على مدار الساعة

موريتانيا إلى أين: مفترق الطرق الأخطر..

15 يونيو, 2022 - 11:16
بقلم: محمد يسلم يرب ابيهات - beihatt@gamil.com

اشتغل الرأي العام مؤخرا بقضية اللحمة الوطنية، والخطاب الشرائحي وخطورته، وضرورة نبذه والابتعاد عنه. والحق أن ما دار من نقاشات، وما تبعه من مواقف رسمية، وغير رسمية، كل ذلك يدل على وجود مشكل أعمق يتمثل في طفو كل "المسكوت عنه"، أو إن شئت قل، بروز "كل الإخفاقات" و"الإشكاليات" التي صاحبت نشأة الدولة الموريتانية الحديثة، منذ الولادة، وما عرفته تلك الإشكاليات من تعقيد وتشعب فيما بعد. لذا من الوارد أنه من فترة لأخرى، تعاود تلك "المعضلات" طرح نفسها بشكل تلقائي وطبيعي، طالما لم تجد تسوية نهائية، ترضي الجميع.

 

ولاستجلاء جوانب هذا النقاش المحتدم بشكل أعمق، سننطلق في معالجتنا هذه من مسلمات، نؤكد في البداية على ضرورة الانطلاق منها كمسلمات بالنسبة لجميع الموريتانيين؛ لا تغيب إلا عن ذهن من لا يعلم شيئا عن الولادة القيصرية لـ"الجمهورية الإسلامية الموريتانية" كدولة حديثة؛ فقد ولدت موريتانيا، بحق، في ظروف صعبة، إقليميا، وقاريا، وعربيا، ودوليا. تلك المسلمات هي:

1. موريتانيا، في أغلبيتها السكانية، دولة عربية (بيظان وحراطين)، عربيةٌ هويةً وكينونةً، إفريقيةٌ جغرافيا؛ وهي دولة ذات أقليات زنجية (بولار، وسوننكه، وولوف)، وهي أقليات أصيلة؛ تقبلت، بل احتضنت وتمثلت، بكل فخر واعتزاز، المنظومة القيمية السامية للحضارة العربية الإسلامية.

 

2. موريتانيا ليست جزءا من المملكة المغربية، ولا من الجزائر؛ ولا هي جزء من مالي ولا السنغال، من باب أحرى؛ وستشكل لاحقا، وبعد استقلالها، واعتراف المغرب بها سنة 1969م؛ الدولة الخامسة في "اتحاد المغرب العربي"؛ وهو الإطار الوحدوي الطبيعي لشعوب المغرب العربي الكبير؛ لكنه الإطار الذي حاربته الفرنكوفونية بشراسة، وبخبث منقطع النظير. ولا زالت تحاربه.

 

3. موريتانيا في السياق الاستعماري الحديث، ولدت بقرار فرنسي - وهي، في هذه النقطة بالذات -، ليست استثناء في العالم العربي؛ لكنه قرار جاء استجابة لاستحقاق حضاري، لشعب له مقوماته الحضارية وخصوصياته القومية، ونتيجة مباشرة لنضال بطولي خاضه الموريتانيون ضد المستعمر. كان أول من تفاجأ بشراسته، وخطورته، المستعمر الفرنسي نفسه؛ وسيعترف بذلك فيما بعد؛ حيث لم تكن المقاومة عسكرية فقط، بل تمثلت في رفض مطلق للمستعمر وثقافته.

 

4. اللغة العربية ليست فقط هي اللغة الرسمية للبلد، كما هو مقرر دستوريا، وإنما هي الجزء الأكبر، والمكون الأهم في تشكل الهوية الموريتانية، والناظم الأساس لكل مقومات "العروبة والإسلام" لدى الشعب الموريتاني. وهي كذلك، بشهادة الأدلة التاريخية الثابتة، ظلت طيلة القرون السابقة للعهد الاستعماري، لغة جميع الموريتانيين، زنوجا وعربا، في التدريس والمراسلات، على حد السواء.

 

5. لقد بات من المسلم به أن مكافحة آثار الاسترقاق والغبن، والتهميش، والإقصاء، هي القضية الوطنية الأولى اليوم، وهي بدون أدنى شك كذلك، وبامتياز. فمكافحة آثار الاسترقاق، والقضاء بشكل نهائي على العبودية ومخلفاتها في بلادنا، أصبح مطلبا يتصدر جميع المطالب لدى كل المواطنين الموريتانيين. ومما يمكن تسجيله هنا، بارتياح كبير، هو مستوى الإجماع الكلي الذي وصلت إلية هذه القضية اليوم، بين جميع الفرقاء السياسيين، والمجتمع المدني، والحكومة.

 

6. الإسلام ليس دين الدولة الرسمي فحسب، وإنما هو الجامع الأكبر، والناظم الأساس لكل المنتمين إلى الهوية الموريتانية. فلا تجد شعبا، من بين كل شعوب الدول العربية الحديثة، اعتنى بجدلية "العروبة والإسلام"، وعالجها العلاج الأمثل، وارتقى بالتماهي بين المُكَوِّنَيْنِ الناظمين لها، العربية والإسلام، إلى أرقى مستويات التلازم والارتباط، كما فعل الشعب الموريتاني.

 

إذا، انطلاقا من هذه المسلمات، نرى كم هو مجانب للصواب، وغير منصف ما يطرح في الحقل السياسي من أفكار خطيرة، وهدامة، لم يعد السكوت عنها واردا، بحال من الأحوال. فمن رافض بوقاحة وصلف للغة العربية، إلى داع صراحة إلى الانفصال للولايات الشمالية، وآخر إلى إنشاء دولة "جمهورية الوالو - والو" في الجنوب؛ مرورا بداع إلى التفرقة بين أفراد المكون الواحد، ومتعمد للشتم والسب الصريح "للبيظان"؛ وصولا إلى داع إلى رمي "البولار" في البحر؛ وانتهاء بالداعي إلى تأسيس منظمة أو تنظيم "اجعبن" في ردة فعل اتسمت بالعنف – اللفظي على الأقل -، وهو أمر مرفوض بتاتا. لأن العنف، أو العنف في الطرح، أو طرح العنف، أو الدعوة إليه، كل ذلك مرفوض رفضا باتا.

 

ويظل الأبشع من نماذج الطرح السمجة والفجة هذه كلها، ذلك الطرح الذي يدعو إلى التفرقة بين المكون الواحد، وتمزيقه، ممهدا بذلك الطريق إلى حرب أهلية، لا قدر الله؛ لا يحلم بها ولا يتمناها لهذا الشعب المسلم المسالم، إلا مجرم، عدو لنفسه، وشعبه، وأمته، وللإنسانية.

 

فعندما يمتطي أحدهم صهوة الشرائحية والعنصرية البغيضة، ليجعل من قضية "لحراطين" أو الأرقاء السابقين العادلة، مثلا، معولا لهدم الكيان الموريتاني ككل؛ فسيجد الجميع رافضين لطرحه، وأفكاره، ومزاعمه، وأطروحاته؛ وسيجد أن أول من يعارضه هم الأرقاء السابقون أنفسهم. فهؤلاء، لم يبلغ بهم الشعور بالحيف والظلم الاجتماعي، أبدا، حدَّ المطالبة بالانفصال عن "البيظان"، أو دعوى أنهم ليسوا "بيظانا".

 

فـ"الحرطاني" بيظاني، وسيظل كذلك، لسانا، ودينا، وسلوكا، وشعورا، وممارسة ثقافية، وانتماء حضاريا؛ نعم "لحراطين"  بيظان، بل في الدرجة الأولى من "البيظان"؛ من خلال تخاطبهم بلغتهم الأم، "الحسانية"؛ ولبس الدراعة والملحفة، والاستماع  بشغف منقطع النظير إلى التيدنيت، وآردين، والنيفارة، والكمبري؛ وأشرطة "سدوم وديم" و"عليه وكرمي"؛ وبـ"لعب الدبوس" وشرب الدخان التقليدي "امنيجه"؛ وبحلقات "المدح" المسائية التي تنظم في كل ليلة، وفي كل قرية من قرى موريتانيا الأعماق، وهي حِلَقُ مديح لسيد الخلق، لا تتغيب عنها فتاة، "بيضاء" ولا "سمراء"؛ وبالدور المحوري الذي أصبحت تلعبه زفة "بنجه" في كل أعراس البيظان؛ في لحظات أخص خصوصيات المناسبات الاجتماعية لفتيان وفتيات موريتانيا؛ والذين، والحق يقال، لم تحل "السحنة" أو "لون البشرة" في يوم من الأيام بين التساكن والتعايش، والتزاوج بينهم، في انسجام تام وتوحد، وأخوة وتراحم وتعاطف، منقطع النظير. فلا تجد مثلا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أعظم دولة حديثة اليوم، نفس الانسجام النفسي، والروحي، والمعيشي، والثقافي، بين الأرقاء السابقين وأسيادهم من البيض الأمريكيين.

 

إذا، لا مجال للحديث في موريتانيا عن نظام "فصل عنصري" أو "آبارتايد"، قائم على مُكوِّنٍ يدعى "البيظان" وآخر يدعى "لحراطين" ، بمعزل عنه أو يتمتع بمميزات ذاتية على حدة؛ فالواقع على الأرض يكذب ذلك، والسلوك اليومي لكل من  "البيظاني" و"الحرطاني" يخبرك أن المكون واحد، اسمه "العرب الموريتانيون" بسحنة سوداء أو داكنة أو بيضاء، لا يهم؛ ما دام اللسان واحد، والدين واحد، والعادات والتقاليد واحدة، والمخيلة واحدة، والزي في الملبس واحد، ونمط العيش في المأكل والمشرب واحد.

 

هي إذا وحدة التاريخ، والواقع المعاش، والمستقبل المشترك؛ وهي قضيتنا الوطنية الأولى، ولا يمكن استغلالها للتفرقة بين أبناء المكون الواحد؛ لذلك، لن يجد أي من دعاة التفرقة سبيلا إلى التمييز بين "لحراطين" و "البيظان"؛ إذ هما نسيج مجتمعي عربي إسلامي واحد، صهرته وحدة المكان والزمان، والمعتقد والملة، والقيم والمثل، والمعاناة المشتركة، ولَحَمَتْهُ كل هذه العوامل للأبد؛ وخلقت منه كيانا منصهرا كالصخر؛ فلن يستطيع أي معول هدم، مهما "تَصَهْيَنَ" وأوغل في العدائية، والكراهية، أن يهدمه.

 

ولكن توجد بالتأكيد مشاكل كبيرة، نعاني منها جميعا كموريتانيين، لكن أيضا، من المؤكد والمسلم به، أنها لن تجد حلها في العنصرية، ولا الكراهية، ولا في تبادل الشتائم والسب، ولا في الدعوة إلى التفرقة والانفصال، والتشرذم. وإنما تتطلب تضافر الجهود، وصدق النوايا، وتغليب المصلحة العليا للوطن، وصون الوحدة الوطنية، والحوزة الترابية، والدين الإسلامي، واللغة العربية. وجعل هذه المشتركات ثوابتا ومقوماتٍ للدولة الموريتانية التي ننتمي إليها جميعا.

 

ولعل من أمثل طرق العلاج، المساهمة الفكرية في الطرح الهادئ والمتريث، لكافة القضايا والمشاكل، من أجل الإسهام في تناولها تناولا معمقا، يستجلى جميع جوانبها، ويستشرف آفاق الحلول، والردود الممكنة على جميع تلك المعضلات. وهو ما سنحاول الإسهام فيه، وإن كان ذلك بجهد المقل، من خلال ما يلي:

 

أولا: مشكلة الأقليات الزنجية.

مشكل مكانة الأقليات الزنجية وتمثيلها السياسي، وحضورها، وإشراكها في اتخاذ القرار؛ هي قضية لازمَها إذكاءٌ من طرف المستعمر، ممثلاً في "منظمة الهيمنة الاستعمارية" التي تدعى "المنظمة الفراكفونية"؛ وكذا التدخل المباشر، وغير المباشر، من طرف فرنسا نفسها، لتغذية الخلافات، مهما كانت بسيطة، لتجعل منها قضايا "ظلم" و"حيف" و"إقصاء" بل و"إبادة" تمارس ضد هذه الأقليات.

 

ولم أتفاجأ حقيقية، خلافا للكثيرين، من الحدة التي عرفها الطرح، في الآونة الأخيرة، من طرف البعض في هذه القضية. ولعل مرد ذلك، هو احتضان بلادنا منذ سنين عديدة، لدعاة العنصرية من المتطرفين الزنوج، الذين ينضوون تحت لواء "مشعل" الزنوج في موريتانيا؛ المعروف باسم "قوات التحرير الإفريقية الموريتانية" وهو فصيل عنصري يزعم أن موريتانيا دولة إفريقية احتلها العرب. وإن كانوا كما يقال، قد نبذوا الدعوة الصريحة إلى العنف، واختاروا، على حد زعمهم العمل السياسي السلمي، إلا أنهم يواصلون طرح أفكار انفصالية خطيرة؛ ويدعون صراحة إلى "الانفصال" بين الجنوب والشمال، عبر قيام "اتحاد فيدرالي"، بين كيان للزنوج، وهي الدولة التي يطالبون بقيامها، ويطلقون عليها اسم "جمهورية الوالو- والو"، وكيان ثان للعرب البرابرة، على حد زعمهم. والأدهى والأمر من ذلك أن هذا الطرح، بدأ يلقى آذانا صاغية من طرف بعض المتطرفين. وهو لعمري، طرح سخيف، متهافت، لا يقوم على بصيرة، ولا منطق سليم. فلا الزنوج في الجنوب قادرون على إنشاء دولة وحدهم؛ ولا غالبيتهم تريد ذلك ولا تطمح إليه. وللمتأمل في حالة انفصال دولة جنوب السودان، مع وجود فوارق كبيرة بين الحالتين؛ خير درس وأكبر مرشد، على أن الدعوة إلى الانفصال ليست من الحكمة في شيء؛ ولا تحل مشكل التعايش إطلاقا، وإنما تفاقم أوضاع ساكنة، يطحنها الفقر، والجوع، والجهل، والمرض.

 

ثانيا: مكانة اللغة العربية.

لقد ظل مشكل اللغة العربية مطروحا، ولا يزال، فيما يتعلق بمكانتها في الدولة الموريتانية الناشئة، نظرا لارتباطها بالهوية العربية الإسلامية لكل الموريتانيين؛ وسعيِ المستعمر الدؤوب إلى تغليب لغته، ودعمه الدائم لـ"فرنسة" الإدارة الموريتانية، وكل مفاصل الدولة؛ ومحاولاته المتكررة، والمتواصلة، لفرض اللغة الفرنسية كلغة رسمية قبل العربية؛ والهيمنة المطلقة للغة الفرنسية على القطاع الاقتصادي، والإداري؛ وكل مجالات التسيير في القطاع العام والخاص، للدولة الموريتانية الحديثة.

 

وهكذا نجد أن أغلب الموريتانيين يناهضون هيمنة اللغة الفرنسية في بلادهم، ويتحفظون كثيرا على "الفرانكوفونية"، لأن موضوع اللغة العربية والتمكين لها، مرتبط عندهم بمشكل أكبر وأعمق يتمثل في هوية البلد ومقوماته الحضارية. وأحيل القارئ هنا إلى مقال كتبته منذ سنين، تحت عنوان: "اللغة وصراع الهوية"، فلا يزال واردا ومهما. ومما قلت فيه:

«...فاللغة تبلغ من الأهمية والخطورة، ما لا يقل عن الأرض والشعب والسلطة. إنها، بالتحديد، وخشية الإطالة، هوية كل مجموعة بشرية معينة، وأداة تواصلهم، ووسيلة تحصيلهم للمعارف، وخزان قيمهم، وملخص ماضيهم، وقوام حاضرهم، وضمان مستقبلهم، وميْسمهم الخاص بين الأمم؛ ومقياس رقيهم وازدهارهم، تستمد حيويتها وانتشارها وإشعاعها واستعانة الآخر بها من مستوي الرقي والتقدم الحضاري لأهلها. هذا هو الحال بالنسبة لكل لغة.

 

أما بالنسبة للغة العربية، التي هي لغة الموريتانيين جميعا، لأنها لغة القرآن، ولا داعي للتذكير هنا بما يرمز إليه القرآن في حياة كل مسلم، فهي لغة مقدسة، خالدة، عالمة، راقية. وهي، بدون أدني شك، إحدى أهم لغات العالم المتحضر، سمحت قدما بانتقال المعارف والعلوم اليونانية والإغريقية، إلى العالم الغربي المتبجح اليوم، والمتنكر لجميل هذه اللغة الفذة. وهي اليوم اللغة الخامسة عالميا من حيث الأهمية والانتشار، حسب التصنيفات التي تذكر وتنشر.

 

وما دامت اللغة العربية بهذه الصفة وعلى هذا القدر من الأهمية، وهي مع ذلك بالنسبة للموريتانيين جميعا، إما لغة أم، أو لغة ملة ودين، وثقافة ومحيط، فلماذا شكلت موضوع خلاف، حول ترسيمها كلغة وطنية رسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية؟  خصوصا إذا علمنا أن المستعمر الفرنسي حين قدم إلى هذه الرقعة المترامية الأطراف، لم يجد أمامه إلا الحرف العربي. فكانت كل مراسلات الفلان في بلاد التكرور بشكل عام، والسوننكي، والوولوف، لا تكتب إلا بالحرف العربي. وكانت لغات هذه الأعراق ولا تزال تستخدم المفردات والمصطلحات العربية، وتكثر فيها الاقتباسات، بشكل طبيعي وتلقائي من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وهذه حقيقة تاريخية، يعرفها الجميع ولا ينكرها أحد.

 

كل ذلك للتأكيد بشكل مؤسس وموثق، حيث يقوم على حقائق تاريخية، على أن اللغة العربية لم تكن ولن تكون أجنبية على أي موريتاني، ليست لغته الأم، فما بالك بالغالبية الأغلب، التي هي لغتها الأم.

 

وما دامت الحالة هذه، فللمرء أن يستغرب أن تكون اللغة العربية قد شكلت، ومنذ السنوات الأولي لفترة ما بعد الاستقلال، أحد أعتى وأقسى وأصعب مواضيع الخلافات التي برزت على السطح، وأكثرها حساسية، بين مكونات الشعب الموريتاني، فور الشروع في بناء الدولة الموريتانية الحديثة» اهـ.

 

وإن كان من إضافة أضيفها اليوم، بهذا الخصوص، فإنما هي المزيد من التأكيد على أن استكمالنا لسيادتنا الوطنية - وهي معركة طويلة! - لن يتعزز ولن يترسخ إلا بالتمكين للغة العربية؛ مع ضرورة التعجيل بقرار سيادي يتمثل في اختيار اللغة الإنجليزية، كلغة انفتاح أولى على العالم. فهي اللغة الأولى عالميا، في مجالات التكنولوجيا، والتجارة الدولية، والبحث العلمي. وأغتنم الفرصة هنا لأطلب من الرئيس الحالي، فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، أن يكون صاحب هذا القرار، حيث سيسجل له التاريخ ذلك، وستنعم أجيال موريتانيا المستقبل بهذا القرار، حين لن تعود مسجونة داخل قوقعة "افرنكوفونية" استعمارية، متخلفة. وحين يصبح بإمكان كل شاب وشابة موريتانية التمتع بمزايا اللغة الإنجليزية كلغة لحضارة اليوم؛ والاستفادة من مزايا إتقان اللغة الإنجليزية بعد أن يتم إحلالها محل اللغة الفرنسية، كلغة عمل في بلادنا؛ وهو ما سيشكل، دون أدنى شك، ضمانة للانفتاح الحقيقي على العالم الحديث، بمعارفه، واكتشافاته، وتطوره المتسارع بشكل يحبس الأنفاس. فبدل الإصرار الأعمى على التمسك باللغة الفرنسية، يجب إحلال اللغة الإنجليزية مكانها، بقرار سيادي، مهم على أكثر من صعيد، ويَخْلُدُ به ذكرُ متخذِهِ، ويقدمنا أشواطا، ويختصر لنا مسافات كبيرة.

 

ثالثا: مشكلة الهوية الموريتانية.

رافقت مشكلةُ الهوية الموريتانية صعوبةَ تَشَكُّلِ وقيام الدولة الموريتانية ما بعد الاستقلال، فكان لا بد من معرفة من هو موريتاني؟ ومن ليس كذلك؟ وماهي المعايير التي يجب توفرها في الشخص حتى يكون موريتانيا؟ حيث ظل التأرجح متبعا، ما بين مَبْدَأَيْ "الجوس سانكيني" (مبدأ الدم أو العرق) و "الجوس سوليس" (مبدأ الأرض)؛ وهو ما خلق ارتباكا، رعته بعض من الأنظمة المتعاقبة، عن قصد أوعن غير قصد؛ مما عَقَّدَ صدور قانون "الجنسية"، ومعالجة الحالة المدنية، وتنظيمها، وتحديثها.

 

وليست موريتانيا وحدها التي واجهت وتواجه مشاكل تعريف الهوية الوطنية، وتأطير وضع أسس ومبادئ قانون منح الجنسية فيها. ففي الدول الأكثر تقدما لا يزال المشكل مطروحا، وتتعدد وتختلف الآراء حوله بحسب اختلاف الانتماءات والمرجعيات الفكرية والسياسية. ولم يكن الأمر سهلا بالنسبة لبلادنا، حيث عرفت فوضوية عارمة في منح الجنسية، لكل من يقطع نهر السنغال قادما من القارة السمراء، ليجد آنذاك سلطات ضعيفة، وقانونا هشا، ورشوة مستشرية، وفسادا "افرانكوفونيا" منظما، يسمح بسهولة، بمحاولة التماهي، ودعوى الانتماء إلى المكونة الزنجية في موريتانيا. وهي مكونة أصيلة في موريتانيا، معروفة الأصول والمنشأ، ولا يمكن لأحد المزايدة على انتمائها إلى موريتانيا. ولكن شكلت تلك الوضعية الصعبة، في السنوات الأولى من عهد الاستقلال، تحديا كبيرا لمختلف الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم. ولم يحسم قانون الجنسية الموريتاني مشكل محاولات التجنس والتجنيس الكاذب والمزور؛ حتى أنعم الله بالتقدم التكنولوجي، حيث أتاح مؤخرا ضبط الحالة المدنية في بلادنا عن طريق نظام بيومتري حديث، وبقرار سيادي شجاع للحكومة الموريتانية، يقضي بإنشاء الوكالة الوطنية للوثائق المؤمنة. ولم يكن إنشاء هذه الوكالة حلا لمشكل تنظيم الحالة المدنية فحسب، بل أصبح يشكل إسهاما منقطع النظير في معرفة من يستحق الأوراق الثبوتية الموريتانية ومن لا يستحقها.

 

لكن الهوية الموريتانية لا تزال تجد تحديا آخر ممتثلا في دعوات المتطرفين الزنوج الذين لم يقبلوا في يوم من الأيام الانصهار الحضاري في المنظومة القيمية للهوية العربية الإسلامية لموريتانيا. بل ظلوا يحاربونها، ويعادون كل دعوات الأئمة الأعلام من أمثال المصلح والداعية والمربي الكبير، الشيخ الحاج محمود با، رحمه الله رحمة واسعة، وأمطر على قبره شآبيب الرحمة والرضوان؛ مؤسس مدارس الفلاح لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي. وظلوا يحاربون كل "المستعربين" من الأئمة وشيوخ المحاضر في منطقة الفوتا - تورو- وما أكثرهم.

واستعانوا- أي المتطرفون الزنوج - في دعواتهم الانفصالية بمناصرة "افراكوفونية" بغيضة وجدوا فيها أكبر دعم وعون على محاربة التمكين للغة العربية، ومحاربة تعريب الإدارة الموريتانية؛ فحاربوا كل ما يصب في انصهار جميع مكونات الشعب الموريتاني في مرجعية قيمية هي في الأساس "عربية إسلامية"؛ دافع عنها ولا يزال أئمة أعلام، وعلماء أنحاب، وقضاة بارزون، وشعراء مفلقون من منطقة "الفوتا"؛ كانوا صادقين في تدينهم، وحبهم للنبي العربي، الهاشمي، الأبطحي، سيد الكونين والثقلين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله. وكان الانتماء الحضاري إلى العروبة والإسلام مفخرة وشرقا لكل هؤلاء؛ وهم من كان يُعوَّلُ عليهم بالأساس في تشكيل مرجعية وطنية موريتانية موحدة، متمثلة في اللغة العربية وحضارتها، والدين الإسلامي وقيمه السامية. لكن "الفراكوفونية" البغيضة، ظلت، ولا تزال تقطع الطريق على هذه النخبة من الشرفاء الكرام، من مثقفي، وعلماء، وفقهاء الفوتا - تورو؛ الذين لا يبغون عن اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية بديلا. فلولا الطرح "الفرانكفوني" الخبيث لقضية التعايش بين أقلية زنجية، لكن مسلمة ومعربة اللسان في نخبتها العالمة، وأغلبية عربية مسالمة بطبعها، بحكم بساطتها البدوية؛ لكان التعدد العرقي مصدر غنى وإثراء ثقافي يلتحم فيه الإفريقي بالعربي فينصهر انصهارا بديعا، فينتج ذلك المثقف الإفريقي الموريتاني الذي يفخر بانتمائه الحضاري إلى العروبة والإسلام، مع التشبث بأصوله الزنجية؛ ولولا الطرح "الفرانكفوني" الخبيث ، لما عانت بلادنا من تعدد الأعراق فيها؛ بل لولا هذا العدو "الفرانكفوني" الخبيث وأذياله من المكونتين العربية والزنجية، لما وجد بالأساس ما يسمى اليوم بمشكل تمثيل الأقلية الزنجية. وللأمانة، لم تشهد هذه الأقلية - مع كل ذلك - أبدا مشكلَ تمثيلٍ سياسي ولا إداري في موريتانيا، بل وصلنا في بعض الأحيان إلى درجة استئثارها، وهي أقلية، بالمناصب الإدارية والسياسية. وما ذلك إلا نتاج تواطء إجرامي خبيث بين المستعمر، فرنسا، ونخبة "افرانكوفونية"، من المكونتين العربية والزنجية، من أذيال فرنسا وأتباعها؛ الذين لا يريدون لموريتانيا أن تشم رائحة الانتماء لا إلى العروبة ولا إلى الإسلام، أصلا. فلولا تدخل المستعمر الخبيث بثقافته الغازية، ولغته المهيمنة، لما حال حائل دون انصهار الجميع، تلقائيا، وبشكل طبيعي، في بوتقة الحضارة العربية الإسلامية العظيمة، التي تسع الجميع بقيم السلام، والأخوة، والعيش الهنيء المشترك، تحت ظل سقفها الوارف.

 

إذا، موريتانيا دولة عربية حضاريا، بكل مكوناتها، من حيث الهوية والمرجعية القيمية والعَقَدية، والانتماء الحضاري الشامل؛ وهي إفريقية جغرافيا بعد ذلك، ولم، ولن تتنكر لكل الروافد الغنية من الثقافة الزنجية العريقة، لأقلياتها الزنجية الأصيلة، والتي ستظل تشكل مكونا راسخا من مكونات الدولة الموريتانية، تعتز المكونة العربية، بمقاسمتها هموم، وأوجاع، وآمال، موريتانيا الحبيبة.

 

ربعا: إشكالية مكافحة آثار الاسترقاق والغبن، والتهميش، والإقصاء:

هل ستكفي جهود الدولة التي قيم بها، ويقام بها حتى الآن، تحت وصاية المندوبية الوطنية لمكافحة الفقر والغبن والتهميش والإقصاء "تآزر". أم لا بد من القيام بخطة أكبر وأشمل، على غرار خطة "مارشال" الشهيرة مثلا، للتعجيل بانتشال "المهمشين" من واقع مزر، لم يعد يحتمل؛ لضمان لحاقهم، بمستوى إخوتهم الآخرين، على الأقل فيما يخص الحد الأدنى من ظروف العيش الأساسية، من مسكن، ومطعم، وملبس، وصحة، وتعليم، ورعاية اجتماعية، وتمويل لمشاريع اقتصادية مدرة للدخل، وإنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة.

ذلك ما سبق وأن ناديت به، في مقال منشور تحت عنوان: "رسالة مفتوحة لإغاثة أكباد مقروحة" موجهة إلى رئيس الدولة، فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، فور تسلمه لمقاليد الحكم في البلاد، وأجدد هنا التكرار بالدعوة إلى تبني ذلك المخطط الذي عرضت.

 

ويقع على عاتق الجميع، مسؤولية التصدي لكل آثار الحيف، والظلم، والغبن، والتهميش، والإقصاء؛ فهي القضية الوطنية الأسمى. وقد وضعها النظام الحالي نصب عينيه، منذ الوهلة الأولى؛ وهذه شهادة حق يستحقها هنا. إلا أن البلاء الحسن، والجهود الجبارة التي تقوم بها مندوبية "تآزر"، لا تكفي لوحدها، فلا بد من انخراط جميع الموريتانيين في عملية القضاء التام على كل آثار العبودية والاسترقاق في بلادنا. فهي قضية الموريتانيين الأولى اليوم، ولقد أصبحت محل إجماع من طرف الجميع.

 

وهي قضية أصبح الموريتانيون، بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم، يدركون أنها تهمهم جميعا، وهي قضيتنا الوطنية الأولى بحق؛ لذلك يجب منع استغلالها للتفرقة بين أبناء المكون الواحد، من خلال تبنيها، وحملها كشعار خادع، خدمة لأجندات خفية، أو طموحات فردية، أو لأهداف سياسية؛ وقد بات الجميع يعي ضرورة تصدر مكافحة آثار العبودية للبرامج والخطط التنموية لبلادنا. وأحيل القارئ هنا، مرة أخرى إلى مقال آخر كتبته منذ سنين كذلك، تحت عنوان: "جميعا من أجل القضاء نهائيا على مخلفات الاسترقاق"، لا يزال، هو الآخر، يتمتع بنفس الأهمية. ومما قلت فيه:

«...ولأن القضاء التام والحاسم علي آثار الرق والعبودية أصبح واجبا، بات لزاما على كل واحد منا أن يحوّل هذا الموضوع إلى قضيته الأولى وأن يعتبرها معركة مقدسة يخوضها شخصيا، من أجل تعزيز الوحدة والسلم الاجتماعي، ومن أجل الحفاظ على لحمة شعبنا الواحد.

فالعبودية في جميع تمظهراتها وتجلّياتها، وطفْوها على السطح، من حين لآخر، نتيجة مسلكيات أضحت غير قانونية، وغير شرعية، يصرّ البعض عليها إصرارا آثما؛ تماما كما يصرّ آخرون على استغلالها سياسيا من أجل بثّ التفرقة وزرع الشقاق والنزاعات؛ هي قضيتنا جميعا. فما علينا إلا أن نتناول الموضوع بالشكل الصحيح، أي الذي يخدم ويعزز الوحدة الوطنية. علينا إذا تحويل هذا الموضوع إلى موضوع الساعة، فنتناوله في نقاشاتنا، وحواراتنا، وفي أحاديثنا العادية حول الشاي، وخلال زياراتنا العائلية، في الصالونات، في المكتب، في التاكسي، في الشارع، في المسجد، في المدرسة، في المقاهي؛ في كل مكان، وحيثما نمر، علينا أن نوضح الموضوع ونطرحه بالشكل الصحيح الذي يخدم المصلحة العليا للوطن، والشعب الموريتاني، ويحافظ على أمنه، واستقراره، وسلمه. علينا بالتأكيد ذلك، حتي نتمكن من:

1. تجاوز هذه المرحلة من تاريخ بلادنا، وذلك عبر القيام بإنجاز أعمال تضامنية عملاقة، يكون لها وقع كبير وأثر طيب علي إخوتنا الذين لا يزالون يعانون من آثار الاسترقاق. ولم لا يكون ذلك عبر خطة كبيرة، كـ ''خطة مارشال'' مثلا؛ لكن بطريقة وطنية محضة، عكس خطة مزعومة من هذا القبيل، تروج لها مجموعة من ''المسْتائين'' و''الممتعضين''، وتعوّل على فرنسا في تمويلها!؛

 

2. العمل على منع ''تسييس'' هذه القضية، والحيلولة دون تحقيق حلم كل من يحاول "تسييسها"، كائنا من كان، ليحقق بذلك أهدافا سياسية، ولغرض ملأ الجيوب، والتكسّب على حساب الضعفاء والمحتاجين. كما علينا أن نسدّ الباب أمام الذين يسعون إلى التفرقة بين مكونات شعبنا، الذي عرف كيف يتعايش سلميا على مرّ العصور، وسيبقي كذلك - إن شاء الله - موحدا بأقوى رابطة، هي آصرة الدين الإسلامي الحنيف الذي يقوم أساسا علي العدل والإنصاف والمساواة، والتآخي والمحبة والتضامن.

 

فإذا نجحنا في اتخاذ موقف رزين، متبصّر ورشيد، يقضي: من جهة أولي، أن نكون "مصرّين إصرارا فعليا ونشطا، على القضاء نهائيا على مخلفات الرق؛ وأن نكون مصرّين كذلك، من جهة ثانية، على عدم تسييس الموضوع نهائيا؛ فإننا نكون بذلك قد وفقنا في كسب الرهان، ونكون قد رفعنا أكبر تحد يواجه بلدنا، وأبعدنا عنه شبح أكبر خطر يهدّده. وتلك أمنية كل الموريتانيين، وذلك رجاؤهم، بمختلف مكوّناتهم» اهـ.

 

 

خامسا: مشكل ثنائي "القبيلة - الشريحة":

القبيلة، كمجموعة أسرية، تربط أفرادَها أواصرُ الرحم الضيقة والقرابة اللصيقة، هي شكل تجمع تقليدي أصيل لدى العرب أساسا، ورد ذكره في محكم التنزيل، لكن لقصد التعارف؛ ولا يزال موجودا بشكل لافت، في معظم الدول العربية اليوم. أما الشرائحية، فهي تقسيم مجتمعي موريتاني بائد، توجد لها بالطبع أوضاع مشابهة، خصوصا في الدول الإفريقية الأكثر تخلفا. وهي في موريتانيا، ربما تكون أعتى، وأدهى شراسة، نظرا لتسخير حيز كبير من الموروث الثقافي، للأسف، لتكريسها إلى حد مؤلم؛ مع عدم تشكل نخبة تتصدى لها بما فيه الكفاية، بغية محاربتها والقضاء عليها.

 

ونحن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مطالبون جميعا، بالتصدي لها، وبكل حزم، وعلى جميع المستويات، كل من موقعه، وحسب جهده، سواء على المستوى الحكومي أو الشعبي. وأكاد أجزم أن الإجماع منعقد على هذه المسألة، على مستوى المثقفين على الأقل. فلا أظن أي مثقف يحترم نفسه يمكنه نكران ضرورة محاربة القبلية والشرائحية. ويبقى التفاوت، من وجهة نظري، مرتبطا بمدى جدية التشكيلات السياسية، والنخب الفكرية، والقيادات المحلية، والمنتخبون، والناشطون في المجتمع المدني، والإدارة؛ في مدى جدية كل هؤلاء بالانخراط في وضع خطط عملية ملموسة، على أرض الواقع، من شأنها القضاء على هذه المتلازمة الخطيرة على الدول حديثة النشأة، حيث تحول الشرائحية إلى حد كبير دون المساواة في الفرص، وتعوق التلاحم بين مكونات المجتمع الواحد؛ فيما تزاحم القبيلة القرار السيادي للدولة، وتربك جهود  تطبيق القوانين في مكافحة اختلاس المال العام، باحتضان المسؤولين عنه، وتجهض كل جهود البناء، وقيام دولة العدل والمساواة في الفرص أمام الجميع. وعلى ذكر المساواة في الفرص، يلاحظ المتتبع للشأن العام في موريتانيا، مدى الخلل الكبير، والتكريس الخطير الذي لعبته القبيلة لظاهرة تولى أبناء ما يسمى بأولاد "لخيام لكبيره" لمعظم المناصب القيادية في الدولة الموريتانية الحديثة. وذلك بالرغم من غياب أي قانون يكرس ذلك، فلا وجود لأي نص في الدولة الموريتانية الحديثة يسمح بذلك؛ إلا أننا نلاحظ أن هذه الظاهرة استشرت، لحد أن بعض المحللين السياسيين الأجانب، من المتتبعين المهتمين لِحَدِّ التخصص في الشؤون الموريتانية، يتحدثون عن "نظام الحكم القبلي" أو "حكم البيظان"، في الدولة الموريتانية الحديثة، التي يخضع فيها تقاسم السلطة، على حد زعمهم، إلى منطق القبيلة والشريحة والجهة والفئة. ولئن كنت لا أذهب مع هؤلاء إلى هذا الحد من التصنيف، المجافي للحقيقة، إذ يوهم تعمد نمط الحكم، لتغليب مكونات على أخرى، وهو أمر غير صحيح بالمرة؛ إلا أنني أسجل بكثير من الأسى، سقوط جهود "دمقرطة" الحكم عندنا، في فخ القبلية والشرائحية البغيضة؛ حيث لازم إذكاءُ هذه الظواهر السلبية كلَّ محاولات الأنظمة المتعاقبة للحصول على الشعبية الزائفة، وضمان أصوات الناخبين في الاستحقاقات الانتخابية كلها. فنجد البعض حتى من التشكيلات الحزبية السياسية العريقة، يعمد إلى تكريس ظاهرتي القبلية والشرائحية، في نوع من البراغماتية السلبية تماما، خلال فترة الانتخابات؛ وحتى في تشكيل هيكلته الداخلية الخاصة به كحزب سياسي، من المفترض فيه تجاوز القبلية والشرائحية، بل محاربتها كظواهر سلبية، معيبة ومشينة. فنجد الأحزاب، والتنظيمات السياسية، تكرس هذه الظواهر المنافية لأبسط مبادئ الانتماء الحزبي والسياسي الحداثي، والعصري التقدمي. ولا استثني هنا فصيلا سياسيا، ولا حزبا، ولا نقابة، ولا هيئة. الكل مارس وكرس، وإنْ على درجات متفاوتة، بشكل أو بآخر هذه الظاهرة المشينة، والقادحة في الأهلية المدنية والحداثية لكل الفرقاء السياسيين في بلادنا. فهي إذا ليست مختصة بالحزب الحاكم، ولا بالأحزاب المعارضة، وإنما هي عامة وشاملة. فكان من الطبيعي، والحالة هذه، أن لا يصل إلى المناصب القيادية، في الغالب، إلا القادمون من عملية التكريس لظاهرتي القبلية والشرائحية. لذلك من السهل تفسير ظهور عادات مرضية، أصبحت تنخر في مجتمعنا كنخر دابة الأرض في منسأة سليمان عليه السلام؛ كالعقلية المشينة التي تقضي بإعلاء المنزلة والمكانة الاجتماعية لمختلسي المال العام، ووصف من يقوم بذلك بـ "أفكراش"، ووصف الواحد من النزهاء الأشراف، المتعففين عن أكل المال العام بـ "المنفوش" وهي عقلية جهنمية، سادت منذ 1978م؛ واستشرت في عهد "دَخَّلْ شِ" وتواصلت، للأسف الشديد، حتى يومنا هذا. عقلية تكرس لمسلكيات تتنافى مع أبسط مقومات الدولة المدنية الحديثة، دولة سيادة القانون، والمساواة في الفرص، ومنح نفس الحقوق، والتكليف بنفس الواجبات، اتجاه الوطن. وأين نحن من ذلك.

 

فلن تقوم قائمة لدولة موريتانية حديثة، طالما سادت هذه العقلية الخطيرة، وطالما تمادينا على السكوت عنها، وهو سكوت بغيض يعني في الحقيقة تكريسها، بعدم التصدي لها. ولن تنفع جميع قوانين مكافحة الفساد، ما دامت هذه العقلية متفشية، وسائدة في المجتمع. أضف إلى ذلك العذابات، والمعاناة النفسية العميقة، لفئات عريضة من المواطنين، ليس لهم من ذنب سوى أنهم ينتمون إلى إحدى الشرائح التي تلاصقها أحكام مسبقة، وأنواع من الأفكار والأحكام النمطية، تكرس لدونيتها، وسفالتها على سلم "قيمي" جائر. وما هي في الحقيقة إلا عبارة عن "تواطآت" مجتمعية غاشمة، ورثناها للأسف من عهد "السيبة"؛ وهي مفاهيم بائدة، جائرة، ظالمة، زائفة؛ ما أنزل الله بها من سلطان. ولقد آن الأوان، للتخلص منها ومحاربتها بسن قوانين صارمة، تجرم المدافعين عنها، والمروجين لها.

 

وتبقى الخطوات الملموسة على أرض الواقع، من قبيل التزاوج والمصاهرة؛ وعصرنة الموسيقى والفن، حتى يتاح للجميع، ولا يبقى مِلْكاً مخصصا، وحكرا محصورا على "شريحة ايكاون"؛ وفتح الأبواب أمام الشباب، والحث على المهن الحرفية، والتركيز على تثمين وتمجيد العمل اليدوي، وإعادة الاعتبار إلى الصناعة التقليدية، وتطويرها، حتي لا تبقى محصورة في شريحة لمعلمين" وحدهم؛ والامتهان الحديث لمهن الزراعة والرعي؛ حتى لا تبقى هي الأخرى ميادين محصورة في "لحراطين" و"آزناكة"؛ والحث على التكوين المهني، في أسلاك دراسية متوسطة في مجالات البناء، والميكانيكا، والكهرباء، والسباكة، واللحامة، وإتاحة التكوين المهني المكثف أمام الشباب الموريتاني من مختلف الفئات والطبقات، حتى لا تبقى هذه المجالات الحيوية للاقتصاد الوطني، حكرا على العمالة الأجنبية الوافدة.

 

وسيكون، بالتأكيد، للتربية المدنية في المدارس، وتوجيهات الشيوخ على المنابر، والأساتذة في الكليات والمعاهد، والشيوخ في المحاظر، الدور الأكبر، الذي لا بد أن يلعبوه، بالتوجيه، والوعظ والإرشاد والحث والحض على التوحد، والتآخي، والتآلف؛ حتى نتخلص نهائيا من هذه الشرائحية المعيبة، البغيضة والآثمة.

 

ويحق لنا هنا، بل يتعين علينا، كشهادة حق، أن نورد اقتباسا من خطاب رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في الـ10 من شهر ديسمبر 2021 م؛ في مدينة وادان، بمناسبة افتتاح مهرجان مدائن التراث، حيث قال فخامته:

«وإن مما يحز في نفسي كثيرا ما تعرضت له هذه الفئات في مجتمعنا تاريخيا من ظلم ونظرة سلبية مع أنها في ميزان القياس السليم ينبغي أن تكون على رأس الهرم الاجتماعي فهي في طليعة بناة الحضارة والعمران وهي عماد المدنية والابتكار والإنتاج.

‏ولقد أن الأوان أن نطهر موروثنا الثقافي من رواسب ذلك الظلم الشنيع وأن نتخلص نهائيا من تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تناقض الحقيقة وتصادم قواعد الشرع والقانون وتضعف اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية وتعيق تطور العقليات وفق ما تقتضيه مفاهيم الدولة والقانون والمواطنة.

‏‏وإنني من هذا المنبر لأدعو كافة المواطنين إلى تجاوز رواسب هذا الظلم في موروثنا الثقافي وإلى تطهير الخطاب والمسلكيات من تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية الزائفة. كما أدعوهم جميعاً إلى الوقوف في وجه النفس القبلي المتصاعد هذه الأيام والمنافي لمنطق الدولة الحديثة ولما يقتضيه الحرص على الوحدة الوطنية وكذلك لمصلحة الأفراد انفسهم، فليس ثمة ما هو أقدر على حماية الفرد وصون كرامته وحقوقه، من وحدة وطنية راسخة في كنف دولة قانون حديثة.

‏‏وأود بالمناسبة تشديد التأكيد على أن الدولة ستظل حامية للوحدة الوطنية والكرامة وحرية ومساواة جميع المواطنين بقوة القانون وأيا تكن التكلفة، كما أنها لن ترتب حقا أو واجبا على أي انتماء إلا الانتماء الوطني» اهـ.

 

كل ما ذكرناه يؤدي حتما إلى ضرورة الانتباه، وأخذ الحيطة والحذر، وإدراك الجميع أن المنعطف خطير، والظرف دقيق؛ والبلد بحاجة إلى معالجة عاجلة وحازمة، لكل الإشكاليات المطروحة.

 

معالجة تغلب مصلحة موريتانيا الدولة، والربوع، والحمى؛ وتجعل صيانتها مقدسة لدى للجميع؛ لنضمن بذلك العيش الكريم للأجيال القادمة؛ على أرض طاهرة معطاء، رغم القساوة والتصحر؛ ومواصلةِ جهودٍ محمودةٍ لأسلافٍ كرامٍ، اتخذوا ظهور العيس مدرسة، وأثبتوا معجزة "البداوة العالمة"؛ فهي، إِي وربِّي، ربوع تفدى بالمهج والأرواح، وتوضع صيانتها فوق كل اعتبار.