على مدار الساعة

إجراءات السلامة في السنة النبوية

8 أكتوبر, 2021 - 11:07
محمد الحافظ دياها

يقول خبراء السلامة إن أرباب العمل ملزمون بتوفير أماكن وآليات عمل آمنة، لثلاثة أسباب: أخلاقية وقانونية واقتصادية.

 

فالسبب الأخلاقي هو حق العامل في أن يحصل على وظيفة يكسب منها قوته دون الحاجة إلى أن يخاطر بحياته، ودون أن يكون بين خيارين إما أن يموت جوعا أو أن يموت مصابا في مكان عمله، لذا فإن رب العمل ملزم أخلاقيا بالحفاظ على سلامة العاملين عنده، ومن حق العامل أن يرجع إلى أسرته سليما كما خرج من عندهم، كما أن من حقه صرف راتبه في مأكله ومشربه وملبسه لا على استعادة صحته.

 

أما من الناحية القانونية، فالقانون يُلزم رب العمل بحماية عماله من المخاطر التي قد يتعرضون لها أثناء تأديتهم لواجباتهم، فعليه توفير مكان عمل آمن، كما أنه ملزم بأن يوفر – دون مقابل مادي - أدوات الحماية الشخصية كالخوذ الحامية للرأس والقفازات والنظارات والأحذية وغيرها، متى كانت طبيعة العمل تستلزم ذلك، فإن لم يوفرها كان عرضة للملاحقات القانونية، وربما يتعرض للتغريم والحبس إذا تضرر عامل أثناء خدمته، ففي استراليا – مثلا - إذا توفي عامل إثر حادث عمل، فإن رب العمل يحبس حتى تنتهي التحقيقات، فإن تبين أن التقصير من العامل أخلي سبيله، وإن كان الحادث نتيجة تقصير من الشركة كعدم توفير التدريب اللازم أو أدوات الحماية أو ما شابه ذلك عوقب رب العمل، وربما صودرت شركته.

 

أما الأسباب الاقتصادية، فتصب – جميعها - في مصلحة رب العمل نفسه، إذ أن الحوادث بما ينتج عنها من أضرار مادية وإصابات للأشخاص وتعطل للآليات تضر برب العمل اقتصاديا، إذ عليه أن يصلح الأعطال، وربما تتلف الآلية فلا يجد بدا من استبدالها، كما أنه ملزم بمعالجة العامل إذا أصيب أثناء عمله، وقد يتغيب بداعي الإصابة فيتحول إلى عبء اقتصادي بدلا من عنصر منتج، وقد يضطر رب العمل إلى جلب عامل آخر لتأدية وظيفة العامل المصاب، وقد يستوجب ذلك توفير تدريبات مستعجلة للعامل الجديد ليتمكن من تأدية عمله.. كل ذلك سيكون مكلفا لرب العمل، هذا بالإضافة إلى احتمال تضرر سمعته، وما قد ينتج عن ذلك من عزوف المتعاملين عن التعاقد معه.

 

وهذه كلها – كما لا يخفى – أسباب وجيهة لرب العمل للعناية بسلامة عماله وآلياته ومكان عمله.

 

غير أننا – وبالإضافة إلى الأسباب السابقة – نجد أنفسنا بوصفنا مسلمين مدفوعين بدافع آخر للحفاظ على سلامتنا وسلامة عمالنا إن كنا أرباب عمل، وذلك بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه، فقد كان صلى الله عليه وسلم كما أخبر عنه ربه سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم حرصه على سلامة الناس، وقد جعل الحفاظ على الأنفس من الكليات الخمس، وبين ذلك إجمالا وتفصيلا.

 

إجمالا:

  1. لا ضرر ولا ضرار

من أعظم قواعد الإسلام التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة "الضرر يزال"، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وهي عامة في كل ضرر سواء كان نفسيا أو بدنيا أو ماليا أو غير ذلك، فيدخل في ذلك كل ما من شأنه أن يلحق الأذى بالنفس أو بالآخرين، وحري بنا ونحن نفخر بانتسابنا إلى هذا الدين العظيم، وننظم أنفسنا في سلك أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، أن نضع هذه القاعدة نصب أعيننا، فكم من ضرر نراه بين أظهرنا ونرى نتائجه الكارثية علينا وعلى إخواننا دون أن نزيله كما أمر بذلك الشرع الحنيف!.

 

كم نفسا أزهقت على الطرقات بسبب رداءتها وسوء صيانتها؟.. أليس هذا من الضرر البين الذي يجب أن يزال؟!.. فما بالنا لا نلقي له بالا؟!.. دع ما ذكره خبراء السلامة وتقدم ذكره من الأسباب القانونية والأخلاقية والاقتصادية، فأين نحن مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؟..

 

وعلى هذا فقس، فإنك لا تكاد تخطو خطوة داخل هذا البلد إلا ومر بك "خطر" يمكن أن يؤدي إلى تلف أنفس أو ممتلكات أو غير ذلك، وقد رأيت في بعض الطرقات حفرا كبيرة تستخدمها بعض الشركات، فإذا انتهت تركتها كما هي دون ردم، أو حتى تنبيه، وقد وقعت فيها بعض السيارات وتعرضت للتلف، مما يشي بفقدان تام للمسؤولية والمهنية من طرف أولئك الذين تسببوا في هذه الحوادث.

 

  1. إماطة الأذى عن الطريق

جعل صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى – أي أذى – عن الطريق صدقة تقرب صاحبها من الله عز وجل، وجعل ذلك من الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، فالأعمال الصالحة ومنها إماطة الأذى عن الطرقات داخلة في مسمى الإيمان، فحري بمن ينتسب إلى الإيمان أن يحرص عليها ليكمل إيمانه.

 

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر طريق كانت تؤذي المسلمين"، وقال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له"، وأي شيء أحب إلى المرء من أن يغفر الله له ويدخله الجنة فيتقلب في نعيمها كيف شاء؟!.

 

هذا في من نحى غصن شوك، والشوك عادة أمره هين حتى إنه ليضرب به المثل لصغر أمره، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. وقول الصحابي الجليل الشهيد السعيد خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو يعبر عن بعض ما في قلبه من محبة النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سأله كفار قريش أتحب أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) هنا بدلا منك - فقال - ونعم ما قال - : "والله ما أحب أني بين أهلي ومحمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تشوكه شوكة"، فحتى الشوكة على صغرها لا ترضى نفسه الأبية المحبة أن يصاب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فإن كانت إزالة هذا الشوك الصغير تدخل صاحبها الجنة، فما بالك بإزالة الأسلاك الكهربائية الخطرة المنتشرة، والتي تعج بها بعض الأحياء السكنية؟، وما بالك بردم الحفر التي يقع فيها المارة والسيارات والحيوانات، فيتضرر الناس وتتلف عرباتهم وسياراتهم؟، وما بالك بأكوام القمامة المتراكمة والتي تضر بالصحة وتشوه منظر المدينة؟.

 

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه جعل الإضرار بالناس قرينا للشرك بالله، وكفى بهذا منفرا.

 

تفصيلا:

أما على سبيل التفصيل، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن أشياء بعينها لما قد يترتب عليها من ضرر، فمن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينام المرء على سطح ليس بمحجور عليه، وقد ورد الحديث بألفاظ منها: "من بات على ظهر بيت ليس له أحجار، فقد برئت منه الذمة"، وفي كل ذلك تنفير من هذا الفعل الذي قد يؤدي إلى سقوط المرء أثناء نومه.

 

وقد تعارف خبراء السلامة على تسمية وضع الحواجز المانعة للسقوط – وأشباهها من الإجراءات الاحترازية – بالإجراءات الهندسية، والتي تحل في المرتبة الثالثة في التسلسل الهرمي للسيطرة على المخاطر، وهذا التسلسل الهرمي كما يلي:

  • إزالة الخطر بشكل كلي أو إلغاء المهمة.
  • استبدال الآلة الخطرة بأخرى أقل خطورة.
  • الإجراءات الهندسية كوضع الحواجز وغيرها.
  • الإجراءات الإدارية كالتدريب والإشراف وغير ذلك.
  • ارتداء أدوات السلامة كالخوذ والقفازات وأحزمة الأمان والنظارات وما شابه ذلك.

وتعد الإجراءات الهندسية من أكثرها تطبيقا نظرا لتعذر الخيارين الأولين في كثير من الأحيان.

 

ومن الإجراءات التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم التأكد من إطفاء النيران قبل النوم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون"، فالنار إذا أشعلت لهدف ما لابد لها من رقيب حتى لا تنتشر أو يتطاير منها الشرر فيحرق المكان أو ما جاوره، وهذا ما يعرف في مجال السلامة بمراقب النيران Fire Watch  ، ووجوده حتم قبل بدء العمل وبعد انتهائه، ليتأكد من أن النيران أطفئت تماما.

 

ومما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يحذر المرء من إلحاق الضرر بغيره إن كان يحمل في يده شيئا حادا، فقد قال صلى الله عليه وسلم "إذا مرّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل، فليمسك على نصالها بكفه أن تصيب أحدا من المسلمين بشيء، أو فليقبض على نصالها"، قال النووي رحمه الله: (فيه اجتناب كل ما يخاف من الضرر) اهــ ، هذا في حق المار فقط الذي لا يريد أن يؤذي أحدا وإن وقعت أذية فعن غير قصد منه، وأما "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه"، قال النووي رحمه الله: (يستوي في ذلك الهازل والجاد والمتهم وغير المتهم).

 

كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن "الخذف"، وقال: "إِنه لا يقتل الصيد، ولا ينكأ العدو، وإنما يفقأ العين، ويكسر السن"، والخذف أن يضع الإنسان حصاة بين السبابة والإبهام، فيضع على الإبهام حصاة يدفعها بالسبابة، أو يضع على السبابة ويدفعها بالإبهام، وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم مُشَرِّعا بذلك "الخيار الأول" من خيارات التسلسل الهرمي لإدارة المخاطر، وهو " الإزالة" والتخلص من مصدر الخطر لا مجرد محاولة احتوائه.

 

وأختم بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ظاهر بين درعين قبل خروجه لأُحُد، وذلك لحماية نفسه من سهام العدو ومن سيوفهم ورماحهم، فكان هذا تشريعا لنا أن نرتدي من وسائل السلامة ما نحتاجه لحماية أنفسنا من المخاطر التي قد نتعرض لها، فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة.

 

وصلى الله وسلى على سيدنا محمد.