على مدار الساعة

تقرير رسمي يكشف: نفايات سامة بتكانت تلوث البيئة وتهدد حياة البشر

24 أبريل, 2010 - 09:57

الأخبار (نواكشوط) - أظهرت معلومات مصدرها السلطات الإقليمية في ولاية تكانت وجود مخاطر تلوث بيئي جراء موقع في منطقة "لتفتار" كان مخصصا لتخزين السموم المستخدمة في مواجهة الجراد والآفات الزراعية ويوجد في المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي.

وأرجع تقرير أعد تحت إشراف الإدارة الإقليمية بطلب من وزارة البيئة، وحصلت وكالة "الأخبار" المستقلة على نسخة منه، تزايد حالات مرض الغدة الدرقية (المعروف شعبيا بـ"لكواتر") وحالات العمى والعشى إلى تلوث البيئة نتيجة تهالك الموقع. كما سجل التقرير –نقلا عن السكان المحليين- أمراضا أصابت مواشي ودواب المنطقة ووصلت في بعض الأحيان إلى حالات نفوق.

ويأتي الكشف عن هذه المعلومات في وقت ترتفع فيه حدة الجدل جراء فضيحة النفايات السامة الناتجة عن عمليات تعدين الذهب والتي ألقيت في مكب غير مرخص شمال البلاد وألقي باللائمة فيها على شركتي "تازيازت" و"توتال" الأجنبيتين.

وقد أقيم الموقع المشار إليه في منطقة "لتفتار" بمقاطعة المجرية بولاية تكانت وسط البلاد منذ 1975، من قبل هيئة إقليمية لمكافحة الآفات الزراعية كانت موريتانيا عضوا فيها في تلك الفترة، وقد اتخذته كـقاعدة لانطلاق فرقها وتخزين مستحضرات كيميائية ضارة بصحة البشر. وأثبتت نتائج اختبارات مخبرية أجريت في بلجيكا لصالح الحكومة الموريتانية على عينات من المنطقة تلوثا بنسب متفاوتة في الوسط الطبيعي بمواد آلدرين (Aldrine) وديلدرين (Dieldrine) متسربة في التربة والماء".

وتنتمي المواد السامة إلى فصيلة "POPs وقد خزنت في الفضاء الطلق وعلى مقربة من "لتفتار" من قبل منظمة إقليمية وريثة الفترة الاستعمارية كانت تسمى "المنظمة المشتركة لمكافحة الآفات الزراعية والطيور آكلة الحبوب". كانت المنظمة تعرف باسم "OCLALAV" اختصارا وقد اختفت كليا عام 1989 بعد مصاعب مالية وخلافات بين أعضائها وهم غالبية المستعمرات الفرنسية في منطقة الساحل.

وقد اقترح فريق من الخبراء الهولنديين بعد دراسة أجراها عام 2002 نقل كامل التربة الملوثة، والتي تناهز مئات الأطنان من الرمل، إلى أوروبا من أجل حرقها في مخبر متخصص وهو أمر كان سيكلف مليوني دولار لكن الحكومة الموريتانية عدلت إلى البحث عن حلول أرخص فطلبت مساعدة منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو".

وقد تطلب الأمر انتظار خمس سنين لكي تقوم جامعة "واجنيندجن" الهولندية، بطلب من "الفاو"، بالقيام بدراسة جديدة من أجل اقتراح حلول للمشكلة تضمن حماية السكان من الأضرار الخطيرة المترتبة على وجود السموم إلى جانبهم. فقد حل بموريتانيا في أغسطس 2007 الباحثان جوب هارمسن من الجامعة الهولندية المذكورة ومحمد عماتي من مكتب "الفاو" للمبيدات الحشرية حيث قاما صحبة فريق من المركز الوطني لمكافحة الجراد بأخذ عشرين عينة من تربة المنطقة وعينة واحدة من الماء من بئر يبعد 300 متر عن موقع النفايات.

وأظهر تحليل العينات نتائج مقلقة للغاية تؤكد أن صحة السكان في خطر خاصة وأن المواد التي تسربت تنتقل عبر الهواء ويمكن أن تمتد تأثيراتها إلى عدة أجيال.

فطبقا للتحاليل التي أجراها مخبر "CRA-W" البلجيكي على عينة قدرها 100 مللتر من الماء من بئر قريب من موقع النفايات، فقد وصلت نسبة تلوث المياه بالآلدرين إلى 0.074 ميكروغرام/كغ، فيما بلغ التلوث بالديلدرين في ذات العينة 0.04 ميكروغرام/كلغ.

نسبة التلوث على مستوى التربة كانت الأكثر إثارة للقلق حيث أظهرت غالبية العينات وجود تركيز للدليدرين أعلى من 2 مغ في كل كيلوغرام من التربة، إذ وصل معدل تركيزه في 17 عينة من أصل عشرين تم اختيارها من مناطق مختلفة من لتفتار إلى 4.25 مغ/ كغ، وهي نسبة "مرتفعة جدا" حسب المخبر، وهي كافية لتحدث أضرارا جسيمة على السكان.

وفي 19 من العينات التي تم تحليلها لم تتجاوز نسبة تركيز "الآلدرين" في التربة سقف 10 ميكروغرام/كلغ باستثناء عينة واحدة أظهرت وجود تركيز قدره 802 ميكروغرام/كغ (أي 0.8 غرام في كل كيلوغرام).

وينتمي "الديلدرين" إلى ما يعرف بـ"السلة الخبيثة" داخل الملوثات العضوية. وتمتاز تلك الملوثات بسمية عالية جدا فضلا عن مقاومتها للتحلل الكيميائي أو الحرارى أو الحيوي وهو ما يمكنها من البقاء في البيئة لسنوات طويلة. كما تمتاز بخاصية التطاير حيث تنقلها الرياح لتنتشر في أماكن بعيدة عن أماكن انبعاثها. ورغم أنها تقاوم التحلل في الماء فإنها، في المقابل، قابلة للذوبان في الأنسجة الذهنية للكائنات الحية ومن ثم التسبب في أمراض قاتلة.

وتؤثر الملوثات العضوية على الجهاز المناعي والجهاز العصبي والتناسلي وتتسبب في مختلف أنواع السرطانات وتزيد احتمالات الإصابة بالسكري كما قد تكون سببا في العاهات الخلقية، لكن تأثيراتها ليست فورية بالضرورة بل قد تمتد إنعكاساتها لأجيال عديدة.

لكن "لتفتار" قد لا تكون البلدة الوحيدة المهددة بمخاطر التلوث جراء مخلفات الحرب على الجراد، فالديلدرين، الذي تم حظر استخدامه دوليا سنة 1982 بعد اكتشاف آثاره المسببة للسرطان وصعوبته تحلله في الطبيعة، شكل مشكلة حقيقة لموريتانيا وهي بلد مترامي الأطرف تزيد مساحته على المليون كيلومتر مربع وذو طبيعية صحراوية قاحلة.

قصة "الديلدرين" تعود إلى أربعة عقود خلت، لكن التفكير فيه كمشكلة يعود إلى أواسط العقد الماضي بفارق توقيت يناهز الخمسة عشر عاما عن بقية دول العالم.

لقد ورثت نواكشوط حصتها من منظمة "OCLALAV" التي كانت تحتضر. لم تكن ثروة وطنية بل ترسانة من السموم محرمة الاستخدام ناهز قدرها 178 ألف لتر في ظروف تخزين بعضها سيئ، وكان التخلص منها باهظ الكلفة. كان المخزون موزعا في خمس نقاط أساسية: أطار، لعيون، كنكوصة، ثم العاصمة نواكشوط. ومن المفارقة أن لا يرد ذكر لـ"لتفتار" ضمن هذه المواقع الواردة في وثيقة فنية قدمتها موريتانيا أمام المؤتمر القاري الإفريقي الأول حول الوقاية والتسيير المعقلن للمخزونات الخطيرة والمنعقد في الرباط في يناير 2001.

فبسبب الهدوء غير المتوقع الذي شهدته الحرب ضد الجراد بين 1975 و1985، إضافة إلى حظر استخدام الديلدرين بات هذا المخرون عبئا، وذلك بينما اضطرت موريتانيا لاحقا لاستيراد 1.5 ملايين لتر من مبيدات أخرى لمواجهة هجمات الجراد وخاصة أعوام 78 و88 و93 و95.

وأمام انعدام الخبرة المحلية والبنى التحتية اللازمة للتخلص محليا من المخزون السام لجأت موريتانيا، وهي التي سارعت إلى التوقيع عام1996 على اتفاقية بال حول المواد السامة، إلى شركائها الدوليين. وهكذا تم الاتصال بالحكومة الألمانية التي ساعدت بواسطة وكالة "GTZ" وبالتعاون مع شركة "SHEL" المصنعة للمبيد حيث تم تنظيم ثلاث عمليات استغرقت إجمالا ستة أعوام ونصف، للتخلص من مخزون الديلدرين.

مكنت العملية الأولى من تصدير 177.636 لترا من الديلدرين بعد إعادة تعبئتها في نواكشوط وذلك من أجل حرقها في روتردام من قبل شركة "AVR"، فضلا عن خمسين طنا من الأوعية الخاوية، وكلفت 483 ألف دولار.

أما العملية الثانية فجاءت لعلاج أخطاء بشرية أدت إلى سكب كميات من السموم خلال العملية الأولى. وأسفرت هذه المرحلة عن تصدير 42 طنا من الرمل والتربة الملوثة وذلك بغية إتلافها في سوتامبتون من قبل شركة "RECHEM" وكلفت 50.500 دولار.

أما العملية الثالثة فتم إقرارها بعد تقييم المرحلتين السابقتين من قبل الحكومة وشركائها في لاهاي سنة 1998، إذ تبينت ضرورة تنظيف مخزن الديلدرين في روصو. أسفرت العملية عن تصدير 32 طنا من التربة الملوثة من أجل إتلافها في روتردام على يد شركة "AVR" التي أتفلت الكمية الأولى، وكلفت العملية 40.500 دولار.

وفي كل العمليات السابقة تولت ألمانيا وشركة "SHEL" التكاليف المالية لتخليص موريتانيا من الديلدرين المشؤوم. لكن هل تم ذلك فعلا كما تقول خاتمة الوثيقة الفنية التي حصلت عليها "الأخبار"؟ لقد نسيت الحكومة وشركاؤها كما يبدو، خلال كل هذه العمليات، براميل السم النائمة في الهواء الطلق قرب "لتفتار" وسط موريتانيا وهو ما يدعو إلى التساؤل بشأن احتمال وجود مخزونات أخرى منسية على التراب الوطني؟

وقد تم ترميم الموقع الموجود في "لتفتار" مرتين فقط سنة 1982 ثم سنة 1988، أي قبل أكثر من عشرين عاما، وهو ما جعله يصل إلى مراحل متدهورة جدا أدت إلى تلف أجزاء من السياج الذي يحيط به وطمر عدد غير معلوم من البراميل التي تحوي مواد سامة تحت الرمال. كما تبعث من الموقع روائح كريهة تؤذي السكان، خاصة حين تبلل الأمطار التربة، فضلا عن عواقبها الصحية التي يصعب تقدير مداها.

وتجهل السلطات المحلية عدد البراميل السامة التي كان يحويها الموقع لكن السكان المحليين يقدرونها بالعشرات وقد تحطم بعضها نتيجة الإهمال وقام بعض السكان المحللين باستغلالها كأوعية في أغراضهم اليومية، فيما يرجح أن أغلبها تم طمره تحت الرمال.

وبات السكان يتخوفون من انفجار البراميل السامة في أي لحظة وهو قلق فاقمه إنفجار مخزن للغازات الكيمائية (المستخدمة لأغراض اللحامة) في نواكشوط وخلف أكثر من عشرة قتلى والكثير من الجرحى فضلا عن خسائر مادية جسيمة.

وطبقا للتقرير الرسمي الذي حصلت عليه "الأخبار" فقد تزايدت حالات أمراض الغدة الدرقية بين النساء والرجال على حد سواء في القرية الوادعة في ضواحي مدينة تجكجه، كما تسجل حالات من العمى وضعف النظر في كافة الشرائح العمرية في المنطقة، فيما يختلف السكان المحليون حول حصول وفيات سببها التلوث بشكل مباشر.

وتجنب التقرير تأكيد ارتباط هذه المعطيات الصحية بشكل مباشر بالتلوث لكنه أشار إلى هذا الاحتمال، وهو أمر يتطلب دراسة طبية للأعراض التي تعاني منها شرائح واسعة من السكان.

ورغم أن شكوى السكان تعود إلى العام 2007 فإن السلطات الرسمية لا زالت تتعامل مع الموضوع بمماطلة تفاقم قلقهم خوفا من مضاعفات صحية وبيئية يصعب عليهم التكهن بحجمها أو طبيعتها.