على مدار الساعة

العدالة البطيئة أسوء أنواع الظلم

14 مارس, 2022 - 22:25
السيد ولد أمينو

اعتادت نخبنا السياسية على تمجيد رأس أي سلطة حاكمة ووصفه بأكمل الأوصاف حتى وإن كانت لا تصلح حقيقة إلا للخالق سبحانه وتعالى كالإطعام من الجوع والتأمين من الخوف،

 

 

وفور خورج رأس النظام من الحكم تتحول تلك الأصوات إلى ضدها، بل أبشع والغريب أنها من نفس الحناجر والأفواه التي كانت تمدحه، فيصبح من كان هو من أطعم من الجوع وأمن الخوف هو نفسه الذي أعم الفساد في البر والبحر وما بينهما.

 

 

تلك صعقة وصدمة قد يكون تعرض لها الرئيس السابقة 

"محمد ولد عبد العزيز" جراء هذا الواقع المتناقض سريع التقلب أفقدته التوازن وأثرت على تصرفاته.

 

 

 

يبقى الرئيس "محمد ولد عبد العزيز" رئيسا سباقا للدولة بكل ما تحمله الكلمة من رمزية وله إنجازات هامة في شتى المجالات لا يمكن نكرانها، فهو وإن كان متهما بالفساد فإن ذلك لا يبرر اضطهاده وتجاوز القانون بحقه. فظلم الظالم لا يبرر ظلمه.  

 

 

 

لست هنا لتبرير أفعال الرجل فتلك عملية قضائية خالصة. لكنه من المعلوم أن الجريمة ـ حتى وإن كان متلبسا بها ـ تبقى حقيقة قانونية، وقد رسم القانون الطريق واضحا وحدد المعايير للوصول لتلك الحقيقة وأي اختراق لتلك المعايير أو خروج عن الطريق المرسومة، يجعل الحقيقة المتوصل إليها ليست ذات مصداقية.

 

 

 

لقد شابت المتابعة القضائية للرئيس السابق خرقات قانونية جمة منها:

  ـ أن إجراءات متابعته بدأت بإجراء مشكوك في دستوريته وهو التحقيق البر لماني فلم ينص الدستور على أحقية السلطة التشريعية في إجراء تحقيق من هذا النوع، وعليه فإن هذا الإجراء يكون قابلا للبطلان. والأدلة الناتجة عن إجراء فاسد لا يمكن أن يبنى عليها حكما ولا يخرج أخذ القضاء بها عن دائرة الإخبار والاستئناس فقط. 

 

 

 ـ ومن الخرقات القانونية التي شابت عملية متابعة الرئيس السابق استهداف شخصه بالإجراءات المقيدة للحرية دون غيره من المشمولين معه في نفس الملف.

 

 

فقد يكون مفهوما الحكم على أشخاص متابعين بنفس الجريمة بعقوبات مختلفة وذلك لتوفر ظروف شخصية مخففة أو مشددة لأحدهم دون الآخر، لكنه من الصعب استيعاب معاملة متهمين في نفس الملف خلال مرحلة التحقيق معاملة مختلفة إلا إذا كان هناك استهداف لأحدهم دون الآخرين.

 

 

  ـ ويبقى الاختراق القانوني الأخطر في عملية المتابعة هذه هو البطء غر المبرر في إجراءات التحقيق، فقد أوجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ـ وهو بالمناسبة اتفاقية دولية ملزمة للدولة وتسمو على القوانين الوطنية الداخلية بنص الدستور ما يعني أن لها الأولوية في التطبيق أمام المحاكم حتى وإن خالفت النص الوطني ـ فقد نص العهد الدولي المذكور على وجوب إحالة كل مقبوض عليه أو محتجز بتهمة جنائية سريعا إلى أحد القضاة وأن يحاكم خلال مدة معقولة أو يفرج عنه.

وألزم قانون المسطرة الجنائية قاضي التحقيق بتعجيل إجراءات التحقيق، وحمله مسؤولية أي تأخير غير مجدي تحت طائلة التعرض لمخاصمة القضاة.

 

 

ويتعرض الرئيس السابق منذ فرة للحبس الاحتياطي، فالحبس الاحتياطي _مبدئيا_ لا يمكن أن يتجاوز أربعة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة ولنفس المدة في الجنح، وتكون مدة الحبس الاحتياطي ستة أشهر في الجنايات. لكنه مع ذلك توجد بعض الحالات مستثناة من هذه القاعدة إن وجدت إحداها ترتفع المدة المحددة للحبس الاحتياطي إلى سنتين بالنسبة للجنح وثلاث سنوات في الجنايات، ومن هذه الحالات على سبيل المثال أن تكون العناصر المكونة للجريمة قد تمت خارج التراتب الوطني، أو يكون المتهم متابعا بجريمة إرهابية، أو تتعلق بالمخدرات.... إلخ.

 

 

وكما هو معلوم فإن الرئيس السابق يتابع طبقا لقانون مكافحة الفساد ومع جهلنا بالمقتضيات المحددة التي يتابع على أساسها إلا أن قانون مكافحة الفساد المذكور. أغلب مواده جنحا وليست جنايات.

 

 

 ومهما يكن فإن المتهم ـ الرئيس السابق ـ لا يمكن أن يحبس احتياطيا أكثر من ستة أشهر، فهو لم يحبس احتياطيا على أساس تهمة جنحية لأن مدة الحبس الاحتياطي في الجنح لا تتجاوز أربعة أشهر، وإذا انتهت قبل أن ينتهي التحقيق. لقاضي التحقيق حق تمديدها لمرة واحدة ولنفس المدة. ولم نسمع بأن قاضي التحقيق قام بإجراء كهذا، ما يعني أن المتهم حبس احتياطيا بناء على تهمة جنائية وتلك لا يمكن مبدئيا أن تزيد على ستة أشهر ولم يتطرق القانون لإمكانية تمديدها إلا في حالات خاصة ـ ذكرنا بعضها سابقاـ وما لم تتوفر إحدى الحالات التي تبرر تمديد الحبس الاحتياطي فإن قاضي التحقيق يمتنع عليه ذلك قانونا.

 

 

أما الحديث عن وضع الرئيس السابق تحت الإقامة الجبرية فهو أمر غير وارد لأسباب أولها أن الإقامة الإجبارية غير موجودة كعقوبة في القانون الجنائي الموريتاني. وحتى إن افترضنا وجودها فإن قاضي التحقيق لا يمكنه أن يفرضها لأن توقيع العقوبات من اختصاص قضاة الحكم. وقاضي التحقيق ليس من قضاة الحكم بالمعنى المقصود للكلمة.

 

 

 

صحيح خول القانون لقاضي التحقيق أثناء قيامه بمهامه التحقيقية اتخاذ بعض الإجراءات المقيدة للحرية ضد المتهم وفق ضوابط، وهذه الإجراءات محصورة في: إصدار الأمر بالحضور، أو لإحضار، أو الإيداع، أو القبض والمراقبة القضائية والحبس الاحتياطي. وهذه الإجراءات المحصورة ليس من ضمنها الوضع تحت الإقامة الجبرية.

 

 

ننبه أن القانون الجنائي الموريتاني أخذ بالمنع من الإقامة كقوبة. وليس الإقامة الإجبارية. ـ وفي المصطلحين خلاف بين في الأنظمة الجنائية التي أخذت بهما معاـ، فالمنع من الإقامة اعتمده المشرع الجنائي كعقوبة تكميلية يحكم بها القاضي بناء على سلطته التقديرية.

 

 

 

  ومن هنا يمكننا أن نتساءل ـ إن صح أن الرئيس السابق يخضع للإقامة الإجبارية ـ عن الأساس القانوني لإجراء كهذا. فأي إجراء يمس من حرية الفرد وحقوقه وذمته المالية يجب أن يستند إلى نص قانوني وإلا كان ظالما وغير مشروع.  

 

 

  إن ما نشاهده من اختراق فج للقانون ومن الجهة التي من المفروض أن يلجأ لها كل مظلوم لإنصافه لا يبشر بدولة القانون ويولد عدم الشعور بالعدالة.

 

 

  إن حسن أداء أي مرفق من مرافق الدولة يعود بالدرجة الأولى للعاملين فيه. 

 

 

لقد شاع في العقود الأخيرة استغلال السلطة التنفيذية للسلطة القضائية بالزج بها في معاركها السياسية، ولم تكن آخر تلك المعارك ما قام به الرئيس السابق ضد خصومه السياسيين، القضية المعروفة لدى الجميع التي توبع بموجبها رجل الأعمال "ولد بوعامتو" وآخرين.

 

 

 على القضاء أن يمتنع عن تدنيس نفسه بمسايرة السلطة التنفيذية في مسرحيات سخيفة كهذه. اللوم هنا ليس على قضاة النيابة العامة، فهم قضاة بحكم مهامهم تابعين للسلطة التنفيذية وينفذون سياستها الجنائية. ويتلقون الأوامر مباشرة منها عن طريق وزير العدل.

 

 

بل اللوم على قضاة الحكم الذين متعهم القانون بجميع الوسائل والحصانات القانونية التي تمكنهم من أداء مهامهم النبيلة بكل نزاهة واستقلال.

  حتى وإن كانت التهم الموجهة للرئيس الحالي ثابتة فعلا فإنه لم يكن ليتابع لو أنه لم يتخذ سلوكا أزعج النظام الحالي.

 

 

فأي نظام جديد يجعل من أولوياته حماية كيانه والقضاء على كل ما يزعج بقاءه في السلطة ويبيح لنفسه كل الوسائل التي تمكنه من ضمان بقاء حتى وإن كانت غير قانونية، وحتى إن كانت من ستستخدم ضده تلك الوسائل معروف بنظافة اليد.

 

 

فقد قضى الرئيس "المختار ولد داداه" المشهود له بالنزاهة في سجن "ولاتة " بعد الانقلاب عليه خمسة عشر شهرا. وحول الرئيس " هيدالة" فور دعوته من" بوجمبورة" إلى سجن "كيهيدي" ليقيم فيه لخمس سنوات.

 

 

  حتى الرئيس "المصطفى ولد محمد السالك" الذي تنازل طواعية عن الحكم لم يسلم من الحبس، ولم يعد "ولد الطايع" للبلاد ـ بشكل معلن على الأقل ـ منذ أن طار للسعودية معزيا في ملكها " فهد بن عبد العزيز"، وأرغم الرئيس المنتخب ديمقراطيا "سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله" بعد الانقلاب عليه على الإقامة مكرها في مسقط رأسه.

 

 

 إن ما يتعرض له الرئيس السابق "محمد ولد عبد العزيز " لا يخرج عن إطار ما تعرض له من حكموا قبله حتى إن حاول النظام الحالي إجاد مبررات قانونية لما يواجهه عزيز يذل.

 

 

فمتى ستتخلى الأنظمة عن تدنيس القضاء باستغلاله في معاركها السياسية؟، وما لذي يضمن عدم معاملة الرئيس الحالي عند خروجه من السلطة بنفس الطريقة التي عومل بها من سبقوه؟