على مدار الساعة

ماذا بعد مئوية الحزب الشيوعي الصيني؟

10 يوليو, 2021 - 14:19
د. يربان الحسين الخراشي

كان ميلاد الحزب الشيوعي الصيني قبل قرن من الزمان إيذانا بدخول حقبة جديدة من تاريخ الصين بدأها الحزب بالدفاع عن حقوق الطبقة العاملة متخذا من الماركسية اللينينية مرتكزا فكريا لكن أحداث القمع العنيف ضد أتباعه، والسعي إلى تطهيرالمدن منهم خاصة جوهرة الشرق مدينة شنغهاي على يد قوات الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ) في 12 إبريل 1927 جعلت الحزب يتبنى خيار الثورة المسلحة، وهو ما عبرعنه الزعيم ماو تسي تونغ خلال الاجتماع الطارئ للجنة المركزية في 7 من أغسطس 1927 بمقولته الشهيرة
"السلطة السياسية تنبثق من فوهة البندقية"، وسرعان ما اكتشف الزعيم أن الطريق الصحيح للثورة الصينية يمر عبر أراضي الفلاحين، وبدأ العمل باستراتيجية تطويق المدن بالقرويين الفلاحين، وإضفاء الطابع الصيني على مبادئ الماركسية اللينينية، مما أحدث تغيرات مجتمعية جذرية، وتطويرا جوهريا فكريا لمفهوم جديد "الماوية"، وهذا ما قاد في نهاية المطاف إلى نجاح ثورة الفلاحين في الصين بعد فشل كل المحاولات السابقة عبر تاريخ الصين الطويل بدءا بثورة تشين شنغ ووغوانغ (陈胜吴广) أول ثورة للفلاحين في الصين عام 209 قبل الميلاد، ومرورا بثورة هوانغتشاو (黄巢) سنة 878، وكذلك ثورة لي تسيشنغ (李自成) سنة 1629، وإنتهاءا بذروة ثورة الفلاحين في الصين المعروفة بتايبينغ تين (太平天国) سنة 1851.

 

عوامل عديدة ساهمت في انبثاق السلطة السياسية من فوهات البنادق التقليدية للفلاحين الصينيين، على رأسها القيادة المطلقة للحزب الشيوعى الصينى للجيش، وكذلك العمل بمقولة الحزب من الشعب وإلى الشعب مصداقا لحكمة الفيلسوف الصيني منسيوس القائلة 得民心者得天下، وغيرها، و في اعتقادي يبقى عامل إيقاظ التنين النائم في القلوب عن طريق قولبة أعضاء الحزب من عمال، وفلاحين، ومثقفين، وغيرهم من فئات المجتمع، وصبهم في قالب واحد إطاره خدمة الشعب هو العامل الحاسم في تحقيق النصر والتحول الدراماتيكي، مما أدى إلى قيام الصين الجديدة خلال 28 سنة فقط من الثورة التي كان الزعيم شيانغ كاي شيك يعتبرها زوبعة عابرة، ويشبهها بثورة تايبيع تين.

 

مسيرة نضال الحزب الشيوعي الصيني خلال قرن من الزمان من مرحلة الثروة الكبرى إلى مرحلة الإصلاح والانفتاح والتحديث، مرورا بمرحلة الدفاع عن الوطن ضد الاحتلال الياباني، ثم البناء الإشتراكي، والثورة الثقافية، ومرحلة بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وغيرها من المراحل الحساسة كان العامل المشترك بينها السرعة، حيث تم تحقيق الانتقال من مجتمع متخلف تنهشه الأمراض إلى مجتمع زراعي ثم صناعي ثم مجتمع المعلومات ثم الريادة في التحول إلى مجتمع رقمي في أقل من 70 سنة، وهو ما بات يعرف بمعجزة الصعود السلمي للصين، واستعادتها لمكانتها بين الأمم اعتمادا على مواردها الداخلية الذاتية، وعرق جبين شعبها دون أن توسع مساحتها بشبر واحد أو تحتل بلدا آخر أو تقوم بأي نوع من أنواع الاحتكارالتجاري. المعجزة التي مكنتها  خلال 40 عاما من تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي ، والتحضر لحوالي 700 مليون شخص، ورفع مساهمة الناتج المحلي الإجمالي لها من أقل من 2٪ في الاقتصاد العالمي إلى حوالي 20%، وكذلك انتشال حوالي 800 مليون مواطن من براثن الفقر، والتربع على عرش الصناعة العالمية باستحواذها على حوالي 35% من إجمالي الصناعة العالمية، وعرش التجارة الدولة إذ تعتبر الشريك التجاري الأول لأكثر من 170 دولة حول العالم.

 

أما الخيط الناظم بين كل المراحل أعلاه، فهو القدرة الفائقة على التكيف والمرونة، فالحزب الشيوعي الصيني يملك قدرة هائلة على الاستجابة للظروف الجديدة مهما كانت والتكيف معها، ولنا في تعامله مع أحداث فشل تطبيق التعددية الحزبية عن طريق التعاون مع الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ) سنتي 1927 و1946 خير دليل، وكذلك الدور الرائد الذي لعبه الحزب في التسوية السلمية لحادثة شيان سنة 1936، مما أخرج البلاد من الحرب الأهلية، ووحد الشعب الصيني ضد الاحتلال الياباني الغاشم، والنجاح في الانتقال من وضعية المواجهة مع القوى الغربية بقيادة أمريكا خلال حرب الكوريتين  إلى وضعية تعاون نهاية سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى طريقة التعامل مع الحرب التجارية والتقنية والمالية التي تشنها أمريكا من طرف واحد خلال السنوت الأخيرة، والطريقة الفعالة للتعامل مع انتشار جائحة كورونا التي مكنت من السيطرة على تفشي الفيروس في وقت وجيز، كلها أمثلة حية على المرونة والبراغماتية العالية للقيادة الحزبية.

 

العالم اليوم يشهد خروج الصين بثقافتها وتاريخها وحضارتها إلى العالمية لأول مرة في تاريخ البشرية، وهناك دلالات عديدة بارزة لهذه المرحلة على رأسها  القبول العالمي لمبادرة الحزام والطريق بعد توقيع أكثر من 170 دولة على وثائق التعاون مع الصين في إطارها، وانضمام أكثر من 100 دولة للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وسياسة تدويل العملة الصينية، وكذلك سياسة خروج الشركات الصينية إلى العالمية، والأهم من ذلك خروج التجربة الصينية في الحكم إلى العالمية خاصة بعد نجاحها الملهم في الحرب ضد جائحة كورونا، وفي اعتقادي ومن أجل مواكبة هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الأمة الصينية، والبشرية جمعاء على الحزب الشيوعي الصيني تنفيذ المزيد من الانفتاح خارجيا، أما داخليا فقد آن الأون بعد تحول مركز ثقل الحزب من العمال إلى الفلاحين ثم المثقفين ورجال الأعمال أن يحط الرحال في طبقة المبتكرين، كما على العالم الغربي الخروج من قفص الإيديولوجيا المظلم والضيق، والسعي إلى فهم الصين في إطارها، لا في إطاره الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، فالعالم اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى معرفة حقيقية ودقيقة للحزب الشيوعي الصيني، وإذا كان من لا يعرف الحزب الشيوعي الصيني لا يعرف الصين، ولا يمكنه التعاون معها بشكل جيد، فإنه لا يمكن تصور العالم من دون الصين، ولا الصين من دون العالم.