على مدار الساعة

طريق الأمل... موت وإهمال وبؤس مقيم

3 مارس, 2010 - 09:57

الأخبار (نواكشوط) - بعد أن قطعت كل الحقل ووضعته في الصعيد لتصفيته، واتفقت مع الجميع أن تكون" التوزيرة" غدا عندي، جاءت قطعان القرية وتسللت إلى الزرع وهو في الصعيد، ولم تترك لي منه إلا آثارها.. اسيقظت على وقعها مولية وهي شبعى.."

- هل شكوت إلى أحد أو من أحد؟

" إلى من أشكو؟.. إنه قطيع لعدة أسر، كلهم أهلي، لمن أشكو.. وممن أشكو.. هذا أمر اعتدت عليه.. حدث معي عدة مرات، وحدث لغيري.. ليس لدينا سياج يحمي حقولنا.. ولا يمكن للقرية أن تسهر كلها وتحبس قطعانها.. هذا أمر معتاد.. اسال الله فيه الأجر".

لم يكن ذلك سوى حديث أخوي عاد مع محمد ولد الخير وهو مزارع في "قاعة اميليدة"، على بعد 35 كلم من مدينة النعمة شرق موريتانيا،عكف في حقله حتى استوى على سوقه وأعجب الزراع، ليستيقظ عليه فجرا هشيما تذروه الرياح، لم يخطر بباله أن يشكو إلى الدولة، ففي هذه المدة من العام الماضي مرت وكالة أنباء الأخبار من هنا، وشكت إليها ابنته عائشة وضع مزارعهم.

كان ذلك قبل عام.. وقد أمضى العام كله وهو على أمل أن تكون الحكومة قد قرأت ما كتب عنه.. بعد ما اقتنع بجدوى ما يقال له عن الانترنت حين أخبره أحد معارفه في الغابون أنه رأى صورة ابنته في حقلها وفي يدها "زراقة".

مر عام، وجاء موسم مطر أغزر بكثير من الموسم السابق، وكان الزرع أوفر، والعناء أقل، والأمل أكبر.. وبسط التفكير في قائمة مقتنيات ما بعد الحصاد.. لكن كانت القطعان تتربص به بأنواعها الثمانية لتأتي على ما أبقته الطيور وخلفه الجراد..

مع مطلع العام الجديد آتى المزارعون حقوق زرعهم يوم حصاده، فكان محمد وأسرته مصرفا للزكاة.. فيما كان يخطط أن يكون مزكيا وعن وفرة.

لم تكن تلك المحادثة سوى بداية مثيرة لنا لنعود أدراجنا مع طريق أمل كنا سلكناها قبل عام، نقلنا خلالها أنات قوم أملوا أن يسمعها جيران "البحر الأخضر"..

دخلنا مدينة النعمة.. لم نخطئ رؤية المولد الكهربائي المنتصب على قارعة الطريق قاسما المسافة الفاصلة بين مكتب الوالي وقيادة المنطقة العسكرية الخامسة، وبين مكتب الحاكم ومقر مفوضية الشرطة، ليكون تذكيرا يوميا للسكان باستهتار هؤلاء كلهم بحياة الناس.. بأحلام الأطفال.. وبالمواشي... الأكثر أهمية ربما، فهي الثروة التي تزخر بها المدينة، وهي المرغب الوحيد في قبول التعيين بها.

وفي البحطحاء الشاسعة تراءت لنا ونحن ننزل أمتارا عن طريق الأمل متجهين غربا أسنام الإبل الراتعة في حشائش جلبت للتو من مراعي بودر بقطعها قبل الحرائق، لنسمع خوار الأبقار في حائطها العتيد.. معالم تأبى التغيير، ووجوه تشهد الزائر أن "النعمة" قيدت بالصبر.

 

وعدنا.. مع طريق الأمل

 

كانت حجارة النعمة التي استقبلتنا على مدخلها تودعنا، لثبت لنا أنها ما زالت على العهد ... متراكمة على الجانب الشمالي، مصرة على أن لها نصف الطريق وللمسافرين نصفها، ولهم إن شاءوا أن ينزلوا عنها إن لم تسعهم أو كانوا مستعجلين..

نقطع خمسين كيلومتر، تسقبلنا وجوه كالحة، صبية تجمعوا على كبش ضربته للتو سيارة، يستعد سائقها لدفع ثمنه، وترفض أنفه الأعرابي أن يأخذ تعويضا عن "قدر الله".. فيما تساءلنا؛ ومن سيعوض هؤلاء الصبية عن مستقبلهم؟ من سيخبرهم يوما أن هذه الدولة التي يدفعون لها كل يوم ضرائب في مأكلهم وملبسهم وشايهم ، لهم عليها حق التعليم والسكن والرعاية والصحية، وأن رئيسها سيسأل عن دوابهم التي تنفق يوميا على قارعة الأمل..فهو رئيسهم؛ "رئيس الفقراء".. لم يرغب أي منهم في الحديث، فقد كانت صدمة الكبش قاسية عليهم.. وأكثر منها إثارة للدهشة... هذه الآلة التي بأيدينا.. والتي قد يموتون قبل أن يعرفوا اسمها.

وغير بعيد عنهم كان " مرحل" من أهل البادية يقطع الطريق.. تلقينا منه سيلا من السب واللعن فسياراتنا أخافت جمالهم، كدنا نتسبب بكارثة.. كان المشهد رائعا واستوقفتنا تراثيته، غير أن معاينة الصور بعد التقاطها أثارت لدينا التساؤلات الأكثر تغييبا:

من ترى في هذه الدولة يتذكر هؤلاء في غير موسم الانتخابات؟ من ترى يسأل لم هم الآن مرتحلون عن مرابعهم؟ وأي وجهة تراهم يقصدون؟ من سينقذ أحدهم لو سقط عن بعيره هذا وكسرت رجله، من يوفر لهذا الطفل يوما حقه الدستوري في التعليم.. لم نستطع سؤالهم عن شيء فقد كانوا غاضبين.

 

الطيطان.. البحيرة الخالدة

 

مع ساعات الصباح الأولى كنا على مشارف الطينطان، كانت مناظره غاية في الجمال، فزرقة المياه الفاتحة تلاقت مع بشائر الفجر تستقبل بانبهار أوابد أشعة الشمس المتسلل ضوؤها بين خرائب بيوت شقي ذات يوم فتى ليوطد أركانها،.. جمال ترى في مرآته شواهد كذب وإهمال وسوء تسيير لم يعرف لها التاريخ الموريتاني المعاصر مثيلا..

فمع الأموال التي جادت بها العرب والعجم، ومع الرؤساء الثلاثة ورابعهم؛ " سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ومحمد ولد عبد العزيز، وبا امباري فمحمد ولد عبد العزيز"، ومع الزيارات المتكررة للرئيس والوزير الأول ولكل وزير كتب الله عليه أن يتجه شرقا.. مع كل ذلك ما تزال البحيرة الزرقاء هادئة تصافح مياهها كل يوم أسس ذكريات البيوت.

حتى لا فتة مكتب الإغاثة أبت إلا أن تكمل حولها منكسة الرأس، أنفت عنها أيدي ملتقطي بقايا الحديد، ربما إمعانا في إذلال الدولة التي نصبتها ذات يوم أمام كذبة أصرت الأيام على فضحها.

 

والأمن.. ما زال غافلا

 

لم يكن السائق الذي رافقنا من النعمة يملك وثقية المعاينة التقنية " فيز تكنيك سبب ذلك لنا تعطيلا ثلاث مرات فقط "سويت جميعها بالطرق السلمية"، ومع وجود نقاط تفتيش متنقلة تبدو مستحدثة، لم تفتش أمتعتنا إلا مرة واحدة على طول طريق الأمل التي بها واحدة وأربعون نقطة تفتيش ولم يتجاوز هذا الإجراء الشكلي فتح الحقائب المصرح بها، مع وجود أمتعة أخرى كانت بجوانب الركاب لم نسأل عنها، فيما لم نستوقف تقريبا إلا في نقاط التفتيس الموجودة على مداخل ومخارج المدن، ومع أن ثلاثة من الركاب لا يحملون أي وثيقة تثبت هويتهم، لم يسبب لنا ذلك أي عائق، فنحن لسنا أكثر مخالفة للقانون من هذه الشاحنة القادمة من وسط أفريقيا وهي تحمل في ظاهرها خشبا، يكفي من مخالفته للقانون أنه خارج إطارها المسموح وأن لا ضامن لعدم انزلاقه على من خلفها وهي تصعد وتهبط في مرتفعات ترارزة.

 

الموت في البداية وفي النهاية موت

 

كما تبدأ طريق الأمل بالموت المنتصب على قارعتها تنتهي بسالكها غربا إلى ملتقى طرق العيادة المجمعة، ولكي نتأكد أننا وصلنا العاصمة فعلا واصلنا - بعد استراحة - الطريق فكان في استقبالنا مشهد لا يقل خطورة عن كل ما مر بنا فيها، شاحنة بلا حواجز جانبية تحمل أعمدة من حديد ربطت بحبال من قطن يكفي توقف مفاجئ عن حفرة – وما اكثرها- أو تجنبا للاصطدام بسيارة سائق مستعجل لتنفلت منزلقة إلى من خلفها، غير أنها كانت فرصة لنا لنتأكد أن الإهمال والاستهتار بأرواح الناس ليس مظهرا من مظاهر الحياة في الولايات المنسية شرقا، فهذه الشاحنة أيضا تمر أمام قيادة أركان الجيش الوطني، وقبالة نادي ضباطها الذين يحرصون على أمن المواطن ومصلحته..
ليختم الأمل طريق بموت آخر ..