على مدار الساعة

كيف هزمت القصيدة ضباط FBI؟ قراءة في ديوان (جراح الروح) لمحمد المختار الشنقيطي

8 أكتوبر, 2021 - 22:22
الشيخ أحمد ولد البان

​"لست أدري من أين أبدأ بوحي"، كما قال نزار قباني، فأنا أمام نص ملتبس الهوية الأدبية، هل هو ديوان شعري أم مذكرات ثقافية أم هما معا؟ أم هو جنس أدبي آخر؟ هل الديوان ملحق بالمذكرات أم المذكرات ملحقة بالديوان؟
لا مناص من الانخراط في ثورة فيكتور هيجو على نظرية الأجناس الأدبية التي أرسى أرسطو مبادئها، وحولها الكلاسيكيون إلى صنم يعبد، سأعتبر ما بين يدي (المذكرات والقصائد) جنسا أدبيا جديدا، في نظري هذا هو المدخل الصحيح لقراءة ديوان (جراح الروح) مع (المذكرات الأدبية) للشنقيطي، الصادر هذه الأيام عن دار وسم للمعرفة والثقافة.

 

​هذا الالتباس الذي صنعه العنوان تجلى واضحا في اللغة أيضا، اللغة الشعرية التي كتبت بها المقدمة النثرية تشعرك منذ الصفحة الأولى أنك بدأت فعلا قراءة الديوان؛ وأنت ما تزال في بداية المذكرات، ولولا العنوان الفاصل بينهما لما أحسست بالانتقال إلى القصائد، ستبدو لك جراح الروح من البداية الأولى، وسيظل الجرح يقطر على امتداد المائة والثلاثين صفحة نثرا وشعرا، جرح طفل البادية العنيد، وجرح الشاب الطُّلعَة الذي يتابع نزيف دم إخوته في القدس وسراييفو ووو، وجرح الرجل المنتمي لحضارة تملك مقومات نهوضها، ولكنها ما تزال كابية.

 

أعود إلى مسألة الالتباس، في المذكرات أنه سافر من غرناطة إلى قرطبة من أجل قراءة نص شعري في مسجدها العريق؛ أو ليس ذلك قصيدةً أخرى! هل الشعر إلا تلك اللحظة الحالمة التي تسيطر علينا فنظن أن الكلمات تملك طاقة أقوى من الديناميت! نعم، هو كذلك.

 

وفي المذكرات أيضا أنه رفض بعزة المؤمن وإباء ابن الصحراء إغراءات أكبر المؤسسات الاستخبارية في العالم (FBIوDIA) أليس هذا الشموخ في زمن الانكسار قصيدةً أخرى موغلة في الرومانسية العابدة، رفض كان ثمنه الحرمان من الجنسية الأمريكية.

 

النفس الحرة التي دفعت الكاتب/الشاعر للتغلب على الإغراءات التي سقط في فخاخها كثيرون؛ هي التي جعلته يدفن ذلك "الحب العظيم" في مدينة لعيون رغم نزوعه الشديد نحوه (ذكريات، نواكشوط، موريتانيا، 1992).

 

في المذكرات الأدبية ما يفسر كثيرا من طبيعة الرفض الكامنة في نفس الشنقيطي، فقد فتح عينيه على مجتمع ما تزال أغانيه الشعبية تمجد بطولات مقاوميه للمستعمر الفرنسي، ومن أشهر ذلك الأغنية الشعبية:

 

عَنَّكْ يَا السِّلْكْ**امْشِ گولْهَا 
عَنَّكْ يَا السِّلْك** امْشِ گولْهَا
لِخْوَيْبَ اخْلَاتْ**وانْگطَعْ مُولْهَا
وِلَا بِتْنَاتْ** انْوَلُّولْهَا

 

ومعناها: (اذهبْ أيها الخط]خط التلغراف[ وقلها]للفرنسيين[ فالبرج قد تهدَّم وقُطِع دابره، وإذا أعيد بناؤه فسنُعيد الكرَّة عليه)، فهذه الأغنية تمجد عملية جريئة استطاعت فيها المقاومة قطع خيوط التلغراف الفرنسية في الحوض الشرقي، وكان الأطفال يترنمون بتلك الأغاني فتترك في نفوسهم كثيرا من العزة النفسية والاعتزاز الديني.

 

بدا الشنقيطي في جراح الذاكرة شاعرا وناقدا، وكانت خطته في الإفلات من قبضة النقاد ذكية جدا، قال عن شعره وديوانه وقصائده وروافده الأدبية كل الذي يمكن أن يقال، لم يترك لنا معاشر المعتاشين على تفكيك الكلام أي مسرب ندخل منه.

 

كل الروافد الأدبية التي ذكرها الكاتب/الشاعر في مذكراته الأدبية التي صدَّر بها الديوان بدت واضحة في القصائد؛ إحالات إقبال الحضارية (ويفني الليل والظلماء إلا ليلة القدر)، ورمزيات إيليا أبي ماضي الفلسفية:

 

أيها الساعون في أرض الخطر
في انتجاع للمراعي والمطر
أو لا يتعبكم طول السرى؟ل
أو لا يرهقكم طول السفر؟
وحدائق الشابي الأنيقة والحزينة: 
فمن يسطيع أن ينهى عن الشدو أو النقر
ملايين العصافير!
ومن يسطيع أن يكتم أنفاسا من العطر
على شفة الأزاهير!

 

لكن هذه الروافد جميعها لم تطمر ملامح الصحراء الثاوية في تلافيف روح الشاعر؛ عمق ليلها، ألق فجرها، هول امتدادها، حرية براريها، تلك الصحراء التي لم تفارقه حتى في حواري وأضواء مدينة لباك الأمريكية، فناجى الصقر، رمز حرية الصحراء (الصقر الجريح، لباك، الولايات المتحدة 2004).

 

ومع كل هذه الروافد المتنوعة ظلت روح سيد قطب الشفيفة متناثرة على طول النص (المذكرات والديوان)، يمكن للعارف به أن يأخذها بالمنقاش واحدة واحدة، فالكاتب لم يستطع عاطفيا التخلص من سطوة الشهيد، رغم مناقشته الفكرية له في أكثر من موقف.

 

ذكر الشاعر تردده بين ثلاثة عناوين لديوانه (الفجر الصادق-دموع الندى-أغاني الحجاز)، ثم استقر الرأي على (جراح الروح)، وهو عنوان بالغ الرمزية، وقد بين الكاتب في مذكراته الأدبية أنه استقى هذا العنوان من مقولة جلال الدين الرومي: "إن الجرح هو النافذة التي يدخل منها النور إليك".

 

أما العنوان الموضوعي للديوان فهو (الفجر الصادق) ذلك بأن مشاعر ارتقاب الفجر غالبة فيه، ولا تكاد قصيدة فيه تسلم من كلمة (الفجر) أو (النور)، وهما مفردتان بينهما دلالة سياقية كما يقول اللسانيون، هاتان المفردتان منحتا (جراح الروح) دلالتها المقصودة، أي النافذة التي يدخل منها النور، وغطت على لون الدم واليأس المنبعث من كلمة (الجرح).

 

تبدو تجربة "لِعْيُونْ" الشعرية عاتية، ولم يكتب الشاعر بعدها فيما يبدو قصائد غزل حقيقية، سوى قصيدة (شذى) المكتوبة في عينتاب 2014 فقد استعاد فيها الشاعر ألق تجربته الوجدانية، وعاد لنا ذلك الروح الشفيف الذي تحمله قصائد "لِعْيُونْ" الغزلية.

 

ولا يخفى على قارئ الديوان أن قصائد "لِعْيُونْ" بها شاعرية خاصة، فالقصائد الثمان التي كتبت فيها كانت مفعمة بالفيض الشعري (يوسف وإخوته، قصيدة، ظلال، ذكريات، أشواق قدسية، القدس والإعصار، الليل)، يمثل هذا العدد أكثر من ثلث الديوان، وهي مع اختلاف موضوعاتها لها روح شعري واحد، لا يخفى على ذي بصيرة، فأشواق القدس وأحزان الحب فيها يحملان الشجن ذاته، شجن الروح الجريحة بوصل دونه "راكدٌ فالضواجِعُ".

 

ولعل من الظلم الأدبي الذي وقع فيه الكاتب/الشاعر –وهو الذي نذر عمره لمقارعة االظلمة- تجنبه الحديث في مذكراته الأدبية عن مدينة لِعْيُونْ، وعن ذلك السر الثاوي بين صخورها، ذلك السر الذي ألهمه خير قصائده، وأوحى إليه بجامح الأخيلة وبديع الصور والمجازات.