لقد شكلت صحبتي الأدبية مع الوالد في تلك الحقبة التكوينية الأولى من حياتي أساسا صلبا أدين له برصيدي اللغوي، وشغفي بالشعر العربي. ولم تكن مقامات الحريري هي الرافد الوحيد لرصيدي اللغوي والأدبي، فقد حفظت آلاف الأبيات من الشعر العربي، القديم والحديث. ولم أكن أكلف نفسي حفظ الشعر، ونادرا ما تكلفت في حفظ قصيدة أو أبيات شعرية، إذ كنت أتشرب الشعر تشربا دون جهد يذكر، وساعدني على ذلك ما وهبني الله تعالى في شبابي من سهولة الحفظ وقوة الذاكرة، فكانت القصائد والأبيات التي تعجبني وتطربني تعلق بذاكرتي تلقائيا، أما ما لا يعجبني من الشعر فقلما أحفظه، وإذا حفظته فسرعان ما أنساه أو أتناساه.
وقد أتيح لي بعد المرحلة التكوينية الأولى أن أطلع على الآداب العربية المعاصرة، وانفتحت لي نوافذ غير متوقعة على بعض الآداب العالمية. فقد شغفت خلال إعدادي لشهادة الثانوية بأعمال الشعراء الرومانسيين العرب المعاصرين، وخصوصا شعراء المهجر الشاميين، وأتيح لي الاطلاع على عدد وافر من أعمالهم، فساعدتني على صقل لغتي البدوية الكلاسيكية، والاقتراب أكثر من لغة الشعر العربي الحديث. كما اطلعت في هذه الفترة على عدد من أعمال الشعراء العراقيين، ومنهم بدر شاكر السياب (1926-1964)، ووجدت لديه قدرة على تفجير اللغة وتوليد المعاني لم أجد مثله لدى غيره من رواد الشعر العربي الحديث.
لكن يمكن القول إن ديوان "أغاني الحياة" للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1909-1934) كان من الروافد الأساسية التي شكلت شخصيتي الأدبية في تلك الأيام، ونقلتني من الأدب القديم إلى الأدب المعاصر. فقد ولعت بهذا الديوان أيما ولع، وكدت أحفظه كله، لما فيه من لغة مشرقة، وأخيلة بديعة. كما شغفت في تلك الأيام بشعر إيليا أبي ماضي (1890-1957) الذي لا أعتبره مجرد شاعر، بل هو فيلسوف حكيم، يزرع التفاؤل في النفوس، ويبعث البهجة في القلوب. وإذا كانت محاولاتي الشعرية الأولى خشنة العبارة، تقليدية الصور، بدوية المجازات، فإني سرعان ما تحررت من تلك القيود بفضل هذين الشاعرين وأضرابهما، من أمثال ميخائيل نعيمة (1889-1988)، وإبراهيم ناجي (1898-1953)، وبفضل نقاد من أمثال عباس محمود العقاد (1889-1964)، وسيد قطب (1906-1966).
وقد اطلعت في هذه المرحلة على العديد من كتب شوقي ضيف (1910-2005)، خصوصا سلسلته الطويلة تاريخ الأدب العربي. وهو إن كان ذا منزع كلاسيكي، فإنه يضع الأدب العربي في سياق الزمان، ويعين على فهم تطوره التاريخي.
لكن كتابي سيد قطب: "النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه"، و"كتب وشخصيات"، كان لهما أعمق الأثر في شحذ حاستي النقدية، وتحرري من قوالب الأدب القديم التي نشأت عليها. ويؤسفني حقا أن هذين الكتابين الجليلين لم ينالا حظهما من الاعتراف والتقدير، بعد أن غطت عليهما شهرة كاتبهما في الفكر الإسلامي، واستشهاده في سبيل الدعوة الإسلامية. ولو أن شخصية سيد قطب الأدبية نالت شيئا من الإنصاف، لرفع إلى مصاف عظماء الأدباء والنقاد في تاريخ الأدب العربي.
وأذكر أيضا أني اطلعت في هذه الفترة على ترجمات لأعمال الشاعر الهندي الكبير رابندرانات طاغور (1861-1941)، وأني شغفت بروحه الشعرية الرشيقة، وحكمته الفلسفية العميقة. والحق أني لا أستطيع أن أتذكر كل من قرأت لهم من الأدباء في حقبة المراهقة وبواكير الشباب، نظرا لوفرة ما قرأته. فقد كنت ألتهم كل ما يقع تحت يدي من أعمال أدبية، عربية أو مترجمة.