على مدار الساعة

تصادم السلطات..

19 مايو, 2017 - 14:01
عبد الله ولد أحمدو - قانوني - aabdelahi@yahoo.fr

في كل مرة يقع فيها حادث احتكاك بين سيارتين يخرج سائق كل منهما على الآخر ويسمعه ما لذ وطاب من السباب والشتام وطبعا سرعان ما يتحلق حولهما الجمهور في مشهد غوغائي بات مألوفا وبالطبع آخر ما سيفكر فيه المتصادمان هو البحث بروية عن الأسباب الفنية التي أدت إلى الحادث مكتفين بالخصام والاستعانة بالجمهور لينقسم الجمهور بين داعم لـ(خصام) هذا وداعم لـ(خصام) ذلك لكن طبعا ليس انطلاقا من أي معيار فني ولا قانوني.

 

يحدث هذا بشكل يومي في الشارع العام ويبدو أنه ينتقل بين الفينة والأخرى إلى المشهد العام حين يقع أبسط احتكاك روتيني بين السلطات الثلاث التي يفترض في أن القانون رسم لها حدودا تضمن سيرها المضطرد في تناسق وتناغم وتوازي وفق مبدأ فصل السلطات والمبادئ المطبقة له، ولأن المبادئ القانونية لا تختبر صلابتها وتبرز ثغراتها إلا عند وضعها على المحك وتنزيلها على الوقائع التي أوجدت في الأصل للتصدي لها وهنا تبرز قدرة القائمين على حمايتها في الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التنفيذ على أرض الواقع والتغلب على العوائق الفنية التي قد تبرز من حين لآخر والتفاصيل الجزئية التي قد لا يكون واضعو تلك المبادئ قد وضعوها في الحسبان لدى وضع القوانين أول مرة.

 

وقد حدثت في واقعنا الموريتاني الحديث الكثير من حوادث السير المنتظم للسلطات الثلاث وكان بالإمكان الاستفادة من كل واحدة منها في ترسيخ الممارسة الديمقراطية والسير المؤسسي والقانوني للدولة وكان بالإمكان في كل مرة الجلوس بهدوء لحل الإشكالات التي تعترض المسار بفنية عبر لجان متخصصة تدرس الأمور بفنية وتخرج بتصور فني يعتمد في المستقبل لحل هذا الإشكال إلى الأبد أو على الأقل في المنظور القريب، لكن كانت في كل مرة تسير الأمور منحى آخر عبر التجاذبات السياسية التي تنطق بكل شيء سوى القانون والإشكالات الفنية العملية وينتهي المشهد دائما نهاية لا يمكنها أبدا أن تعتبر حلا دستوريا فنيا لمعضل قانوني يتمثل في احتكاك روتيني بين سلطتين في جزئية معينة ولا نخرج في النهاية بحل فني يمكنه أن يدرس للأجيال ويقام عليه العمل في المستقبل إن عرض إشكال مماثل.

 

وسأمر على أمثلة من التصادم وقعت في التاريخ الموريتاني الحديث على أن أنتناول بشيء من التفصيل آخر هذه النماذج:

- تصادم السلطة التنفيذية ممثلة في الرئيس مع السلطة التشريعية ممثلة في كتلة برلمانية ناصبت الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله العداء وأسقطت له عدة حكومات وهدد هو باستخدام صلاحياته بحل البرلمان وانقسم المشهد السياسي في صخب بين منحاز للرئيس وبين منحاز للكتلة البرلمانية قبل أن ينتهي المشهد نهاية ادراماتيكية أدت إلى سقوط الرئيس وتعطيل العمل بالدستور والانتقال إلى واقع آخر له معطيات جديدة.

 

- تصادم السلطة التنفيذية والسلطة القضائية حين أقيل رئيس المحكمة العليا قبل أن يكمل مأموريته المحددة بخمس سنوات فثار الضجيج وركب الساسة الموجة وانقسموا تبعا لانتمائهم السياسي لكن الإشكال انتهى نهاية شخصية بانسحاب الشخص المقال من المشهد وانتهى الموقف دون أن يوجد حل قانوني يفصل الإشكال ويؤسس عليه قانونيا فيما بعد إن حدث إشكال مماثل.

 

- مؤخرا أسقط مجلس الشيوخ تعديلات دستورية أرادت الحكومة تمريرها عبر البرلمان وهو من صميم عملها كمؤسسة تشريعية لها أن تقبل أو ترفض ما تقدمه السلطة التنفيذية من مشاريع وقد اعترف لها رئيس السلطة التنفيذية بهذا الحق وأن ما حدث هو مجرى طبيعي للأمور، وما يعنينا كقانونيين هو الجانب القانوني والمؤسسي وهو لا إشكال فيه، وإن كانت هناك إشكالات سياسية في تصويت الموالاة من عدمه ضد مشروعها فهو أمر سياسي ولا يعنينا ففي هذه النقطة الأمر طبيعي ولم يحدث أي نوع من التصادم بين السلطتين كهيئتين دستوريتين.

 

- حدث أن وقع حادث سير أدى إلى وفيات والمتسبب المفترض فيه عضو من أعضاء مجلس الشيوخ وصرنا أمام احتمال اتهامه بارتكاب جريمة (القتل الخطأ) وحسب ما توضح بعد ذلك احتمال اتهامه بجريمة أخرى تتعلق بـ(قيادة سيارة غير مؤمنة) الأمر الذي يجعلنا من جديد أمام تصادم بين السلطة التشريعية باعتبار الفاعل أحد أعضائها يتمتع بحصانة معينة منحها له الدستور نفسه الذي أوجد السلطة القضائية صاحبة الاختصاص في متابعة مرتكبي الجرائم.

 

وصار لزاما علينا البحث في حدود تلك الحصانة وتوفيقها مع مقتضيات الحقوق العامة والخاصة الناتجة عن ارتكاب تلك الأفعال المجرمة وهي إشكالات فنية بسيطة كان بالإمكان الجلوس بهدوء لحلها وتشكيل لجان فنية من السلطتين وذوي التخصص في المجال الدستوري للخروج بحلول فنية يؤسس عليها حل هذا النوع من الإشكالات التي يتوقع حدوثها في أي منطقة من العالم نتيجة الثغرات القانونية التي لا تبرز للعلن إلا عند تجربة القانون بالتطبيق لدى حدوث واقعة ما.

 

لكن رياح السياسة تجري دائما بما لا يشتهيه القانونيون فذهبت بالنقاش بعيدا عن الإشكالات القانونية إلى الخلافات السياسية وتداعياتها وضاعت المؤسسات والقانون في - صي والكف السياسة -.

 

وهنا سأورد بعضا من جوانب الموضوع القانونية - الفنية:

- هناك جريمة أو ربما جريمتان وهناك ضحايا مدنيون والفاعل المفترض عضو في البرلمان لديه حصانة وللحصانة قيود، وعليه نكون أمام احتمال متابعة جزائية يملك حق المتابعة فيها الادعاء العام وفي ظلها هناك متابعة مدنية يملك حقها الضحايا أو ذوو حقوقهم ويمكنهما أن تسيرا معا أو تنفصلان حسب اختيار ذوي الحقوق، وفي هذه الحالة من ستتابعه النيابة العامة لديه حصانة تمنع متابعته في الجرائم بشكل عام إلا أن هناك قيد ورد وهو أن حالة التلبس تسقط الحصانة بحسب نص المادة التي تمنح الحصانة وهو ما اعتمدت عليه النيابة في المتابعة بيد أن الطرف الآخر ممثلا بأعضاء مجلس الشيوخ ظل يردد أن للشيخ حصانة لكنني تابعت جل المقابلات مع أعضائه ولم يسمع أيا منهم تطرق لما يتعلق بحالة التلبس بل ركزوا على الطريقة المهينة التي تم بها كل ما جرى دون وضع النقاط القانونية على الحروف فيما إذا كانت المتابعة غير قانونية لافتراض أن الحصانة مطلقة، وركزوا على الجانب السياسي باعتبار الأمر استهدافا شخصيا رغم أنه لا يمكن نفي وقوع الوقائع محل المتابعة كما أنهم لا يعلقون على القيد الوارد على الحصانة ويتمسكون بالحصانة في سياقها العام، كما أن دفاع الشيخ في بيانه دخل مباشرة في الأصل دون المرور بالشكل الذي تمت فيه المتابع ما يعني أنه يسلم ضمنيا بالشكل الذي تمت في المتابعة، ومعروف أن النقاط الشكلية تثار قبل الدخول في الأصل.

 

فالبيان من 10 نقاط تحدث أولاها عن ما يتعلق بالوقائع وظروف الجريمة، والثانية عن العرف السائد في حال سحب الشكوى ومساواة المتابعين في ظروف متشابهة وهو اعتراف ضمني بقانونية المتابعة وانتفاء الحصانة في هذه الواقعة لكن الدفاع يبخل على الجمهور من القانونيين والمواطنين العاديين بالمشاركة في تأسيس رأي قانوني لحل هذا الإشكال القانوني ، بل إنه بعد هذا التسليم الضمني يعود في النقطة الخامسة للتمسك بحصانة ليؤكد أن (توقيف ومتابعة السيناتور خرقت مبادئ الحصانة البرلمانية) لنخرج بخلاصة مفادها أننا لم نعرف هل الدفاع من جهة ومجلس الشيوخ يرى أن (السلطة القضائية لا يمكنها متابعة عضو في البرلمان ضبط متلبسا بجريمة) وتهنا في متاهات شماعة الاستهداف الشخصي بينما كان رأي النيابة واضحا من الناحية النظرية (تمت متابعة الشيخ باعتباره مواطنا عاديا ضبط في مسرح جريمة تشير المعطيات إلى أنه متلبس بها ويمكن متابعته لأن حصانته معلقة في حالة التلبس).

 

بقي جزء بسيط يتعلق بحرية المتهم وقد يكون الأهم في نظر العامة بينما في نظر القانونيين تعتبر المتابعة هي الأهم لأنها قد ينجر عنها اتهام ثم حكم في الأصل بعقوبة سالبة للحرية بشكل نهائي بينما يبقى إجراء تقييد الحرية الأولي احترازيا حيث رخص المشرع في تقييد الحرية ولمصلحة البحث والتحقيق ولأن الحرية هي الأصل فإن هذا الأصل لا يقيد إلا بشروط وقد وضع المشرع شروطا خمسة ومنح السلطة التقديرية للقضاء في تقييم مدى وجودها لتقييد حرية الأفراد وكان على دفاع المتهم نقاش هذه الشروط ومحاججة النيابة في مدى توافرها أو توفر أحدها في المتهم ويستفيد المتهم إذا كانت لا تتوفر تلك الشروط ويستفيد بمقتضى ذلك من التمسك بحريته، وهي الأصل، الذي لا يخرق إلا إذا توافر شرط تقييده.

 

أو على الأقل نقاش هذه الشروط في بياناتها مع الرأي العام أو نقاشها مع القانونيين لكي لا تنتهي هذه المعضلة حتى تؤسس لما بعدها ونستفيد منها حتى في نقاش أمور أعمق منها ولفت المشرعين إليها وتتعلق بثغرات جوهرية في منظومة الحبس الاحتياط حيث يتم بواسطة بطاقة إيداع يتيمة تأتي في قوانين من أخذت عنهم قوانيننا تطبيقا لقرار مسبب يراعي شروط الحبس الاحتياطي يسمى (الأمر بالوضع في الحبس الاحتياطي) ويمكن للمتهم استئنافه وستتحقق غرفة الاتهام من مدى قانونيته عبر مراعاته لشروط الحبس الاحتياطي، أما في بلادنا فالحبس يتم عبر بطاقة إيداع – لا سابقة لها ولا لاحقة - وطبعا لا يمكن استئنافها لأنها ليست قرارا بالمعنى القضائي رغم أن المادة: 186 من قانون الإجراءات الجنائية تعدد من بين الأوامر التي يحق للمتهم ومحاميه طلب استئنافها (الأوامر المتعلقة بالحبس الاحتياطي للمتهم) لكن الواقع العملي يفرض شيئا آخر وهو أن البطاقات لا تستأنف لذا لا بد أن نستفيد من هذه الفرصة للفت انتباه السلطة التنفيذية والتشريعية إلى هذه الجزئية والثغرة المتعلقة بصون حقوق وحريات الأفراد وهي غياب النص في إجراءاتنا على (الأمر بالوضع في الحبس الاحتياطي) وإيجاد قاض مستقل عن التحقيق هو الذي لديه صلاحية إصدار هذا القرار يدعى قاضي الحريات كما في القانون الفرنسي الذي استأنسنا به في قوانينا وهنا أحيل إلى دراسة أجراها مجلس الشيوخ الفرنسي حول حقوق المتقاضي والحبس الاحتياطي وهي منشورة على موقعه.