على مدار الساعة

في ضيافة البراني

4 سبتمبر, 2021 - 06:33

"سأقتلك.. وصلت الرسالة المؤلفة من أربع مفردات إنجليزية إلى هاتفه قديم الطراز مصحوبة برنين مزعج أخرجه من سانحة التأمل، لم يكن ليأخذها على محمل الجد، لولا أن مرسلها مجهول الهُوية…"

 

هكذا استهلّ الروائي أحمد ولد إسلم روايته "البراني" التي قد يمتلك القارئ خيار قراءتها وقتما شاء، وقد يضعها على رفّ القراءات المؤجلة.. لكنه ما إن يبدأ في تصفحها حتى تأسره بتعدد خيوطها وتشابك أحداثها، وقدرة كاتبها على إيصال عدد كبير من الرسائل المختلفة إلى جانب الرسالة الرئيسية.

 

لو عدنا إلى أول سطر في هذه الرواية نجد الكاتب يحتفي بقدرة اللغة العربية على اختصار الأفكار والمعاني في أقل عدد من الكلمات، مقارنا بين كلمة "سأقتلك" وترجمتها الإنجليزية "I will kill you" حيث احتاجت اللغة الإنجليزية إلى أربع مفردات لتأتي بما أتت به اللغة العربية في كلمة واحدة.

 

كانت تلك رسالة سريعة على الهامش.. قبل أن يمخر بنا ولد إسلم عباب الأطلسي، في رحلة ستغير واقع العالم، قبل أن تغير حياة المسافرين على متن قارب بسيط يبدأ رحلته من الشواطئ الموريتانية، وينهيها بوفاة أغلب راكبيه على شواطئ ما سيصبح مدينة "فيوتسيتي" وجهة العقول العالمية، وأكثر المدن رخاء على وجه الأرض.

 

ينجو بطل الرواية مختور ولد أحوبيب من عملية سطو تعرض لها في بداية رحلته السياحية التي لن تكتمل.. ينجو بلا ذاكرة، فهو لا يعرف عن ماضيه شيئا سوى ذلك الاسم الذي وُجد مكتوبا على ورقة لا أحد يعرف قصتها.. ولكنّ الله عوضه عن تذكر الماضي بحفظ أي شيء تقع عليه عينه، تلك الموهبة التي ستكون سببا في نجاة العالم من أخطر هجوم إلكتروني عرفته البشرية.

 

يأخذنا مختور بين موسكو وانواكشوط والنعمة، ومن ثَمّ إلى مدينة "فيوتسيتي" حيث يعمل بطل الرواية في مؤسسة إعلامية لا تتأثر بسلطة الحكومة، ولا سطوة المجتمع، ولا ضغوط الممولين.. وتلك رسالة أخرى على الهامش.

 

يظهر "البراني" في منتصف الرواية تقريبا، وقد يُفهم من اسمه أنه أحد سكان مدينة فيوتسيتي الذين ينحدرون من بلاد مختلفة.. لكن الاسم يحيل إلى معنى اصطلاحي، فهو أحد مفردات الموسيقى الموريتانية الحاضرة بقوة في الرواية، شأنه في ذلك شأن "ما يخرص" الروبوت الذي عصى أوامر مختور فصنع "البراني" ليخرج عن سيطرته ويصنع الروبوت "انتشرش" قبل أن يتسبب بفوضى عارمة كادت تدمر العالم.

 

حضور "أزوان" في الرواية لم يقتصر على هذه المصطلحات فحسب، بل تعانقت الأصالة والمعاصرة في رواية البراني حين حول مختور لغة أژوان التراثية إلى أحدث ما توصلت إليه التقنية من لغات البرمجة، مستفيدا من عبقريته التي يواريها بعمله في مجال الصحافة، وهدوئه الذي يطرح العديد من التساؤلات، فكيف يعقل أن ينحدر من منطقة "النعمة" وأن يكون "كسكس" وجبته المفضلة، و "أتاي المجهد" مشروبه الأثير، ومع ذلك يتعامل بكل برود وهدوء مع أكثر الأحداث إثارة للأدرينالين؟

 

"اسمي يالوندا أغانينوفا وقد وعدتك قبل 20 عاما بالاحتفاظ بهذا القلم"

 

هكذا عرفت الحسناء الروسية نفسها لمختور.. لتكون هي الشيء الوحيد الذي بقي معه من ماضٍ أضاعه كاملا بعد غيبوبة استمرت 7 أعوام، لم يكن الوقت مناسبا لاستعادة الذكريات الجميلة، فمدينة فيوتسيتي تشتعل.. لكن مختور ما زال محتفظا بالورقة التي خطت يالوندا عليها اسمه بنفس القلم، تلك الورقة التي ربطته بهويته الحقيقية، وأعادته إلى نفسه ودينه وثقافته.

 

ينطلق مختور في رحلة معاكسة من فيوتسيتي إلى مزرعته في الشرق الموريتاني، هناك حيث يعيث "البراني" فسادا في العالم عبر ثغرة رقمية مكنته من السيطرة على شبكة الإنترنت، وبعد صراع مرير يتمكن مختور من استعادة السيطرة، وتلبس يالوندا الملحفة.. ويسير كل شيء باتجاه الاستقرار "قبل أن يرنّ جرس التنبيه المزعج في هاتف مختور.. فتح مختور هاتفه ليجد رسالة نصية تقول: سأقتلك.. انترش. وبتلك الرسالة تنتهي رواية البراني.