على مدار الساعة

حَدَثُ إدريس غانا غي عودة إلى مأزق "العولمة الثقافية"

24 مايو, 2022 - 01:45
محمد بكاري سيسى

تابعنا معًا في الأيام الأخيرة موجةً من ردود الأفعال الناجمة عن موقف الرافض للاعب فريق باريس؛ نجم المنتخب السنغالي؛ إدريس غانا غي؛ من المشاركة في مباراة لفريقه، في الجولة قبل الأخيرة، تجنّبًا ارتداء قميص الفريق الذي يحمل شعارا داعما لحقوق مجتمع الميم الذي يضم المثليين والعابرين جنسيا.

 

وهي ردود تنوعت بين انتقاد وتأييد لتصرّف اللاعب، حكمت في غالبها تنوّع الثقافات، واختلاف معاييرها الأخلاقية، كما تتضح عبر الحملة الاعلامية الغربية التي تعرض لها، وانتقاده من قِبل بعض شخصياته السياسية والرياضية، والتأييد العظيم في أوساط المجتمعات الإسلامية.

 

إزاء هذا التمظهر المتنوع حضارة وثقافة، نعود لطرح مشكل كنّا كتبنا عنه مسبقا؛ وهو مشكل (الخصوصية الثقافية) في مواجهة (مشروع عولمة الثقافة)، لكن هذه المرّة عبر قراءة حدث اللاعب إدريس غي الذي كتب معلّقا على تصرفه، في مطلع تدوينة على صفحته فيسبوك: (أنا ابن شعب، له مبادئه ومعتقداته وإنسانيته).

 

نبدأ عرض مقالنا بتحديد مفاهيمي لمركبات المشكل؛ الخصوصية الثقافية والعولمة الثقافية، مبيّنا طبيعة العلاقة بينهما اتفاقا أو تعارضا، ومن ثم نسلط الضوء على العولمة من حيث هي مشروع تغريبي منبن على أسطورة التفوّق الحضاري.

 

ومن بعد نتناول مسألة المثلية بوصفها اختيارا شخصيا مرهونة بالحرية الشخصية تكتسب عموميتها من كونية قيمة الحرية! ونختتم بتفكيك مغالطة إلصاق التهمة الارهابية للمحتجّ على هذا الادّعاء الأخير.

 

أولاً: تحديد مفاهيمي:

- الخصوصية الثقافية: يصعب تحديد مصطلح الخصوصية في تعريف واحد، وذلك لتشعّب تداول حقوله، رغم ذلك نحاول تعريفه في إطار الحقل الاجتماعي الذي نحن بصدده؛ بالقول: إنه تعني خصائص الهُويّة الاجتماعية القيمية التي تميّز أي مجتمع عن غيره من المجتمعات الأخرى.

 

وفي كتاب الخصوصية الثقافية يرد المؤلف بشير عبد الفتّاح، اختلافَ مدرستين في معنى الثقافة، وهما:

- مدرسة القيم التي تحصر الثقافة في الإجابات المشتركة، أي أنها (المحتوى الأخلاقي والفكري والجمالي الذي يوجه السلوك الفردي، ويحدد الفعل الاجتماعي المشترك لمجموعة سكانية محددة).

- ومدرسة القضايا: وهي تتحدد الثقافة عندها في الأسئلة المشتركة، بمعنى (انتماء مجموعة من الأفراد لثقافة ما، لا ترجع لتشابه القيم التي يتبناها مجتمع ما، وإنّما لتشابه القضايا التي يعتبر جلّ أفراد هذه المجتمع أوْلى باهتمامه وتقديره).

 

ويُلحظ في تعريفنا للخصوصية الثقافية أننا آثرنا رأي المدرسة الأولى (مدرسة القيم) لتناسبه مع سياق المقال، إذ على ضوئه يتوحد المسلمون باختلاف أعراقهم وأجناسهم تحت ثقافة واحدة وهي "الثقافة الاسلامية" ونعتقد أن اللاعب كان مندفعا بهذا الدافع في تجنّبه مشاركة المباراة، وخير داعم لهذا الاعتقاد، مستهل منشوره الذي أوردناه في مقدمة المقال.

 

2. العولمة الثقافية: مصطلح العولمة، بكلمة؛ تشير إلى توحيد العالم تحت نظام عالمي واحد، تضبطه قوانين اقتصادية وسياسية وثقافية معينة، وقد ظهر المصطلح بداية في عالم الاقتصاد انتصارا للرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، ولذلك جوهر العولمة؛ اقتصادي، يتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع ورؤوس الأموال.

 

وإن كانت تطبيقات العولمة الاقتصادية تبدو جليّةً في الواقع المعيش، فإن العولمة الثقافية ما زالت طوباوية في طور الحلم ولم تتحقق بعد، وصعوبات جمّة تعترض سبيل تحقّقها، وبين الفينة والأخرى يظهر حدث يضعنا أمام "مأزق العولمة الثقافية".

 

ثانيا: طبيعة العلاق بينهما:

مبنيًا على المحدّدات السالفة يتبيّن أن العلاقة بين الخصوصية الثقافية والعولمة الثقافية علاقة تنافر وتصارع ناعم، بقدر ما تسعى القوى الاستعمارية بالسيطرة على عالم الجنوب، وفرض أنماطها الثقافية دون اعتبار للخصوصيات؛ يجنح الطرف الآخر إلى التحصن بخصوصيته الاجتماعية والثقافية، التي لم يدل العقل السليم على بطلانها، ويذود عنها بكل ما أوتي من وسائل المقاومة، فهي بالنسبة له بمثابة الأمل في صندوق باندورا.

 

هذا مع الاعتراف بوجود مشترك إنساني على مستوى القيم الكونية الكبرى، يتيح إمكانية التواصل عبرها من حيث هي مصلحة إنسانية.

 

وما عداها تتحكم فيه الخلفياتُ الثقافية، والتجاربُ الاجتماعية.

 

ثالثا: العولمة مشروع تغريبي:

باستقراء وتتبّع السياق التاريخي والاجتماعي، لبزوغ فكرة العولمة ينكشف لنا أنها أداة من أدوات النيو - استعمارية، كما أسلفنا ذكره برزت دعوة العولمة بعد صراع مرير بين القطبين المتصارعين، الاشتراكي السوفييتي، والرأسمالي الغربي، خلال ما عُرف بالحرب الباردة يتزعم الاتحاد السوفياتي القطب الأول، والولايات المتحدة الأميركية القطب الثاني، وتوّج الصراع بانتصار الثاني على الأوّل المنهار سنة 1991، وتَرافق سقوطه مع إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب عن النظام العالمي الجديد، القطبي الأحادي، وأضحت الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، منفردة بقيادة العالم.

 

إلى جانب التنظير الفكري عمل في تأطير هذا التفوّق النهائي حتى بشّر بنهاية الصراع الأيديولوجي لصالح الفكر الأحادي الحامل لواء "العولمة" من هذه الخلفية يُفهم أن العولمة دعوة غير بريئة ترمي إلى فرض وتعميم نموذج معين مصدَّر من جهة خاصة "الغرب"، ومما يؤيّد ادعائنا هذا؛ المنظومة القيمية التي تتبناها المنظمات والهيئات الدولية وتوصي بها، إعلان حقوق المثليين نموذجًا، وفي هذا السياق استحضر قولا  للسيّد ولد الباه في كتابه الدين والسياسة والأخلاق: "أذكر أن مسؤولة سامية في منظمة اليونسكو عن الحوارات الثقافية، نظّمت عشرات المؤتمرات والندوات في الموضوع، قالت لي إن هذه الحوارات غالبا ما تتحوّل إلى مونولوغ -أي حور مع النفس- باعتبار أن الثقافة الغربية تشكل شئنا أم أبينا الإطار المرجعي لقيمنا الكونية المشتركة".

 

رابعا: دعوى المثلية اختيار شخصي، يجب تقبّله!

ينبئنا التاريخ الاجتماعي الغربي نفسه أنه كان يُنظَر إلى المثلية على أنها حالة شاذة يُعاقب عليها القانون، أو مرضية يخضع ممارسُها للعلاج النفسي، فكان الشاذ ذلك الإنسان الذي يعاني من عقدة نفسية لا بدّ من علاجها، عوض منحه الحرية لممارسة شذوذه، وفي هذا تقول جيجيكة إبراهيمي في كتابها حفريات الإكراه في فلسفة ميشال فوكو: "لقد تعددت وتكاثرت عبر الخطاب حول الجنس الإداناتُ القضائية لأشكال الشذوذ البسيطة، وانضمت الممارسة الجنسية غير شرعية إلى المرض العقلي". فهذه هذه ملاحظة أولية أن المثلية الجسد لم تكن مندرجة في صنف الحريّات.

 

نفس التاريخ الاجتماعي يُطلعنا على أن المثلية الجنسية اكتسبت طابعها المشروعي في المجتمع بعد تجربة الحداثة، ذلك التحول الاجتماعي الذي شهده المجتمع الغربي منذ القرن الثامن عشر، والذي مثّلت الحريّةُ عموده الفقري، وأصبحت ذات الإنسان مقياسا للأشياء، فهي المعيار لمشروعية المسائل من عدمها، وهذا ما عبرت عنه جيجيكة ابراهيمي بالقول: "على الرغم من تكاتف الجهود قصد إدراج الجنسانية المثلية ضمن الشذوذ الجنسي وفي حيّز المرض من أجل إخضاعها لفحوصات طبيّة أحيانًا واللجوء إلى منعها أحيانًا أخرى، إلاّ أنها تمكنت من إيجاد مكانتها داخل المجتمع فارضة وجودها غير مبالية لا بالقيم الأخلاقية ولا بالحدود التي رُسمت لها" مستشهدة بقول فوكو من كتابه تاريخ الجنسانية: "هكذا نشأت فئة مختلفة من الشواذ منذ القرن الثامن عشر إلى عصرنا هذا؛ يتجولون في كل فجوة من فجوات المجتمع".

 

فكان من الطبيعي جدا أن تجد هذه النزاعات المتطرفة الخارجة عن الفطرة مثل المثلية؛ مكانةً في مجتمع ألّه الانسان، ودنّس المقدس، بسحب مشروعية التأسيس عن كل ما هو إلهي، أو تحويله إلى إنساني "فكرة الأنسة" وتعززت مكانتها أكثر وسط المجتمع في القرن العشرين، ويُعتبر الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في ذلك القرن أهم من نظّر لمشروعيتها قولا وفعلا، وطالب بتحرير ممارسة الجنس من السلطة الاجتماعية، وهنا يسجل بشير عبد الفتاح ملاحظة مفادها أن الثقافة الشعبية للمجتمع الأمريكي تركزت خلال الخمسين عاما الماضية - كان حديثه في ٢٠٠٧ - على الاهتمام بعدد من القضايا التي يضعها على قمّة أولوياته، مثل حق الاجهاض، وحقوق المثليين، وحقوق الأقليات العرقية.

 

وهذه ملاحظة ثانية توضح خصوصية السياق الاجتماعي الغربي لتقبّل دعوة المثلية - بعد أن كانت مجرمة أو مرضًا -بزعم الحرية الشخصية، ويطمح إلى تعميم هذا القبول في أوساط اجتماعية، بنفس المنطق تختلف عنه سوسيو - ثقافيًا، دونما اعتبار اختلاف المرجعيات والمنطلقات، وكأن العالم بأسره يجب أن يدور في فلكه.

 

وحتى لو سلمنا جدلاً بكون المثلية حرية شخصية، والحرية بطبعها تتنافى مع الإكراه والاجبار، فيجب أن ندع المثليين يمارسون حياتهم بكل أريحية ما لم يمسّوا أحدًا بسوء، فذلك من باب التسامح الضامن للتعايش المشترك، لكن لا يقتضي ذلك دعمهم ومساندتهم في خيارهم المتطرف، إذ التسامح هو تحمّل الآخر المخالف، بينما الدعم أو المساندة يأخذ معنى الإقرار والتوافق.

 

بتنزيل هذا التفريق الاصطلاحي على حادث اللاعب إدريس غاي، نجد أن اللاعب كان متسامحًا مع المثلين - على الأقل ظاهريا - إذا لم يسبق له أن نادى إلى سحق المثليين، أو حتى الإساءة إليهم، وليس موافقا على مشروعية المثلية لأن خلفيته الدينية والاجتماعية تحظر ذلك، وكان من حقّه ومن حريّته تجنب ارتداء القميص، ومنتقدوه عكسوا المعادلة بدل من التماس الحق له في عدم مساندة المثليين لاختلاف المرجعيتين، وصموا موقفه بالإرهاب، مع أن الإرهابي هو من يلغي الآخر ولا يعترف بوجوده، ويقاتله حيثما تسنى له، وتوظيفه في حالة اللاعب إدريس غي إفراغ من محتواه، ومغالطة تُهمية يلصقها الخصم بخصمه، حينما يعدم أدلة مقنعة على تجريمه.

 

كانت هذي محاولة قراءة في الإشكال العويص عبر حادث اللاعب إدريس غي الذي مثّل الخصوصية الثقافية والقيمية للأمة الاسلامية، وعبر بموقفه الرافض عن موقف الرسالة الإسلامية العالمية الرامية إلى حماية الفطرة الانسانية من الشوائب، وتهذيب الأخلاق من الانحرافات المتطرفة التي تهدد وجود النوع البشري، ومن هنا نعلن تضامننا اللا محدود معه ضد الحملة الإعلامية الغربية الشرسة التي تعرضّ لها.

 

ونختتم بأمنية مفادها أن تحمي الشخصيات المؤثرة في مختلف المجالات خصوصياتهم الثقافية، فهم سفراء مجتمعاتهم المعتمدة في المجتمعات الأخرى؛ عن مشروع العولمة الثقافية، التي في جوهرها ليست أكثر من إرادة التبعية للغرب، مهدّت لها النزعة التفوقية واعتقاد المعرفة السيادية.