على مدار الساعة

تعزيزُ المرجعية المالكية مدخل من مداخل الاستقرار

4 أغسطس, 2022 - 11:31
الشيخ عبدي الشيخ - طالب بمدرسة الدكتوراه، مكونة: التاريخ الحديث والمعاصر

كثيرة هي المقاربات التي وضعها خبراء ومختصون في قضايا الأمن والاستقرار للتعامل مع حزمة المخاطر والتحديات التي تعيشها منطقة الساحل والصحراء باعتبارها قوس أزمات، وأرضية خصبة لنمو خطاب الجماعات المتطرفة التي تتناسل في هذه المنطقة بشكل غير مسبوق وتشكل تهديدا عميقا لدول الإقليم ومجتمعاته بل و للعالم أجمع، فخلال العَقدين المنصرمين عرفت بلادنا انتشارا ملحوظا لفكر وخطاب الجماعات السلفية غير المعتدلة مما جعل مواجهة حملة هذا الخطاب أولوية على مختلف الأصعدة، ولئن اتفقنا على نجاعة المقاربات الأمنية التي رسمت لمواجهة هذه المعضلة، وحصافة اعتماد مبدإ الحوار كأسلوب أمثل لتغيير بعض القناعات المتطرفة وإعادة أصحابها إلى جادة الصواب، فإننا في مسيس الحاجة إلى خلق توافق عام حول ضرورة ترسيخ وحماية منظومتنا الفكرية ذات الأضلاع الثلاث، عقيدة أشعرية وفقه مالكي، وتصوف جنيدي.

 

انفردت هذه المنظومة الفكرية منذ قرون بتدبير المجال الديني وتأطيره عبر شبكة من الفقهاء ومشايخ التصوف، وقد حاول فقهاء ذوو نزعة سلفية الخروج على هذه المنظومة رافعين لواء الإصلاح والتجديد لكن تلك التجارب الفكرية وإن تم قمعها ظلت تطل برأسها بين الحين الآخر محاولة اختراق جدار المنظومة السميك.

 

شكل خطاب الحركة السلفية الذي تسرب إلى الساحة الفكرية بشكل قوي مطلع السبعينيات تحديا قويا للنخبة الفقهية التي وجدت نفسها فجأة أمام سيل من الأفكار الغريبة عليها وعلى مجتمعها فاحتد النقاش بين حملة الأفكار الجديدة وبين أبناء المنظومة الفكرية الشنقيطية وحدث تسيُّب وميوعة في الفتوى الشرعية راكم الأزمة وعمَقها فنشأ عن هذا الوضع خطاب فكري مأزوم وحساس ومتشنج، أصبحت مواجهة هذه الخطاب الذي تغذيه أوضاع دولية معقدة أمر بالغ الاستعجالية لضمان الاستقرار.

 

اختلفت زوايا النظر إلى الأزمة وتبعا لذلك اختلفت سبل علاجها بين من يرى المقاربات الأمنية المحكمة كفيلة بتطويق المشكل والتغلب عليه، وبين من يدعو إلى العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية العامة وخلق سياسات تشغيل فعالة للحد من ظاهرة الغلو والتطرف، وبصرف النظر عن تلك المعالجات فإن مقالتنا هذه تسعى إلى الانطلاق من مسلمة مفادها أن تماسك أي مجتمع وثيق الارتباط بمدى حفاظه على مرجعياته الفكرية التي صاغت ذهنيته العامة وكان لها عميق التأثير على مسار تكوُنه وتطوره، وهنا نتساءل متى تسربت المالكية إلى البلاد؟، وكيف تم ذلك؟ وما هي تجليات رسوخها؟ وهل يواجه هذا الرسوخ تهديدات ما؟، وكيف يتم التعامل معها؟

 

لسنا هنا في وارد التأريخ لدخول المذهب المالكي إلى موريتانيا "بلاد شنقيط" قديما فذلك مبحث يتطلب جهدا ووقتا لا نتوفر عليهما وإنما مرادنا القول إن الحركة المرابطية التي قامت في هذه البلاد خلال القرن الخامس الهجري كان من فضائلها أنها أنتجت وحدة مذهبية للسكان الصحراء ونشرت الإسلام السني بعد أن تمدد في الصحراء إسلام فيه غاشية من الإباضية التي استقر بعض أتباعها في صحراء الملثمين.

 

وقد تحدث ابن حوقل والبكري وابن أبي زرع عن الكثير من النحل والمذاهب التي سادت بلاد المغرب الأقصى قبل القرن الخامس الهجري، وكان تكاثر هذه المذاهب وارتداد بعض القبائل عن الإسلام دافعا للمرابطين إلى العمل على ترسيخ المذهب المالكي وتشجيع تدريس كتبه ومنح الفقهاء المالكيين الحظوة لدى أمراء الدولة وإشراكهم في القرار السياسي.

 

ويرى أحد الباحثين أن طبيعة المذهب المالكي من حيث جوهره قوامها الإبعاد عن أساليب أصحاب علم الكلام وتعقيداتهم كما أنه يمتاز بصفة المرونة والتجدد، والتكيُف مع مختلف البيئات لذلك تقبله أهل الصحراء لبساطته ووضوحه، فالصنهاجيون يميلون دائما إلى الأفكار التي تلائم حياتهم المتمثلة في زهد موغل في البساطة، وورع صارم يتمثل في صرامة الأحكام وسد الذرائع والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة، ومراعاة العرف وما جرى به العمل.

 

بعد أفول الدولة المرابطية وقيام الموحدين على أنقاضها تسلل بعض تلامذة القاضي عياض عميد المدرسة المالكية في المغرب إلى بلاد شنقيط فأسسوا حواضر علمية كانت بداية نهضة فقهية شنقيطية ستبلغ أوجها خلال القرنين 11 و12 هــ. حيث ازدهرت المعارف ونشطت الحركة العلمية وحظيت المتون الفقهية المالكية بكثير من الاهتمام والرواج لا سيما مختصر الشيخ خليل ابن إسحاق المالكي الذي تعلق به أهل هذه البلاد تعلقا قل نظيره فهو المعتمد في الإفتاء والقضاء والتدريس وشاعت مقولة "نحن قوم خليليون إن ضل خليل ضللنا"، ويكفي للتدليل على مكانة "خليل" إيراد البيتين التاليين:

قبضتُ على ديني بنص خليل *** وإن لامني في ذاك كلُ خليل

وإن سألوني عن دليلي وحجتي *** أقول خليلي حجتي ودليل

 

لقد ساهم هذا الانسجام المذهبي كثيرا في تقوية أواصر اللحمة الاجتماعية وتمتين الروابط بين مختلف مكونات المجتمع وشرائحه، فعلى الرغم من غياب سلطة مركزية في هذه البلاد فإن الوحدة المذهبية لسكانها خففت من غلواء غياب السلطة وتنوع الأعراق، فلو انضاف للوضعية المذكورة تعدد في اختلاف المذاهب أو المدارس الفقهية لربما انهد بنيان المجتمع من أصله فاختلاف المدارس يوقع في أخطاء جسيمة ناشئة عن تعدد الفهوم والخروج بآراء شاذة ومهجورة لا تعبؤ بأعراف المجتمعات وعاداتها وخصوصياتها، فالتمذهب يضمن اعتماد منهجية مطردة في التعامل مع النوازل والمستجدات ويحجب دون وقوع منازعات أو بعبارة أخرى يمكن القول إن وحدة المرجعية الفقهية تدعم التماسك الاجتماعي بفضل الانسجام الطوعي الذي يعم كافة أطياف المجتمع.

 

وهنا يكون الحديث مستساغا حول المخاطر التي تهدد مرجعيتنا الفقهية وآليات التعامل معها، لعل من أهم المخاطر هو حالة الجمود أو الغياب التي تعتري المؤسسات الدينية الرسمية، التي تتقوقع في نمط من التدين الجامد وتشهد حالة من الرتابة والتكلس تجعلها غير قادرة على المشاركة الفعالة في ما يستجد على الساحة من نوازل وقضايا، ويفتح هذه الغياب الباب واسعا أمام تسيُب الفتوى وعدم انضباطها، لأن المؤسسات التي أوكلت إليها مهمة الإفتاء والقيام على الشؤون الدينية لم تسد الفراغ بما فيه الكفاية.

 

إن تفعيل هذه المؤسسات: المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، هيئة العلماء الموريتانيين، اتحاد الأئمة، لجنة الأهلة، لجنة المساجد والمحاظر، والاستثمار فيها عن وعي ضروري جدا لإعادة الاعتبار لمسألة المرجعية، فالفتاوى والمنابر مدخل من مداخل المتشددين فبدون ضبط هذا الحقل وتسييره تسييرا عادلا ستكون كل مقاربة حول الاستقرار مثغورة ومشوهة.

 

في هذا السياق من المفيد العناية بتراث الفقهاء وإخراج مؤلفاتهم إلى النور والتعريف بجهودهم في الإفتاء والتدريس وإصلاح مجتمعهم، وإنشاء كراس علمية تحمل أسماء بعض من خدموا المدرسة المالكية وساهموا في نشر المذهب المالكي وذبوا عن اختياراتهم الفقهية. كما يجب العمل على تعزيز شرعية فقهاء المؤسسات الدينية عبر منحهم حظا من الاستقلالية في الرأي حتى لا تتضرر شرعيتهم لدى الجمهور فيتضاءل تأثيرهم ويخبو بريقهم.

 

مراجع معتمدة:

- حماه الله السالم: "الأصول الفكرية لدولة المرابطين" دراسة منشورة على موقع "المجلة" بتاريخ 11 نوفمنبر 2012

- محمد ولد محمد فال ولد التيجاني: الفقه المالكي في بلاد الغرب الإسلامي: تاريخه، نشأته، مراحله، دراسة منشور على موقع مؤسسة: "مؤمنون بلا حدود" بتاريخ 18 ديسمبر 2021.

- الخليل النحوي: بلاد شنقيط: المنارة والرباط، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1989

- بوها محمد عبد الله سيدي: الهوية الثقافية والدينية لبلاد شنقيط "موريتانيا" مقال منشور على الشبكة.