من العقد

14 يونيو, 2021 - 17:11
موسى حرمة الله - أستاذ جامعي، حائز على جائزة شنقيط

لقد ظل الموريتانيون دائما يُكنّون المودّة بشكل طبيعي للمغرب والأسرة الملكية. ويُلاحظ هذا الشعور الخفي والمعلن لدى شرائح كثيرة من الشعب الموريتاني. ولم يتأثر هذا الموقف بتقلبات العلاقة فيما بين البلديْن حتى في أوقات التوتر. ذلك أنه يقوم على قاعدة صلبة ومتجذّرة في العقليات.

 

فالتاريخ والجغرافيا، والتمازج السكاني، والتبادلات الثقافية والتجارية الموغلة في القدم، كلها أمور رسّخت الأواصر التي ينبني عليها ذلك الموقف.

 

وعلى الرغم من هذا الواقع الذي يفترض وجود أقوى الصلات، ظلت العلاقات بين البلدين متذبْذبة بل متوترة أحيانا. فلما هذه المفارقة؟ وما الأسباب الخفية التي تدفع هذا الطرف أو ذاك إلى أن يخطو خطوة إلى الأمام وخطوتيْن إلى الوراء؟

 

إن الفحص المتعمّق لهذه الوضعية يبرز مفتاح اللغز، ألا وهو الريبة وعدم الثقة. وهذا الارتياب يغذّيه عمل تخريبي لا يفتأ ينخر أسس العلاقة كارْتداد الأمواج على سفح السد، مما يوسّع الفجوة بين البلدين.

 

وما من شك في أن هناك أيادي مستترة تعمل جاهدة على بث البلبلة والشقاق بين البلديْن. وقد تمكّن أصحاب النيات السيّئة منذ أمد بعيد من دسّ حصاة مُعرقلة في ماكينة التطبيع الحقيقي للعلاقات الثنائية. وما لم تتم إزالة هذه الحصاة فإن أي تقارب مغربي موريتاني سيظل في مَهبّ الريح. لذا ينبغي أن نكسب معركة الحصاة.

 

ماض تولّى

لكي نحسم مادة الخلاف في العلاقات بين البلدين، ينبغي أن نتحلى بالشجاعة والحصافة للغوص في لبّ الإشكالية واسْتِكْناه نقاط التنازع: فماذا ينقم الحكام الموريتانيون من المغرب أو على الأصح ما ذا كانوا ينقمون منه؟ وفي المقابل، ما ذا بوسع المملكة العلوية أن تعمل لمساعدة موريتانيا، لاسيما على صعيد التنمية الاقتصادية؟

 

بخصوص السؤال الأول، استمر القادة الموريتانيون طويلا في إلقاء اللائمة على المغرب لمطالبته بضم بلادهم. وبعد اعتراف الرباط بموريتانيا، واصلوا – وهو ما قد يكون مفهوما بسبب التجربة السابقة – في التحسّب لاحتمال تجدّد النزعة الامبريالية للجار الشمالي.

 

ومن هنا يمتاز الموقف الموريتاني على الأقل بالوضوح. وبمقدور المراقب أن يلاحظ ذلك؛ لكن ما المقصود بالضبط؟

 

علاوة على أن موريتانيا دولة مستقلة وذات سيادة، بل عضو في الأمم المتحدة، كان لا بد أن تتلاشى المطالب المغربية وتتوارى في دهاليز التاريخ. ولم يعد لها اليوم من الأهمية سوى ما يثير تطلع الباحثين. لقد طويت تلك الصفحة وانفتحت صفحة جديدة. ذلك أن الزمن قد دار دورته وانقلب السياق الجيوسياسي رأسا على عقب مخلفا واقعا إقليميا مختلفا تماما.

 

فما كان من ملوك المغرب إلا أن يسلموا رسميا بهذه المعطاة الأساسية. فتخلوا نهائيا عن الفكرة التي كانت تراودهم في "بناء المغرب الكبير". ألم يقل الحسن الثاني، وهو المعروف بتشبّثه بالواقعية السياسية، في خطاب شهير على شاشة التلفيزيون: "لا يمكن أن نحكم مدينة النعمة انطلاقا من الرباط"؟

 

صحيح أن بعض قادة حزب الاستقلال، في غياب مشروع سياسي مقنع، يلوّحون من حين لآخر بأطلال ذلك الماضي الغابر الذي يتخذونه بضاعة يتاجرون بها. غير أن ذلك ليس ملزما إلا لمن يروّج له.

 

وباعتبار أني كنت على صلة لعدة سنوات مع بعض المقربين من جلالة الملك محمد السادس، حين كانوا متدربين في وزارة الداخلية، فباستطاعتي أن أؤكد أن العاهل الجديد ليست له فيما يتعلق بموريتانيا أية أطماع توسّعية، إذ يرى أن هذا الملف قد طوي نهائيا. ومهما يكن، فالمنطق والعقل السليم يفرضان العزوف عن مجرد التفكير في هذا الاحتمال. وما سوى ذلك لا يعدو أن يكون ضربا من الوهم والخيال.

 

موريتانيا حليف ثمين للمغرب

في الوقت الحاضر، يسعى قادة البلدين، المغرب وموريتانيا، إلى إرساء علاقات تعاون وصداقة خالية من المكائد السياسية المبطنة ومن شائبة الارتياب والتشكّك. علاقات مبنية على الاحترام المتبادل والتجافي عن التدخل في الشؤؤن الداخلية.

 

لكن لا مناص من الإقرار بأن هذه العلاقات لم ترق حتى الآن إلى مستوى طموحات الشعبيْن. وسنرى لاحقا، على وجه الخصوص، ماذا بمقدور المغرب فعله لتنشيط هذه العلاقات. وتبقى موريتانيا، من جهتها، بالنسبة للمغرب حجر زاوية لا محيد عنه في أي تسوية مستدامة لقضية الصحراء، وتعتبر المساندة التي تقدمها في هذا الصدد قيّمة للغاية.

 

ذات يوم، تناولتُ الكلام في اجتماع منعقد بوزارة الداخلية لأقول إنه، فيما يتعلق بقضية الصحراء، إذا اقتُرِح على المغرب أن يختار ما بين دعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية وبين دعم من موريتانيا، فإني أنصحه أن يختار دون تردّد دعم موريتانيا. فضجّ الحضور بالضحك، وقال لي أحدهم: "يا حرمة الله، لقد سقطت على أمّ رأسك...".

 

كان المغرب بضمّه للصحراء يرمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف: تجنّب التطويق والمحاصرة في محيط مناوئ له، والحصول على متنفّس إستراتيجي، وتفادي الانقطاع عن إفريقيا.

 

بيْدَ أن ما لم يسْتوعبْه أصدقائي، فيما يبدو، هو أن الانتماء المغربي للصحراء حتى ولو تكرّس على الصعيد الدولي، فإن مناهضة موريتانيا لذلك ستحْصره في وضعية إستراتيجية غير قابلة للاستمرار، وبالتالي يتعذّر بلوغ الأهداف الثلاثة الآنفة الذكر. وهذا ما يستدعي أن يحرص المغرب على أن يكون له في نواكشوط نظام حليف وصديق.

 

وبالفعل، لا فرق بين انقطاع المغرب عن إفريقيا بسبب حاجز الصحراء أو بسبب موريتانيا. ويجدر هنا أن نتذكّر التحذير الذي تنبّأ به السلطان المغربي منصور الذهبي. فقد جمع هذا العاهل يوما مستشاريه وقال لهم: "لدينا في الشمال عدو لدود توارث العداء لنا (أي إسبانيا)، وفي الشرق عدو آخر هو العثمانيون (في الجزائر)، وفي الغرب يوجد البحر وليست لدينا ثقافة بحرية، ونحن نتنفّس من الجهة الجنوبية التي تشكل عمقنا الإستراتيجي".

 

تعاون ثنائي غير مسبوق

تعتبر موريتانيا، كما أسلفنا، قطب الرحى في المشهد الجيوستراتيجي الإقليمي. وليحظى المغرب بنظام حليف وصديق في نواكشوط بصورة مستدامة، عليه أن يُنشئ إطارا لتعاون متعدد الأشكال ويكفل رفع التحديات.

 

غير أن الأمل معقود بهذا الصدد على تبدّد غيوم الفُرْقة والحزازات التي ما انفكّت تلبّد السماء المغاربية، حتى لا تعوق مسار هذا التعاون المنشود وغير المسبوق.

 

إذا ما استثنيْنا التكوين في المدارس والجامعات المغربية لآلاف الطلبة الموريتانيين (وهو أمر لا يُقدّر بثمن)، ينحصر حضور المغرب بموريتانيا في تعاون متواضع للغاية: تشييد مسجد ضخم في نواكشوط على شكل تحفة معمارية منعزلة وتحيط بها من كل الجوانب متاجر الفحم، ومواد البناء، والفواكه والخضروات. ويتمثل شقّ آخر من التعاون الثنائي في المساعدات المادية الظرفية على شكل هبات. ومن الواضح أن هذا ليس له انعكاس كبير على السكان.

 

لقد فضّل المغرب دائما اعتماد التعاون بين دولة ودولة، دون أدنى اهتمام بانعكاس ذلك على حياة الشعب الموريتاني. ونكرر أنه باستثناء تكوين المملكة لآلاف الأطر والفنيين الموريتانيين، لا يوجد للمغرب حضور ملموس ومعتبر في موريتانيا.

 

قد نشير إلى شركة موريتل أو التجاري بنك... لكنهما مؤسستان تجاريتان تتوخّيان الربح. وهما تحوّلان أرباحهما إلى وطنهما الأم. وليس لهما تأثير مباشر على الواقع المعيشي للمواطن العادي. وأقصى ما قد تساهمان به تعزيز التعاون المتعدد الأشكال الذي نقترح إقامته.

 

لنكن واضحين. إن للمغرب منزلة سامية في قلوب الكثير من الموريتانيين، لكن ذلك لا يتجسد ميدانيا في أعمال ملموسة. والحال أن هذا الشعور الطيب تجاه المغرب ينبغي الحفاظ عليه وتدعيمه، لا سيما وأن الأجيال الصاعدة تشبه إلى حد ما القديس توماس: إذ لا تؤمن إلا بما ترى. وما تراه حتى الآن لا يرقى إلى مستوى التطلعات.

 

ولئن كان المغرب يبحث عن مساندة ودعم إستراتيجي فلا ينبغي له الاتجاه في المقام الأول إلى الحكام بل عليه أن يعتمد على الشعب الموريتاني. فالقادة يتبدّلون والشعب باق. ويجب ألا يعزب عن بالنا أن الرأي العام في موريتانيا على غرار بقية العالم يمارس تأثيرا كبيرا على السلطة السياسية.

 

ولهذا الغرض، يتوجّب على المغرب أن يستبدل بالتعاون الثنائي التقليدي الجامد تعاونا أكثر ديناميكية.

 

وحسب تصوّري لهذا النمط من التعاون أرى أن يرتكز إجمالا على جملة من النقاط. ويمكن بعجالة أن نستعرض هنا مسارات للتفكير. وتجدر الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بخطاطة مرنة قابلة للتحوير حتى الوصول تدريجيا إلى آلية للتعاون غير مسبوقة. وبطبيعة الحال، يمكن إعادة ضبط هذه الآلية وتكييفها وفق الوسائل المتاحة والاحتياجات التي يعبّر عنها الطرفان. فما المقصود من ذلك؟

- مساعدات غذائية: قمح، سكر، زيت.... تحمل عبارة "هدية من المغرب إلى الشعب الموريتاني" مع الإشارة "يوزع مجانا ولا يباع". وهذا النوع من التعاون يمكن تكراره في حالة حدوث جفاف حاد في موريتانيا؛

- استثمارات مغربية معتبرة في موريتانيا: بناء جامعة ومستشفى، وشق طرق فيما بين الولايات، دون إغفال المساعدة في مجال الزراعة والصيد. وفضلا عن ذلك – وهذه نقطة جوهرية -، على المغرب أن يحث دول الخليج على الاستثمار في موريتانيا لأن المملكة المغربية تعتبر البوابة الحقيقية لأي تعاون مع الممالك والإمارات الخليجية؛

- استحداث بنك مغربي للتنمية وتمويل المقاولات الصغيرة والمتوسطة بموازاة أكشاك للقروض الخفيفة؛

- إنشاء قطب مغربي في نواكشوط لبيع التجهيزات المنزلية والصناعية بالإضافة إلى المواد التحويلية؛

- إقامة وحدة صناعية لتحويل وحفظ المنتجات الزراعية: التمور، الألبان، الأسماك ...؛

- الترخيص في نواكشوط ونواذيبو لوكالات مغربية لكي تبيع بأسعار تفضيلية سيارات، وشاحنات، وباصات مصنّعة في المغرب بموجب تراخيص من الشركات الأصلية؛

- فتح خطوط بحرية منتظمة فيما بين المغرب وموريتانيا؛

- التعاون مع الشركات المغربية المتخصصة في معالجة النفايات المنزلية وحرقها؛

- العمل على استفادة موريتانيا من التجربة المغربية في مجال السياحة؛

- إنشاء شركة مغربية للتنقيب في موريتانيا عن المعادن واستغلالها، وبالأخص في ميدان البحث عن الذهب. وللمغرب تجربة غنية في مضمار التعدين، ويتوفر على عدة مناجم للذهب في بعض البلدان الإفريقية؛

- دراسة إمكانية استغلال المكتب الملكي للفوسفات مناجم الفوسفات في منطقة بوغي (بوفال). على أن نقل هذا الفوسفات برا (عبر الشاحنات) أو عن طريق خط حديدي يصل إلى ميناء نواكشوط (يلزم إنشاؤه) سيكون باهظ التكلفة. وعلى العكس من ذلك، سيكون نقله بالسفن على النهر حتى ميناء انجاكو الجديد أقل كلفة. ويقع هذا الميناء في الطرف الغربي الجنوبي الأقصى على الحدود مع السنغال. وهذا ما يسهّل التزويد بالفوسفات لبلدان شريكة تقليديا للمغرب في غرب إفريقيا؛

- إيداع (وليس هبة ولا قرضا) لبضع عشرات أو مئات من ملايين الدولارات لدى البنك المركزي الموريتاني لتعزيز سعر صرف الأوقية؛

- المساعدة بمعدات وتجهيزات عسكرية من الفائض عن حاجة القوات الملكية المغربية لفائدة الجيش الوطني وقوات الأمن في موريتانيا: بعض الدبابات، بعض المصفّحات، سيارات عابرة للصحراء، قطع غيار للمدافع من شتى الأعيرة، بنادق هجومية، مسدسات، ذخائر وعتاد، أجهزة اتصال، بزات عسكرية ...؛

- توفير كميات من الأدوية والمعدات الطبية؛

- إعارة أساتذة للطب (بعثات أكاديمية) لصالح كلية الطب والمستشفيات الموريتانية؛

- إعارة مساعدين فنيين في مجال الإرشاد الزراعي؛

- إلغاء التأشرة بين البلدين، إلخ.

 

ويمكن تدشين عهد التعاون الجديد بين البلدين بزيارة لموريتانيا يقوم بها جلالة الملك محمد السادس أو سمو ولي العهد الأمير مولاي الحسن. وهي زيارة مرتقبة بتلهّف منذ زمن بعيد.