على مدار الساعة

إلى جنة الخلد يا والد الجميع!

29 أغسطس, 2022 - 14:29
إبراهيم الدويري

طيلة الأشهر الماضية كنت معرضا عن الشعر لا أتصفح ديوانا، ولا أستمع لإنشاد القوافي على كثرتها في اليوتيوب والوسائط الأخرى غير أني في هذه الأسابيع الأخيرة كنت لا أجد وقتا إلا استمعت لقصيدة مروان بن أبي حفصة اللامية المشهورة في رثاء الأمير معن بن زائدة الشيباني، هذا الأمير المخضرم الذي عاصر الدولتين الأموية والعباسية، واستطاع لقوة عزيمته، وعلو همته، وسخاء نفسه، وشجاعة قلبه، وكرم محتده؛ أن يكون الرجل الأشهر مدائح ومراثي ومناقب ومآثر في ذلك العصر المليء بالرجال الكُمَّلِ، وكنت كلما سمعت المآثر الخالدة لمعن بن زائدة في القصيدة التي أدمنتها مؤخرا تداعت إلى ذهني مشاهد حية من صفات الوالد الماجد والقانت الأواه رجل الدين والدنيا محمد فال ولد أحمدو "افال" برد الله مضجعه.

 

 

فهذا الرجل الفذُّ الذي تقضي قرية ازميته اليوم فاتح صفر الخير من عام 1444 هجرية الموافق 28 أغسطس 2022م يومها الحزين الأول بدونه منذ أسسها حوالي 1976م  وأشرف على مصالح أهلها إشراف الناصح الأمين والمحتسب الراشد، كان قائدا عصاميا جمع أطراف السيادة بحمله الكَلَّ وقراه الضيف وإعانته على نوائب الحق؛ فخلال عقود من الزمن لم ير أهل القرية "افال" خارجا من منزله المبارك إلا إلى الصف الأول في المسجد أو لجلب مصلحة عامة للقرية أو درء مفسدة عنها؛ فمن "لغليك" غربا بسده العالي وتعلمنا للسباحة فيه، وعطائه الزراعي في أعوام شديدة كان هو السلة الغذائية الرئيسية في القرية، إلى حنفيات الماء العذب شرقا وجنوبا إلى مصالح الناس في الإدارات وربط علاقات أخوية متينة مع القرى والقبائل المجاورة، واستقبال الضيوف من الرسميين والسائلين وعابري السبيل في كل هذا تجد افال يتصدى لحمل تلك الأثقال بصبر وأناة وانشراح صدر "كأنك تعطيه الذي هو سائله". 

 

 

في مطلع التسعينات وبداية هبوب رياح العولمة على القرى الموريتانية وقف "افال" بالمرصاد لكل المسلكيات المخالفة للشريعة من مظاهر البذخ واللهو المنحرف في المناسبات الاجتماعية وإطلاق الأعيرة النارية التي ترعب الناس وتزعجهم، إلى تحريم التدخين وبيع آلاته في القرية، وملاحقة لاعبي الورق، ومظاهر الاختلاط، فما كانت مثل هذه المناكر التي كانت كبائر في تلك الأيام يمكن أن تقام أو تمارس في حمى ازميته بسبب قرارات "افال" ومضاء كلمته وهيبة الناس له، فقد أرادها قرية مبنية على تقوى الله وتلاوة كتابه آناء الليل وأطراف النهار، وكانت كذلك في ذلك الزمن الجميل.

 

 

 وإن أنس كل شيء فلن أنسى مشهدا علق بالذاكرة وترك أثرا لم تمحه الليالي ولم تنل منه الأيام، فكيف أنسى تلك الليالي الشتوية القارسة التي كان شيخنا القرآني الأستاذ محمد المختار ولد أحمد زيدان يسكن عند "أهل افال القبليين" فكنا نأتي للدراسة ثلث الليل الأخير؛ فلَكَم رأيت بعيني وسمعت بأذني "افال" وهو الحافظ المتقن لكتاب الله قائما الليلَ يصلي في ذلك البرد القارس يتلو آيات ربه ويرجو رحمته مع مقاساته "للظيك": الربو) الذي كان يشتد عليه في فصل الشتاء فلا يمنعه ذلك من مناجاة ربه بتلاوة كتابه، وكان يتلو حتى تتوقف أنفاسه فيهدأ ثم يواصل {أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ}، وكيف أنساه وهو يقاسي الأنفاس بشدة وهو يتأنق في الحواميم، ويطرب في سورتي الرحمن والواقعة كأنه يغذ السير إلى ما وعد الله عباده المتقين وأصفياءه المقربين في تينك السورتين. 

 

 

آه يا أبا المكرمات يعرف كُلُّ مَنْ عَرَفَكَ وخَبَرَ عطاءك وصبرك وحلمك وعفوك وحسن ظنك بالله وبالناس  أن عدَّ الحصى أهون من إحصاء مناقبك، ويعلم الله يا أبتِ كم تهيبت هذا اليوم الذي تشرق شمسه بدونك، ولكنا لا نقول إلا ما يرضي الرب إنا لله وإنا إليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد فاجأنا خبر رحيلك يا افال، وأثقلت مصيبة فقدك كواهلنا؛ فمن يدلنا على معالي الأمور بعدك؟ ومن يأخذ بأيدينا إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟ ومن لنا بتلك الدعوات المباركات التي كانت تخرج من قلب حي متعلق بالله فتظلل أبناءك في أصقاع الدنيا فتنزل عليهم  بردا وسلاما وطمأنينة؟ وأين بعدك سنرى المكارم والمآثر في صورة رجل يمشي على قدمين؟.

 

 

حين علمت برحيلك ياوالدي حاولت أن أتماسك لمعرفتي أنك قادم إلى رب كريم طالما أحسنت به الظن، وإلى موقف طالما أعددت له ظمأ الهواجر وسهر الليالي، والإحسان إلى عباد الله، وكظم الغيظ والتعالي عن سفاسف الأمور، وحفظ اللسان وطيب المجلس طيلة قرن من الزمان كنت فيه الشاكر الحامد الصابر لكني حين أتذكر حال والدي وأخيك "بدَّ" وأنت آخر أخ له في الدنيا تخنقني العبرة ويكاد نشيجي يتعالى في غربتي ثم أتذكر أحاديث بَدَّ الحسان عنك وعن ذكره لمآثرك من صبر وشجاعة وإقدام وسخاء وجد، ثم يختصر تلك المآثر كلها بأنه لم ير أحسن منك سريرة، ولا أنقى قلبا، ولا أحسن ظنا بالله وبخلقه منك، وتلك شهادة من والدي شقيقك الذي تعلم تقديسه للصدق ومجافاته للمجاملات، وهي شهادة من رجل خبر الرجال في الأسفار ومواقف الشدة.

 

 

لن يجد أخوك بَدَّ اليوم أصدق فيك من قول كعب بن سعد الغنوي في أخيه أبي المغوار: 
لَعَمري لَئِن كانَت أَصابَت مَنِيَّةٌ ... أَخي وَالمَنايا لِلرِجالِ شَعوبُ 
لَقَد كانَ أَمّا حِلمُهُ فَمُرَوِّحٌ ... عَلَيَّ وَأَمّا جَهلُهُ فَعَزيبُ 
أَخي ما أَخي لا فاحِشٌ عِندَ بيته ... وَلا وَرِعٌ عِندَ اللِقاءِ هَيوبُ 
أَخٌ كانَ يَكفيني وكانَ يُعينُني ... عَلى النائِباتِ السُودِ حينَ تَنوبُ 
حَليمٌ إِذا ما سَورَةُ الجَهلِ أَطلَقَت ... حُبى الشَيبِ لِلنَفسِ اللَجوجِ غَلوبُ 
هُوَ العَسَلُ الماذِيُّ حِلماً وَشيمَةً ...  وَلَيثٌ إِذا لاقى العُداةَ قَطوبُ.

 

 

في آخر زيارة لك في فبراير الماضي كان الحمد يملأ فاك، والشكر يعطر لسانك تحدث زائريك بنعمة ربك عليك في الدين والدنيا والعمر الذي ملأته طاعة، وكانت إغفاءاتك الخفيفة جولة في ملكوت الله تحدث بعدها  عن أسلافك وما أعد الله للمتقين والأبرار، كانت مصافحتك بلسما يشفي جراح أبنائك وعيالك وكلنا لك أبناء وعيال، ففي مثلك يعزى الجميع وبنفسي أبدأ ثم أعزي أبناءك الأبرار جميعا وأعزي ازميته في مصابها الأجل، ولن نقول إلا ما يرضي خالقنا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهو حسبنا نعم الوكيل.