كثف عصر المعلومات التعاملات وأصبح من المألوف تبادل السلع والخدمات دون لزوم الاتصال المباشر بين البائع والمشتري وعلى الرغم من مزايا السرعة فمن عيوبها أنها أقصت التثبت.. فسرعة الإبرام تفوت غالبا على المشتري فرصة تفحص الشيء المبيع قبل التعاقد وفي هذا السياق عـرض بائع، هـواتف نقالة، عبر الإنترنت، وبعد أن باع بعضها بالمزاد صدم أحد المشترين عندما تسلم هاتف الـ"آيفون"، المشترى، فوجد أنه مجرد مجسم ابلاستيكي لا حرارة فيه، فرفع القضية أمام المحاكم وعند مثول البائع دافع، عن نفسه، بإثبات أنه بين في إعلانه المنشور أن المادة المعـروضة، التي انعقد عليها البيع لاحقا، هي مجسم (تمثال مخصص للعروض) وأنه غير مسؤول عن عدم انتباه المشتري أو ضعف مستواه اللغوي: إذا لم يكن استوعب العبارة المستخدمة. أذكت هذه الوقائع النقاش بين القانونيين فدعا بعضهم إلى عدم مكافأة اللامبالاة. وكانت المحكمة الجزائية في مدينة ميتز الفرنسية خلصت في حكم، أصدرته منذ سنة 1982، إلى أنه: "لا ينبغي للقانون أن يهتم بحماية البلهاء".
ولدقة الالتزامات، يتعين على الأطراف الاهتمام بشكل ومضمون تفاهماتهم ومن مصلحتهم توخي الدقة وأن تكون يقظتهم في أقصى مستوياتها عند تحرير بنود العقود. ذلك أن أمثل طريقة لتجنب الغموض هي تمرير عقود واضحة في شكل لا غبار عليه.
وتشكل العقود الموثقة الضمانة العليا لاحترام الالتزامات. ونظرا إلى أن القانون ينظم عملية التوثيق فمن مسؤولية السلطات، التي تحدد شروط المعاملات وتقوم على مناخ الأعمال، أن تسهر على الاحترام الصارم للقواعد.
تنقسم العقود المتداولة عمليا إلى عقود عرفية: يوقعها الأطراف فيما بينهم، وحدهم أو بمساعدة مستشارين أو بحضور شهود. وعقود رسمية: تبرم أمام الموثقين "المكلفين باستقبال العقود والتصرفات التي يريد الأطراف إعطاءها الصفة الرسمية المميزة لأعمال السلطة العمومية وكذلك لإثبات التاريخ وحفظها وإصدار النسخ التنفيذية والمستخرجات.." (الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون رقم 019-97 الصادر بتاريخ 16 يوليو 1997 المتضمن النظام الأساسي للموثقين).
ولتوثيق العقود مزايا مؤكدة (I) مع أن الممارسة تبرز اختلالات في عملية التوثيق (II) أقترح بعض الحلول للتغلب عليها (III).
I. مزايا توثيق العـقـود
يحقق توثيق العقود أمانا وله مزايا عديدة: فالعقد، الذي هو شريعة المتعاقدين، يتم تعريفه بالتوثيق (1) ويحفظ في مكان آمن (2) والعقد الموثق بينة قاطعة وسند تنفيذي (3).
1. تنص الفقرة الأولى من المادة: 247 من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني (الأمر القانوني رقم 89-126 بتاريخ 14 شتنبر 1989) على أن: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون".
وبمقتضى هذه الفقرة تطبق بنود العقد بين الأطراف قبل مقتضيات القانون بشرط أن لا تتضمن البنود مقتضيات تخالف قواعد القانون الآمرة، التي لا يجوز للأطراف الاتفاق على مخالفتها.
ويمكن التوثيق من تعريف العقد إذ يمنحه الموثق رقما وتاريخا، على غرار القانون. وبينما تحمل النصوص التشريعية تاريخ إصدارها يحمل العقد، الذي هو شريعة المتعاقدين، تاريخ إبرامه أمام الموثق.
ويضفي التوثيق على العقد (ثقة مضافة) تبعد عنه الشكوك.
2. وبفضل التوثيق يتم حفظ العقد مما يمكن الطرف الحريص في حال ضياع نسخته من الحصول على نسخة لدى مكتب التوثيق المودع لديه.
3. تشكل العقود الموثقة بينات قاطعة ما لم يطعن فيها بالتزوير ويعدها القانون ضمن السندات التنفيذية، في نفس رتبة القرارات القضائية النهائية.
تنص المادة 56 من القانون المتضمن النظام الأساسي للموثقين على ما يلي: "تشكل العقود بينة قاطعة أمام العدالة على الاتفاق الذي تضمنته بين الأطراف المتعاقدين وورثتهم وهي قابلة للتنفيذ على امتداد التراب الوطني.
إلا أنه عندما يوجد طعن بالتزوير يتوقف العمل بالعقد المدعى تزويره بأمر الإحالة أو الاستدعاء أمام محكمة الجنح.
وفي حالة الطعن بالتزوير الفرعي تطبق المحاكم مقتضيات قانون المرافعات المدنية".
وتنص الفقرة الأخيرة من المادة: 298 من قانون المرافعات المدنية والتجارية والإدارية (القانون رقم 99-035، بتاريخ 24 يوليو 1999) على ما يلي:
"تكون نافذة بعد تسجيلها وتحليتها بالصيغة التنفيذية:
1. الأحكام المصرح بتنفيذها مؤقتا،
2. الأحكام غير القابلة للطعون العادية،
3. العقود الموثقة ومحاضر المصالحة وغيرها من السندات التنفيذية".
وبإصدار القضاة المختصين أوامر بالتنفيذ الجبري للعقود الموثقة ينجون الطرف الحريص من مسطرة النزاعات القضائية الطويلة، المكلفة والمعقدة. ولكي تكتمل القوة القانونية للعقد الموثق يجب أن يكون سليم الشكل جلي المضمون. ومن الأشكال الجوهرية أنه يتعين تحرير الـعـقـود الرسمية في موريتانيا بالعربية التي هي اللغة الرسمية، بنص المادة: 6 من دستور الجمهورية.
وقد ألزم القانون الموثقين بشرح الالتزامات والعناية بترجمتها للأطراف الذين لا يتحدثون اللغة العربية: إذ تنص الفقرة الأولى من المادة: 45 من القانون المتضمن النظام الأساسي للموثقين: "يجب في كل الحالات التي يكون فيها أحد الأطراف أو الشهود لا يتكلم اللغة الرسمية التي تحرر بها الوثيقة أن يوجد إلى جانب الموثق مترجم محلف يشرح العمل الذي يجري تحريره ويترجمه حرفيا ويوقع بوصفه شاهدا إضافيا. التوقيعات التي قد تكتب بحروف أجنبية يشهد المترجم ويوقع على صحة كتابتها في نهاية الوثيقة".
ومؤدى هذه الفقرة أنه ليس للموثقين، بصفتهم مأمورين عموميين، توقيع العقود المحررة بلغات أجنبية كما تجب عليهم العناية بترجمة بنود العقود للأطراف الذين لا يستوعبون اللغة الرسمية.
ونلاحظ، في الواقع، نواقص في عملية توثيق العقود نفصلها في الفقرة الموالية.
II. اختلالات التوثيق
كثيرا ما كان توثيق العقود الرسمية في موريتانيا مشوبا ببعض التجاوزات:
فالموثقون لا يتقيدون دائما، في تحريرهم للعقود، باللغة الرسمية، إذ أن جل الأنظمة الأساسية المنشئة للشركات الموريتانية عقود مستنسخة من نماذج أجنبية، محررة في الأصل باللغة الفرنسية. هذه العقود غير النظامية، من حيث الشكل، يتم إنتاجها أو إيداعها في مكاتب الموثقين الذين يتكفلون غالبا بتسجيلها لدى المصالح المختصة لوزارة المالية.
وغالبا ما لا يبذل بعض الموثقون عناء في قراءة العقود، أحرى ترجمة بنود النظم الأساسية للموقعين، ويشكل هذا الإغفال مخالفة للفقرة الأولى من المادة: 45 من القانون المتضمن النظام الأساسي للموثقين. والأدهى من ذلك كله أن بعض الموثقين يوقع عقودا لا يدرك فحواها لأنه لا يجيد اللغة الفرنسية.
إن عدم مراعاة مقتضيات المادة: 45 من القانون المتضمن النظام الأساسي للموثقين يرتب بطلان العقد وحتى إن وقعه جميع الأطراف فإنه يفقد طابعه الرسمي ويستحيل ورقة عرفية: إذ تنص المادة: 60 من القانون المتضمن النظام الأساسي للموثقين على ما يلي: "كل وثيقة أو عقد تم بشكل مخالف لمقتضيات المواد: 5، 36 إلى 39، 41، 44، 45 يعتبر باطلا ما لم يحل بتوقيعات كل الأطراف غير أن العقد يعتبر بمثابة ورقة عرفية إذا حلي بتوقيعات جميع الأطراف المتعاقدة".
يتم إيداع عقود إنشاء الشركات المذكورة، التي تكون غالبا فرنسية اللغة، لدى كتابات ضبط المحاكم التجارية، للحصول على السجل التجاري الذي يكسب الشركة شخصية اعتبارية.
ويتقبل قضاة المحاكم التجارية، المكلفين برقابة السجل التجاري المحلي، إيداع الأنظمة الأساسية غير النظامية (المحررة بلغة غير رسمية) لدى المحاكم المختصة.
أما السجل التجاري المركزي، المقرر ضمن مصالح وزارة التجارة والصناعة، فيلاحظ أنه غير موجود في الواقع. وقد نبهت مجموعة البنك الدولي، في تقرير صادر عنها في نوفمبر 2018، إلى عدم تفعيله.
وبغض النظر عن الأبعاد القانونية، من الثابت أن غالبية الموريتانيين لا يجيدون اللغة الفرنسية ولأنهم لا يعذرون بجهل فحوى البنود، التي يوقعون عند إنشاء كل شركة، فمن المناسب استخدام الأداة اللغـوية الأكثر ملاءمة.
ويلاحظ أن التجاوز في توثيق العقود ليس من مسؤولية الموثقين وحدهم وإنما يشمل قضاة النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف، الأوصياء على عمل التوثيق، الذين يملكون إحالة الموثق للتأديب دون شكوى وقضاة المحاكم التجارية، الذين يتحملون، بمقتضى المادة: 30 من المدونة التجارية، مسؤولية الإشراف على مسك السجل التجاري.
واعتبارا للمثل الشعبي القائل إن على المنتقد أن يقترح بديلا، أختم هذه المعالجة بوصف بعض الحلول.
III. الحلول
أمهد باقتراح حل مؤقت (1) قبل تقديم توصية الحل النهائي (2).
سعيا للتغلب على الخلل وسد النقص القانوني المبين أعلاه، بادرت بصياغة نماذج نظم أساسية للشركات التجارية الغالبة، مطابقة للقانون الموريتاني شكلا ومضمونا وملائمة للمتطلبات السائدة في علاقات الأعمال.
وأنشر هذا المقال بعد إكمال صياغة بنود النظم الأساسية المزدوجة لشركات المساهمة وللشركات ذات المسؤولية المحدودة. وقد حررت النماذج المقترحة باللغتين العربية والفرنسية: باعتبار العربية اللغة الرسمية، بموجب المادة: 6 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية ولكون الفرنسية هي الغالبة في قطاع الأعمال. وعلى غرار النمط المتبع في هذا المقال تم ترتيب البنود المماثلة متناظرة ومتوازية على نفس الصفحة.
وتحقق الصيغة المقترحة هدفا مزدوجا حيث يكتسي العقد، المحرر باللغة الرسمية لبوسه الشرعي الرسمي، مما يجعله مقبولا لدى السلطات الوطنية ويسهل فهم غالبية مواطني البلد لمحتوياته كما يتيح إدراج البنود المقابلة باللغة الفرنسية، لمن يهمهم الأمر، العمل بانسجام وبالطريقة المعتادة مع القطاع الخاص.
ويتألف النظام الأساسي المتناظر المقترح لشركات المساهمة من زهاء أربعين مادة قابلة للطباعة، بشكل مقروء، على خمس عشرة صفحة من الورق المستخدم بينما يتألف مشروع النظام الأساسي المقترح لشركات المسؤولية المحدودة من نحو ثلاثين مادة قابلة للطباعة على أقل من عشر صفحات. وجدير بالملاحظة أنه يمكن تقليص وزيادة بنود النظام الأساسي حسب طلبات الأطراف.
ومع أن الصيغ المقترحة تتطلب التحسين، ككل عمل بشري ابتدائي، فإن القارئ المستنير سيخلص إلى أن هذا العمل ليس مجرد ترجمة بسيطة للنظم الأساسية المتداولة بل إنه عمل صياغة مركب لم يستبعد تضمين وترجمة الصيغ الدارجة وتضمن اقتباسات وصياغة للمقتضيات التنظيمية المعمول بها.
وقد تطلب إعداد النظم المذكورة، بعد تصور فكرتها، عملا تحريريا وطباعة واستدعى تنسيقه وضبطه جهودا فنية لا يستهان بها، مما ينضاف لجدة العمل ويجعلني أعتقد أنه يتضمن العناصر المطلوبة لاعتباره منتجا فكريا يحق لمنتجه التمسك بالحقوق المادية والمعنوية المرتبطة به. إذ تنص المادة: 3 من القانون: 2012 – 038 الصادر بتاريخ: 17 يوليو 2012 المتعلق بالملكية الأدبية والفنية: "يمنح كل صاحب إيداع أصلي لمصنف أدبي أو فني الحقوق المنصوص عليها في هذا القانون. تمنح الحماية مهما يكن نوع المصنف ونمط تعبيره ودرجة استحقاقه ووجهته، بمجرد إيداع المصنف، سواء كان المصنف مثبتا أم لا بأية دعامة تسمح بإبلاغه إلى الجمهور".
وتضيف المادة: 5 من نفس القانون: "تعتبر أيضا مصنفات محمية الأعمال الآتية: أعمال الترجمة والاقتباس والتوزيعات الموسيقية والمراجعات التحريرية وباقى التحويرات الأصلية للمصنفات الأدبية والفنية".
2. وسعيا لتحسين مناخ الأعمال أوصي المصالح المختصة في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن تعمل على:
أ. سن مدونة للتوثيق تحدد مساطره وتنظم، من بين أمور أخرى، الإيداع بحيث يتم التمييز بين الإيداع الموثق الذي يشترط حضور الأطراف أمام الموثق وتذكيرهم حضوريا بالتزاماتهم المدرجة في السند موضوع الإيداع والإيداع البسيط الذي يمكن أن يقوم به أحد الطرفين أو حتى شخص من الغير ويثبت تاريخ الوثيقة المودعة دون أن يمنحها صفة السند التنفيذي.
ب. أن تقترح على الفاعلين الاقتصاديين نظما أساسية نموذجية للشركات التجارية. وأوصي بصيغة ثلاثية اللغة تقسم كل صفحة منها إلى ثلاثة (3) أعمدة: بحيث تدرج البنود العربية في العمود الوسطي باعتبارها اللغة الرسمية وفي الجانبين عمودان أحدهما مخصص للبنود باللغة الإنجليزية التي تعد اللغة الكونية للأعمال وآخر مخصص للبنود الفرنسية التي لا تزال لغة الأعمال المستخدمة في شبه المنطقة.