على مدار الساعة

مفهوم التدبر وأهميته وأهدافه وفوائده

27 أغسطس, 2022 - 15:11
بقلم الدكتور المهابة محفوظ ـ أستاذ مشارك

تتطرق هذه العجالة إلى استعراض معاني التدبر ومداراته عند المفسرين والمتدبرين من علماء هذه الأمة وبيان أهميته، وما يحققه من أهداف علمية وتربوية وخلقية في حياة المسلم، وما يمكن أن يقف عليه الباحث من فوائده وأثره المركزي والفعال في حياة المشتغلين به من العارفين.

 

 وليس الاشتغال بالتدبر بدعا في حياة الربانيين بل هو مقصد من مقاصد التنزيل، ومحور من محاور الهداية  ومناط للفقه والدعوة والاستنباط بل إن العلم تحت تدبر القرآن كما نص على ذلك العلامة ابن القيم.

 

أولا: مفهومه

التدبر في اللغة مشتق من مادة "د ب ر" وهي" تدل على آخر الشي وخلفه، يقال دبَّر الشيء وتدبَّره: نظر في عاقبته واستدبره رأى في عاقبته ما لم ير في صدره، والتدبر في الأمر التفكر فيه"[1].

 

التدبر عند المفسرين:

1-قال العلامة الألوسي: "وأصل التدبر: التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه"[2].

 

 وقد ورد لفظ "التدبر" على صيغة التَّفعُّل للدلالة على التكلف والتعقب والنظر مرة بعد مرة وكرة بعد كرة لحصول الأثر الناجم عن المجاهدة التي يجعلها المتدبر عنوانا لجهده ونصبه واجتهاده في تحقيق المراد.

 

 ويتركز عمل المتدبرين الذين جعلوا القرآن ربيع قلوبهم على تفعيل الوظائف الروحية للقلب والوظائف الفكرية والتأملية للعقل البشري قصد حصول العبرة والعظة والانتفاع فكان التدبر عند الامام ابن القيم:

2-قال ابن القيم:"هو تحديق ناظر القلب إلى معاني القرآن، وجمع الفكر على تأمُّله وتعقُّله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر"[3].

 

 3-وقال الخازن: "أصل التدبر: النظر في عواقب الأمور، والتفكر في أدبارها، ثم استعمل في كل تفكر وتأمل، ويقال "تدبرت الشيء" أي: نظرت في عاقبته، ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه، والتفكر في حكمه، وتبصر ما فيه من الآيات".[4]

 

 4- وقال الإمام السيوطي: "وتسن القراءة بالتدبر والتفهم.. وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان مما قصَّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذ أو تنزيه نزَّه وعظَّم، أو دعاءٍ تَضَّرع وطلب".[5]

 

 5-وقال الإمام الشوكاني: "إن التدبر هو التأمل، لفهم المعنى، يقال: (تدبرت الشيء) تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبر أن يدبر الإنسان أمره، كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته"[6].

 

ويتجلى من تعاريف المفسرين هنا كالخازن والسيوطي والشوكاني والشنقيطي والسعدي وغيرهم أن المعول عليه عندهم في تفسير معاني التدبر هو الرجوع إلى حقيقته اللغوية وبناء المعاني التفسيرية وتأسيسها على المعاني اللغوية مما يدلنا على افتقار معنى التدبر إلى اكتمال المعاني الاصطلاحية كما في معاني الصلاة والزكاة والحج.

 

 ولا تختلف عبارات المعاصرين كثيرا عن هذه المعاني يقول الشيخ عبد الرحمن حَبنَّكة الميداني معرفا التدبر: "التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة"[7].

 

 6-وقال الشيخ سليمان السنيدي: "تدبر القرآن هو تفهم معاني ألفاظه والتفكر فيما تدل عليه آياته مطابقة، وما دخل في ضمنها، وما لا تتم تلك المعاني إلا به، مما لم يعرج اللفظ على ذكره من الإشارات والتنبيهات وانتفاع القلب بذلك بخشوعه عند مواعظه، وخضوعه لأوامره، وأخذ العبرة منه"[8].

 

 7-ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "هو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك"[9].

 

 8-ويقول العلامة الشنقيطي في أضوائه: "تدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها، وتفهمها، وإدراك معانيها والعمل بها"[10].

 

وحاصل الأمر أن التدبر هو الوقوف على المعاني والعواقب تفكرا وتبصرا وإحاطة وتفهما وتدقيقا وتحقيقا واستنباطا وتمحيصا قصد الانتفاع والامتثال والتطبيق وتجسيد مراد الله من إرسال الرسل ودعوة الخلق وهدايتهم.

 

 ولا شك أن النظر في أحوال السلف يدلنا على مهارات التدبر وغاياته ومنافعه وثمراته: إحضارا للقلب، وإلقاء للسمع، وإمعانا للنظر، وإعمالا للعقل، وإخلاصا للنية، وحرصا على التوبة، وتغييرا للوجهة، واستكمالا لليقين، وتحقيقا للهدف من إنزال القرآن وبعثة الأنبياء والمرسلين، وبيانا لما للتدبر في حياتهم من أهمية.

 

ثانيا: أهميته

 تتجلى أهمية هذا الموضوع فيما يأتي:

1- تفعيل منهج التدبر في الفهم والاستقراء والاستنباط والتحليل.

2- تفعيل منهج السياق في الوقوف على مقاصد القرآن وحكمه.

3- الجمع بين التدبر والسياق في الممارسة والنظر والتوجيه.

 

ثالثا: أهدافه

ويسعى هذا المقال إلى تحقيق الأهداف التالية"

 

1-حصول الهداية وزيادة العلم والعظة والاعتبار في حياة المتدبرين والمشتغلين بمقاصد القرآن وبيان أن التفسير ليس هو التدبر ولا يغني عنه، لأن التفسير مجرد وسيلة والتدبر غاية من غايات التنزيل.

 

2-تفعيل منهج الدراسة المصطلحية من خلال دراسة مصطلحيْ "التدبر" و"السياق" دراسة تضبط حدود المفاهيم والعلاقات الدلالية وتوظفها في الفهم والتحليل والاستنباط.

 

 3- التعريف بأثر السياق وأهميته في حصول الفهم من خلال النظر والتدبر في الآيات القرآنية وكذلك التفكر في الآيات الكونية.

 

4-توظيف الروافد التربوية والإيمانية في الميادين المختلفة عن طريق تفعيل المقاصد والأوامر والقيم القرآنية في حياة الأمة.

 

5- توظيف علم الوجوه والنظائر في فهم الألفاظ والمصطلحات القرآنية وحل المشكلات الدلالية من خلال الفروق السياقية الدقيقة.

 

6- إحياء منهاج التدبر وتفعيل مضامينه في القراءة والفهم والتطبيق من خلال مدارسة القرآن ومصاحبته والوقوف عند عجائبه وتحريك القلوب به وتثويره كما قال ابن مسعود.

 

7- دراسة أركان التدبر ومقتضياته وقواعده واستخراج فوائده.

 

رابعا: فوائده

ولبيان بعض من فوائد التدبر وثمراته في حياة الأمة نلخص جملا من كلام العلامة ابن القيم توضح لنا أن التدبر هو أفضل علاقة تكون بين العبد وكتاب ربه، فهو قول وعمل وسمت وحياة فكرية كريمة في رياض القرآن، وهو عملية منهجية تربوية عقلية روحية تبعث الهداية الحقيقية في القلب، وتحقق النتائج والمخرجات التالية:

 

الفائدة الأولى: "إنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما. وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة.

 

الفائدة الثانية: تثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.

 

الفائدة الثالثة: تُشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها.

 

الفائدة الرابعة: تُعــرِّفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم.

 

الفائدة الخامسة: تـُعرِّفه مراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

 

الفائدة السادسة: تعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

 

الفائدة السابعة: تـُعـرِّفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

 

الفائدة الثامنة: تُعرِّفه التمييز بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالَم؛ فتريه الحق حقا، والباطل باطلا، وتعطيه فرقانا ونورا: يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد؛ وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا.

 

الفائدة التاسعة: تُعرِّفه أن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما يُنزَّه عنه من سمات النقص كما تعرفه تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات: في خلقه وأمره"[11].

 

ونضيف إلى هذه الفوائد القيمة للعلامة ابن القيم فوائد أخرى استنبطها الباحث من ممارسة التدريس والتدبر قد تجلت لنا من حين لآخر، منها:

 

الفائدة العاشرة: التدبر سبب للفهم والبصيرة والاعتبار والانتفاع والاستنباط.

 

الفائدة الحادية عشر: التدبر سبب للتفكر والسكينة والاجتهاد وإيقاظ الروح.

 

الفائدة الثانية عشرة: التدبر سبب لفهم السنن الإلهية وتوظيفها في الحياة على أكمل وجه ممكن.  

 

الفائدة الثالث عشرة: التدبر سبب للتفاعل الحي مع الوحي والقيام بحقوقه وواجباته وتدبير شؤون الحياة وفق مقاصد الدين.

 

الفائدة الرابع عشرة: التدبر سبب للمحاسبة وبصيرة للشهادة على النفس والعصر والنَّاس حتى يجعل اللهُ القرآن حجة لك وللنَّاس، لا حجه عليك وعليهم.

 

الفائدة الخامس عشرة: التدبر روح وطاقة ومنهاج حياة وعلم يخرج النفس والناس من الظلمات إلى النور، ومن الضياع إلى الالتزام، ومن الحيرة إلى اليقين.

 

الفائدة السادس عشرة: التدبر باب من أبواب الدعوة والمعرفة والفهم واليقين، وهو كذلك النور الذي يخرج الإنسان من الغفلة الى الذكر، ومن الشهوة الى التقوى، ومن حجب الهوى الى معارج التفكر، ومن الانبتات الى التبتل.

 

الفائدة السابع عشرة: التدبر منهج لتحقيق وظائف الرسل، وهو الروح الشاملة التي يجب أن تسري لا في الأعمال الدينية فحسب: من صلاة وذكر وتعلم وتعليم ودعوة ودعاء بل كذلك في كل الأعمال الدنيوية حتى تتصل مقا صد الحياة بمقاصد الدين.

 

الفائدة الثامن عشرة: التدبر من أعظم مقامات السير إلى الله تعالى والتقرب إليه على بصيرة، وهو من أقوى المناهج لتحقيق رؤية القرآن ورسالته وأهدافه الحيوية في الحياة.

 

الفائدة التاسع عشرة: التدبر طاقة متجددة ومتجذرة تمكِّن القلب من الوعي والتفهم، والعقلَ من التفكر والإبداع؛ وتعطي المؤمن ملكة الإمامة والتمكين والتحليق في الفضاءات القرآنية.

 

ولا جرم أن التدبر في النص القرآني يحتاج إلى تفعيل "منهج السياق" وأنواعه المختلفة لحصول "الفقه" و"العلم" و"العبرة" ووعيا مني بذلك كان جوهر البحث مؤسسا على الربط المعرفي والمنهجي بين علم التدبر وعلم السياق.

 

[1] - مقاييس اللغة لابن فارس. ج2 / 324: ولسان العرب لابن منظور، ج4/ 237

[2] - روح المعاني، ج5/ 92

[3] - مدارج السالكين لابن القيم، ج1: ،475

[4]-لباب التأويل في معاني التنزيل، ص: 1،: ج1/ 402

[5]-الإتقان في علوم القرآن،: ج1/127

[6]- فتح القدير، ج1/ 491

[7]-قواعد التدبر الأمثل للميداني، ص: 10

[8]-تدبر القرآن، ص: 11

[9]-تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن: ج1/ 189

[10]- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: ج7/ 429

[11] - مدارج السالكين، ج: 1/ 485 - 486