على مدار الساعة

"رجل المجتمع" رب والد لم تلدك زوجته!

17 مايو, 2022 - 18:29
محمد الأمين محمد المامي

"جهل الأعيان مجرحة".. في رحلة التوصل إليهم مشقة إلا أن التقرب منهم نعمة.

 

كان موضع ثقة، رجل مجتمع، عارف بخصوصياته، يجيد التعامل مع الإنسان بإجماع، إنسان محترم..

 

هكذا تلخص أبرز الشخصيات البارزة، الوازنة في الوسط الأكاديمي، ومجال النشاط الجمعوي والسياسي، ورموز الطيف الفكري تعريفها لذلك الإنسان المحترم  "رجل المجتمع".

 

التعرف على الرجل ليس سهلا، فقد تطلب ويتطلب اهتماما ووقتا ودأبا، يتطلب الكثير من البحث والتقصي بتأن خلال سنتين على الأقل؛ ثم إن ذلك لم يكن سوى محفز على الاتصال به للتوصل إليه ومجالسته، فيفاجئ بتواضع ولطف ولباقة وسلوك عال النضج بروحه الشابة والمعاصرة وتفكيره العميق ورؤيته الثاقبة، ومبدء المجايلة في تعامله، يتجرد من شخصيته القوية ومهاراته المتقدمة ليجعلك تعتقد من اللحظة الأولى أنه كان رفيق دربك وصديقك الملاطف، بينما يصحح ويمرر لك نصحا بلطف المعلومات التي تحتاجها عن موضوع الحديث حتى تشبع تفصيلا دقيقا وتنتبه شيئا فشيئا أنك في ضيافة باذخة، لم ولن تستطيع أن تنقص منها مثقال ذرة في جلسة واحدة، فتقرر بنفسك وضع نقاط تتابع تتحين بها فرصة ثانية، وربما ثالثة ورابعة بل أكثر.. من شدة متعة الإصغاء، وإفادة المضمون..

 

مرحبا ابني.. هذا ولدي..

كنت محظوظا برؤية تلك الابتسامة الواردة من القلب لتسكن القلب وتعلق في الذهن وتقيم في الذاكرة، لتظل "الجرعة الوحيدة"، ذات التأثير المستمر بقوة طمأنة النفس بأن على الأرض حياة لله في عالم الدنيا بعيدا عن تفاصيل الحياة لها.

 

بذر البذرة في "النفس" وسقاها بعفوية قائلا: "مرحبا ابني".. فينحني الرأس من تلقاء نفسه إلى وشك الركوع في قصر المؤتمرات بنواكشوط حيث أكبر مؤتمر وطني جامع للأسرة العلمية والإعلامية والسياسية مع قادة هيئات المجتمع المدني، والشخصيات العامة، كان الموقف استثناء لشدة كسره لبروتكولات التفاعل داخل أجواء المؤتمرات.

 

أيضا كان لي السرور باستقبال أمر مباشر بمرافقته في رحلة تفقد واطلاع على أجواء المؤتمر، وتوزع الورشات المتخصصة في الطابقين الأرضي والأول، بدلا عن مرافقه الدائم الذي تركه ليعود إليه عند مدخل القصر لحظة الوداع والمغادرة بعد ترك المفاجئة السارة بقوله: "عدد المجيء لمنزل والدك"... كانت استجابة دقيقة لرغبة كتمتها لحين آخر، إلا أنه كان متقنا لقراءة وفهم الخواطر، وهو ما لم يخبرني به أحد من قبل!

 

تكررت أسئلت الأغبياء في قصر المؤتمرات على نحو "هل هذا والدك؟ هل أنت ابنه؟ ...استقبلت الأسئلة بارتياح دون رد! لكنه وبعد فترة أجاب بنفسه ردا على استفهامات صادرة بلغة الجسد من عقلاء في لقاء آخر ضمن مؤتمر بفندق "مورسانتر" قائلا: "هذا ولدي... إنه ولدي" كان ذلك قبل الانفراد لإجراء محادثة خاصة حول بعض التاريخ، ومواضيع الساعة، ورؤيته لمستقبل السياسات العامة. وختم هذا اللقاء بقوله: "لا تتردد في إخطاري حين ترى تعقيدا.." كانت هذه أيضا سانحة مهمة للمبادرة والقيام بإحدى مهام "مرافقه الدائم"، وجاء مني الرد سريعا: "ستعود لمنزلك في سيارتي. هذا قرار ابنك، المهتم بـ"مجالستك"، لنضج تجربتك في ممارسة الاهتمام بالأمر العام.

 

كان يحس في كل مرة، حين أحاول الظرافة معه، وأنا الثقيل بكثرة "اتصالات طلب موعد"، شوقا لمجلس بعد آخر، فيكون أكثر ظرافة، بسيطا، لطيفا ويخبرني قائلا: "حدد الوقت الذي يناسبك لأتفرغ لك". لعله من حيث لا أدري جعلني ابنه المدلل بشكل غير عادي، دائما أجده جاهزا، يستقبلني بحفاوة على طريقته خاصة، يأخذني إلى غرفة الضيوف، وفي الأخير يودعني بمرافقتي إلى سيارتي على الطريقة المعهودة في التعامل مع الضيوف من مستوى الوزراء والسفراء..

 

هو حريص - كما في كل مجلس -على إثبات وضوحه في الكلام، وفي التعامل، وأنه لم ولن يكون مضطرا لمجاملة أحد - أي أحد - لكنه يجتهد في التقدير، وهو بذلك ناصح أمين.

 

النصح والتوجيه

الوالد كان يدير "بنك معلومات" من تاريخ المجتمع الموريتاني، والعربي، ومسار النشاط السياسي بتعدد التوجهات والإديولوجيات، فكان مجتهدا في إخراج الزكاة من البنك، فاستمد منه باحثون شبابا تكملة رسائلهم لنيل شهادات: "الليصانص"، و"الماجستير" و"الدكتوراه" في مجالات العلوم الإنسانية وغيرها..

كما كان عونا لباحثين آخرين، مدهم بتفاصيل دقيقة عن تجارب ميدانية في تاريخ البلاد والعباد من موقع الشاهد، ومن موقع الفاعل، الذي تحول إلى مرشد، ناصح، كريم، حاث على مبادئ وقيم المجتمع والأخلاق الفاضلة، وترجيح منطق العقل للدفع بالتي هي أحسن تحت أي ظرف، وثقافة الاجتهاد في التعلم والتعليم وأداء عبادة الرجال بخلق رفيع.

 

آه يا رمضان (2022) لأنك لا تدري عمق الجرح الذي تركته، واستحالة تضميده، ستظل تذكر موريتانيا ومن فيها من سدنة الحرف ورواد الكلمة، كيف أخذت معك كنزا لم ننتفع بعد بربع قيمته.. لكن الحمد لله على نعمة الإيمان به وباليوم الآخر، وهو المعين على فقدان "رجل المجتمع" الوالد حمادى ولد اصوينع رضي الله عنه وأرضاه.