على مدار الساعة

الروافــد الأدبيـــة والتراثية للتحيز والتنميط الاجتماعي في موريتانيا ـ وجه نظــر حقوقية1

10 ديسمبر, 2022 - 10:19
عبيد ولد إميجن ـ رئيس منتدى الأواصر

دون الغوص في مفهوم التراث ودلالاته كما حددتها قواميس اللغـة أو درجت أدبيات اليونيسكو على تدقيقها، يجدُر بنا التنويـه بأهمية التراث الثقافي في حياة الشعوب والأمم؛ ليس من حيث دوره في ارتقائها وتطورها من الهمجية الى المدنية فحسب أو في تقدم الدول التي تولي المعرفة والتعليم والتربية العناية اللازمة فتشذبها وتهذبها من سيطرة الخرافة والجهل والعنصرية ارتقاء بذائقة الجماهير الجمالية، ولكن أيضا في كون التراث الثقافي قـد يسهم في انتشار السلوكيات الاتكالية ، وإلغاء العقل والوصايــة على الانسان استضعافا وغُبنا وهكذا يترهل ويضعف البناء المؤسسي والسوسيوـ ثقافـي للمجتمعات، إن لم تتدارك مسارها بالإصلاح والترشيد. لِذَا تُركز هذه الورقـة فـي عُجالــة على ما للمعايير الثقافية التي تواضع عليها المجتمع الناطق بالحسانيــة تحديــدا، ثم تناقلتها أجياله وقادته؛ من تأثير على أفــراد ومكونات الهامش ثـم على وحدة وانسجام الأمـة.

 

تهتــم اليونيسكو بالتراث الثقافي بناء على انتهاج مقاربتين عالميتين يعبر عنهما غالبا بتراث البشريــة الثقافـي المادي وتراثها الثقافي غير المادي (اللامادي)، فيما يعــد الصنف الثاني أحد الأولويات التي انخرطت فيها موريتانيا مؤخرا مبدية اهتمامها بصون وتثمين التراث الثقافي الخاص بسكانها متعددي الثقافات والخلفيات العرقية. وبالرغم من ان خطـة الحكومة لتنمية التراث الثقافي في موريتانيا تتضمن وعدا بـــ"حمايـة الهوية الوطنية الموريتانية" ثـم مُواصلـة تعزيز عملية صون وإعادة التأهيل لكافة أنواع التراث الثقافي من خلال "تسجيل التراث اللامادي" الموريتاني لدى المنظمات الثقافية الدولية المعنية؛ فإن التعاطي الرسمي والاعلامي مع التراث لا تتضمن حتى الآن أي بُعد نقدي لمروياته التقليدية أو سردياته المجتمعية، فالسياسات المعلنة يقتصر الراهن منها على الاحتفاء بالتراث بعمومه تقليدا وحفظاً وتـرويجاً دون اعادة النظر لما قد تتضمنه ثناياه مما يعيبُ المشترك الانسانـي والوطني! وفـي العقود الأخيـرة اتسعت دائــرة المشكل الثقافي بعد ظهور مزيد من الأصوات والتنظيمات والمنشورات مساهمة في صياغـة ما يمكن أن نسميـه بأزمة ثقة مجتمعية ومناخ متشكك فـي مستقبل التعايش بين موريتانيين مقيدين بحاضر مُثقل بوطأة التقاليد والسرديات والنعرات العرقية والقبلية.

 

من بين التناقضات الشائعـة نذكــر ما تتناقله أوساط المجتمع من مرويات وسرديات متداولة بشأن الأصوات واللكنات، القيم والاعتبارات، والتمييز على أساس اللون والأصـل والمنشأ والجنس. وفي هذا السياق لا يقتــصر التوجــه على مركزة شكل مُـحدد من الأنـماط المتداولة، فالتحيز ضد ممتهني المهارات الحياتية من حرفٍ وتصورات وأشكال ثقافيـة، بات عقيـدة ينشأ عليها الفتيان والفتيات في البيـوت بل وفي المدارس الأصليـة مع ما يرتبط بذلك من الامتيازات الموروثـة و الحظوة المضمونـة وغيرها من الأسس غير الموضوعيـة والتي تضمن لأناس مُـحددين المكانة الاجتماعية والسياسيـة و تتكفــل بالتــأثيــر سلبا على مسيــرة آخرين دون أن يكون لهم فـي وطأتها يـد أو لسان؛ وبالتالـي فإن تنميط حياتنا الاجتماعية والثقافية لـمْ يتركــ"ولْ آدم كَطَاعْ صُوكْ راسُو"، بل ان موروثا اجتماعيا معاشـاً ومتداولاً ومتخيلاً هو من يُـحدد مكانته ومصيره في الحياة، وداخل المجتمع بل وحتى فـي مؤسسات الدولة نفسها.  

 

اذاً فـي هذا الجــزء من المجتمع الموريتاني ذي النظام التراتبي أو التقسيـمي؛ يكتسب الفردُ مكانته على أساس الأصـل أو الملكيـة أو المهارات الحرفية، وما الى ذلك، وربما تقاســمت هذه التصورات المجموعة العربية والمجموعة الزنجيـة، على حدٍ سواء. وبشــكل عامٍ فإن الطبقات المشــارُ إليها آنفا هـم مـجموعـة من الأفراد ينطبق عليها التصنيف منذ الــولادة باعتبارهم اشخاصا ورثوا مرتبـة اجتماعيا أدنى ومن المطلوب إبقاؤهم قابعين في أسفل الهرم الاجتماعي فيطلق عليهم أحيانا "الشريحـة" أو المكون، وما الى ذلك من التقسيمات التي تزداد تعقيداتها أكثر لدى المـجْموعات السوننكيه والبولارية وشيئا ما لدى الولوف، حيث تحافظ الطبقية على وقعها الصارم.

 

ولمعرفـة كيف يتصرف البشـر ويتفاعلون مع بعضهم البعض اجتهد عالما الاجتماع روبرت موريسون ماكيفر و ابيج تشارلز هانت (1950) في إيجاد تعريف يُفيد بكـــون الشريحــة هي "جزء من المجتمع يتم تمييزه عن البقيـة حسب الحالة الاجتماعية". فيما يعتقد باسكوال جيسبيرت  P. Gisbert  من واقـع دراسته للتفاوت الطبقي في الهند الى أن الطبقة الاجتماعية هي "فئة أو مجموعة من الأشخاص اللذين يتمتعون بمكانة محــددة في المجتمع، بحيث توضح بشكل دائم علاقتهم بالمجموعـة الأخرى، فإلـى جانب الشعور بالتفوق والدونيـة، ينشأ مركز نسبي لتلك الطبقة بحيث يرتبط بوضعها داخل السلم الاجتماعي"، ويعتبر ابن خلدون ان هذه الشرائـح تعــدُ نتاجا طبيعيا لعوامل القُوة والغلبة الماديـة بحيث تلعب العصبيـة لدى المجتمعات البدويـة دورا أساسيا في مجال التماسك الاجتماعي ودفع جماعة معينة الى تشكيل قوة تدفعها الى اخضاع المجموعات الاخرى. أخضع الاشكال كذلك للتمحيص من لدن رواد الفلسفة الاجتماعية والمادية حيث اعتبر كانط أنّ كل كائن عقلاني له حق فطري في الحرية وواجب الدخول في حالة مدنية يحكمها عقد اجتماعي واضح، وكذلك دعا كارل ماركس الى أن المجتمع الجيــد هو المجتمع الذي يسمح لطبيعتنا البشريـة بالتعبير الكامل عنها. وبخلاف هؤلاء الفلاسفـة فإن القرآن الكريــم ينظر للإنسان كمخلوق كريم على الله، فقد خلق آدم بيديـه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريما للإنسان حيث هـو، تقول الآيـة: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البــر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". عطفا على ما سبق، ولكي نفهم الأمـر أكثر، نقول بأن التضاد يظهر جليا بالنظر الى ان القيم الدينية انما تُشيرُ إلى مجموع التصوّرات والمُعتقدات التي تحمل رؤية أفقيـة للبشرية بينما على مستوى الحياة الضيقة والممارسـة المجتمعيـة يحدث التباين الصارخ عموديا حيث يميل الناس على نطاق واسع للتهاون مع الانتهاكات المرتبطة بهذه القيــم، وهكذا لا يتمّ الفعل بعفو الخاطر، فهــو محكــوم بمسلكيات كرسها " التديّن الشعبي" على شكل سرديات طوطمية، ومرويات متداولة وعابرة للعرق والشريحة، وقد استفادت هذه الانتهاكات القيمية والمجتمعية كثيرا من غياب الدولة لقرون طويلة مما أنتــج انطباعات نمطيــة سائبة ظلت عصية على القوانين المعاصرة. 

 

تفصل دساتير الجمهورية الإسلامية الموريتانية بما فيها الوثيقة الصادرة بتاريخ 21 يوليو 1991 والمراجعة ما بيـن (2006، 2012 و2017) في مسألة الحــق في المساواة بين مُواطنيها وتُواظب القوانيــن المنبثقة عنهُ على مُواكبة التحولات القانونيـة والانسانيـة المصادق عليها من قبل الدولة الموريتانية حتى تنسجم مع القوانين الدولية والأممية، لذلك جرى اقرار قانون يمنع التمييز وتسـويق خطاب الكراهيـة، كما صادقت الحكومات على الاتفاقيات والمعاهدات المعنية بحماية حقوق الفئات الهشـة والاقليات، دون أن تطـال هذه الخطــوات التشريعيــة رؤيـة واضحـة لاستئصال العقليات والتصورات النمطيـة المتداولة، وقــد سمح هذا الوضـع الملائــم للمستفيدين من حالة الجمود بإعادة انتاج مكانــة مجموعات الهامش الموروثـة غيـر عابئين بمـوجات الرفض المتزايدة من داخل المجتمع. وعلى أرض الواقع فــإن شرائحا عديــدة وفئات عريضة وكذلك الأقليات في موريتانيا إنـما تتحــرك على مختلف الصُعد بهدف نيل المساواة التامة في إطار دولة الحق والقانون أو لتحقيق العدالـة كما يأملها إنسان سئـــم حالة الجمود والانتظار.      

 

والحال أن من يُتابع ويرصـدُ نمو الممارسة الديمقراطية، منذ تسعينات القرن العشرين، سيكتشف لامحالـة الحجــم المرجح لـمجموعات الهامش والثقل الديمغرافي لأصـواتها في مختــلف الاستحقاقات الانتخابيــة وعلى مستوى الفضاءات العامة. كما بات من سمات المشهد المشار اليه تزايد المطالبات بطي صفحــة التحيز والتنميط التي أثرت سلبا على مسار المكونات المغبونة والافراد المنحدرين منها. ومن صفوة القول أنه بعد مرور ما يزيد على ستين سنة من قيام الدولـة الموريتانيـة ما تـزال دلالات "الخـيمة لَكْبِيـرَة"4 تحمل في طياتها تركة ثقيلة من تقاليد الحيف وعدم الانصاف بحيث لا يمكن لأفراد المجتمع الاحساس بالتساوي فـي المــواطنة الحقة أحرى بالاندماج الاجتماعي المبني على خيار العيش المشترك.

 

أوصــاف قدحيــة مُذلـة

اذا كان للعديد من التصانيف والمؤلفات حظ من القيمة الانسانية والايمانية التي اسهمت في اشعاع الشناقطـة الثقافي عبر الصحراء، فإن للمرويــات الشفهية والسرديات المتداولة، شعرا وأحجيات وحكماً، اسهامها في ابقاء مكونات أخرى، وعلى كافــة صعد الحياة، رهن الهشاشـة والنبــذ، فقد جُعِلَ منهم أفرادا ومجموعات فاقـدة للأهلية القانونية والشرعية في أغلب جوانب المعاملات كالشهادة والبيوع والإمامة... فالعَبْـدُ على سبيـل المثال (وهي عبارة تطلق مجتمعيا أيضا على الحَرْطاني تنقيصا) لا عهد له ولا ذمة بالتالي لا يشهد، مثل ذلك في الأدب اللهجي:

ابلا عهد مفيد/  حد فر إتمتم

وابلا عهد لعبيد/   وابلا عهد لخــدم5

 

وشائع في المرويات والأدبيات المحظريـة أن لـمْعَلمْ، المعروف فـي الأشعار بـ"القين"، لا تصح شهادته ولا تصح إمامته:

شهادة القين ترد أبدا

والمقتدي به يعيد سرمدا6

 

تتسـم مواقف التحيـــز باستخدام التعميمات العاطفيـة وانعدام النزاهة في الحكم على الآخر بشكل مجرد من الأغراض والنوازع، ومن بين أهم نتائـج تلك الانزلاقات الشديـدة، نشوء صور وأحكام تحولت مع الزمن لتصبح تنميطا ثقافيا يجري رمي الأفراد والأسـر والأعراق وسط متاهاته الموحشة. وهكذا أسهم تزاوج الروافد الثقافيـة الأفروـ صنهاجيـة-الحسانية في موريتانيا عن ثنائيـة مبدئية التفضيل الموروث عن الأصل والمنشأ والانتماء، على حين تـم وضـع قواعـد معيبة وغير منصفة بحيث تنطبق على فئات الهامش دون غيرهم.

 

واذا كانت بعض صور التحيز التي وصلت، في مرحلة تاريخية معينـة الى حالة مرضية كإلصاق حالات من الاوبئة الوهمية (ظاهرة السًلْ مثلا)7 بهذه الفئات قد تراجعت الى حد بعيــد، ان لم تكن قد تلاشت، ففي وقتنا الحالي ما يزال المتداول زاخرا بالمرويات الشفاهية المليئة بالتوصيفات التحقيــرية والنعوت العنصرية التي تطال كافـة المكونات الأخـرى دون استثناء، وإن التمييز على أساس اللون والأصل والمنشأ ما يزال ظاهرة يصعب فكاك مجموعات كثيــرة منها. فلحراطين يتعرضون للتعييــر بضعف الذكاء وبالقابليــة للاستغلال (عبيـد وخدم)، فيما تضم النصوص الأدبيــة المتداولة ضمن المخيال الحساني ربطا للأسود بالجبن والقابلية للاستعباد، من ذلك المثل السائر الذي يقول: "غزي لعبيد: ما يحرك في انهار بيه الشمس، ء لا يحرك فالليل بيه لحنوشه" أو الغباء "زرع الخادم.."!.

 

وأما الفئات الأخـرى كإيكاون وآزناكه والنساء، فإن النصوص التراثيــة تجعلهم في مواجهة مع الدين نفسه، فـــ"لمرابط ماه صاحب إيكيو2"، و"النساء ناقصات عقلا ودينا"8. كما أن إيكاون بالذات يظلون، حسب المرويات المنتقصة منهم، خاضعين خانعين لدرجة أنهم لا يحتجّون حتى على الإهانة الجسدية، كما هو واضح في القول المأثور: "بطت إيكيو: يلحس اعليها اركط"2. ولأنها صور يسهل الصاقها بكل فئة وظيفية فلــم تسلم منها كذلك مـجموعات الزوايا و لعْربْ، فلكل منهما صفة قدحيــة يحاول غيره ضبط علاقته عبرها. 

 

فضحُ الإرثُ الاجتماعي  

تاريخيا، ساعدت النضالات المشهودة للموريتانيـين بقواهم الحقوقية والمدنية والسياسيـة على تجذر مبدأ المواطنة لدى الأجيال الحالية وهي التي تسعى الى استكمال المسيـرة من خلال التركيز على أسس الدولة الحديثة واستكمال السيادة الوطنيـــة وتحديث المجتمع، ومهما تكن طبيعة التعاطي بطيئة أو خجولة فإن الاستجابة الرسمية التي عبر عنها رئيس الجمهورية السيد محمـد ولد الشيخ الغزواني في خطاب وادان التاريخي، في العاشـر من دجـمبر2021 (اليوم الدولي لحقوق الانسان) والذي بين في ثناياه طبيعة الخلل الموجود في المجتمع الموريتاني: 

".. لقد آن الأوان أن نطهر موروثنا الثقافي من رواسب ذلك الظلم الشنيع، وأن نتخلص نهائيا من تلك الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تناقض الحقيقة، وتصادم قواعد الشرع والقانون، وتضعف اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية، وتعيق تطور العقليات وفق ما تقتضيه مفاهيم الدولة والقانون والمواطنة", انتهى الاستشهاد.9 

 

وفي ضوء الأفكار السابقة والتراكمات التنظيمية والحقوقية والفكرية أضفى قبول الأنظمة الموريتانية للعديد من المبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الانسان عن مكاسب قانونية مفصلة على مقاسات زاجرة لكل المتجاوزين والمتطاولين على كرامة وتطلعاته كما اعترفت بها موريتانيا وصادقت عليها لدى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان (الإعلان العالمي والعهدين الدوليين)، وهكذا جاء القانون الموريتانـي رقـم 023-2018 المتعلق بتجريم التمييز الصادر بتاريخ 21 يونيو 2018 ليُعاقب "كل شخص ينشر أو يوزع أو يدعم أو يرسل عبارات يمكن أن تنم عن نيـة في الإساءة أو الحث على الاساءة المعنويـة أو الماديـة أو تشجيع الكراهية أو الحث عليه بالسجن من سنة واحدة الــى ثلاث سنوات وبغرامة من مائة ألف إلى ثلاثمائة أولف أوقية".

 

 بينما كان المشرع أكثر وضوحا ودقـة عند معالجته للموضوع في قوانين تجريم العبودية والممارسات الاسترقاقية، والقانون القاضي بمعاقبة جرائم الاسترقاق والتعذيب بوصفها جرائم ضد الإنسانية (تم الغاؤها بعدما تحولت الى مباديء دستورية)، فقــد حظر القانون أي انتاج ثقافي أو فني يشيد بالتراتبية المبنية على الاسترقاق. 

 

تنص العديــدُ من الصكوك الدولية على حماية التراث الثقافي للشعوب، ومن بين ذلك اتفاقيةَ حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972)؛ والاتفاقية بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي (2003). ويبرهن الدعم الواسع النطاق الذي حظيت به الاتفاقيتان على التوافق العام على ضرورة المحافظة على التراث الثقافي وصونه. ". وعلى الرغم من أن هذين الصكين لا يتخذان بالضرورة نهجاً قائماً على حقوق الإنسان لحماية التراث الثقافي، فقد تم في السنوات الأخيرة التحول عن المحافظة على التراث الثقافي وصونه في حد ذاتهما باتجاه حماية التراث الثقافي باعتباره قيمةً من القيم الأساسية بالنسبة للكائنات البشرية في علاقتها بهويتها الثقافية."

 

"في الفقرة 50 من التعليق العام رقم 21 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ذكرت اللجنة بأن التزامات الدول باحترام وحماية الحريات والتراث الثقافي والتنوع مترابطة فيما بينها، وبأن التزام الدول بضمان الحق في المشاركة في الحياة الثقافية بموجب المادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يتضمّن الالتزام باحترام وحماية التراث الثقافي بكافة أشكاله الذي يعود لجميع المجموعات."10

 

مع نهايــة العام 2022 كانت موريتانيا قد استطاعت تسجيل كثير من مواقعها الأثرية وابرزت للعالم مدى قدرتها على حفظ المدن المندثرة والأثرية ذات الخصائص الاركيولوجية النادرة، لذلك نالت الاعتراف والاشادة من قبل منظمات دولية وأممية مختصة كاليُونيسكو والايسيسكو والألسكو، وبهذا يكون دور الأجيال الحالية مشهودا تجاه نفض الغبار عن أثــر الأجداد وحفظ الذاكرة المادية لفائدة الموريتانيين، ونحن الآن في أمس الحاجــة لمعالجــة شاملة تمس الثقافة في شقها اللامادي المتداول بين الناس فنغربل بمصفاة الانصاف ما يحتاج للنسيان ونثمن ما يجب أن يبقى، وأن نُعمل ميزان العدالة الثقافية بين المجتمعات الموريتانية التواقة الى الانعتاق من ربقة التراث، بغية الانطلاق الى الحريــة والتعايش والتماسك في فضاء صحراوي تحدق به المخاطر من كل اتجاه.   

 

يقتــرح منتــدى الأواصــر للتحاور ودراسات حقوق الإنســان (أواصـر) رؤيــته هذه بهدف إعادة النقاش المجتمعي ليشمل الأبعاد السوسيو ـ ثقافيـة ضمن سعي منظمتنا لتذليل العقبات وتشخيص التحديات التي تقف دون احساس الموريتانيين بطعم المساواة والعدالـة وعلى كافة المستويات الاجتماعيـة والسياسيـة والثقافية والانمائية.

 

تعــدُ هـذه الورقـــة نتـــاجا لندوة علمية مع عشاء منظم فـي أنـواكشــوط، بتاريخ 22 ديسمبر 2021 تحت عنوان : "الصور النمطية داخل الأوساط الموريتانية، الأشكال وأساليب المواجهة"، وذلك بالتعاون مع مفوضية حقوق الانسان والعمل الإنساني والعلاقات مع المجتمع، ممثلة بالمدير العام لحقوق الانسان السيد سيدي محمد شيخنا لـمام، وجهـة أنواكشوط، برئاسـة السيدة فاطمــة بنت عبدالمالك، اللجنة الوطنيـة لحقوق الانسان برئاسة الأستاذ محمد سالم بوحبيني وعمدة بلدية عرفات السيد الحسن ولد محمـد وممثلون عن بلديات العاصمة الأخرى، وبمشاركــة رئيس اتحاد الكتاب والادباء الموريتانيين السيد الخليل النحوي، ورئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات السيد مـحمـد فـال بَلاَلْ والعديد من المنظمات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني وقادة الرأي والاساتـذة الجامعيين.     

 

 المـقترحات العمليــة، لنطوي صفحــة الاساءات 

⎫ منذ الاعلان عن استقلال موريتانيا، سنة 1960، أصبحت الثقافـة قضيـة رئيسية لدى المسؤولين والنخب الاجتماعية ومؤسسات المجتمع، لكن لا أحد تجرأ من جانبـه على انتقاد السائد من الـمرويات الثقافيـة، فالإعلام وهيئـات المجتمع المدني تعتبر التراث بعامة ذا جدوى عالية، وفي الواقع فإن المبالغــة في تقدير الموروث الشعبي انما يساهم في منـع بروز الابداع والمبدعين والابقاء على الفضاءات التي تجمع بين السرديات الشعبيـة المكررة والنقاشات السياسية المألوفــة، وبالتالي يظل التغيير الاجتماعي أبعد منالاً. إن خطاب رئيس الجمهوريــة بمناسبة اليوم الدولي لحقوق الانسان (المشار اليه أعلاه) يعيــد رأس الخيط بالنسبة للشجعان من قادة الرأي والفعاليات الثقافية والجمعوية التي بات بإمكانها اختبار ارادة الدولة في استنبات قيم المواطنة والمساواة والنأي بنفسها عن الانحياز الى توجهات تقليدية أثبتت مخاطرها على مستقبل السلم الأهلي.  

 

⎫ ومن وجهة نظــر حقوقيــة بحتة، فإن تداول السرديات المسيئة كما أنتجتها التقاليد والأعراف والمعتقدات المحلية بغرض ايذاء مكون او التحيز ضد مكونات محددة، يعــد هو الآخر بمثابـة شكل من اشكال الحرب الثقافية التي تكون بدايــة لسلسلة من الأفعال التي تشكل بدورها أحـد اوجه "التطهير الثقافي" بحسب المؤشرات الصادرة عن المقررة الأممية المعنية بالحقوق الثقافية. ومن باب المصلحـة العامة ليس أمام الموريتانيين/ــات ســوى محاولة مراجعـة الموروث الشفاهي خصوصا والعمل على انضــاج تجربتهم الانسانيـة والمعرفيـة الخاصـة، فالانحناء أمام القيم الكونيــة يعد مجازفـة غير محمودة العواقب.   

 

⎫ كما انه فـي هذا السياق؛ سيسمح لا محالة التصامم لدى الفئات المهمشة عن بناء سرديات موازيـة ومشحونـة تعزز بها مظلوميتها وتروي عبرها ما لحق بجماعاتها من ظلم وتمييــز، لتتناقله اجيال المكونات، وهــو ما يزيد من انخفاض الاستقرار الاجتماعي ويصعب ايجاد الحلول لمظاهره.

 

⎫ بإمكان هيئات المجتمع المدني المحلية والجهوية والوطنية الانخراط في الجهود الرامية الى منع وعرقلة تداول الصور النمطية ومواقف التحيز ذات الخلفيات المتعددة. وتعــد هذه الورقة بمثابة نداء عاجل الـى قادة الرأي، من كتاب ومدونين، ومن أئمة وشعراء، ومن رياضيين وفنانين، من اجل الاسهام من جانبهم في تقديــم رؤية مغايرة للغة الخشب والمألوف من التنميط الثقافـي.

 

وبمناسبة تخليد بلادنا لليوم الدولي لحقوق الانسان بعـد مرور سنة ميلادية كاملة على خطاب رئيس الجمهورية بهذه المناسبة فإن المطلوب الآن هـو تقييم مدى تجاوب الإدارة الموريتانية مع مقتضياته ومضامينه وهل وجد هذا النداء آذانا صاغية في كافة مؤسسات الدولة والمجتمع.

 

وفـي هذا الصدد نـحُــضُ على: 

1. عدم تحميل ثقل الماضي وتركته لأي مكونة من المكونات، ونؤكـد على المسؤولية المشتركة للطليعة المجتمع من اجل مواجهة حاسمة لـهذه التركة ولإبراز القيم الإنسانية المشتركة. 

2. اجراء دراسات كمية ونوعيــــة لتصنيف المرويات المسيئة في المنشورات والمنصنفات الأدبية والفنية المتداولة بغية تنقيحها ومراجعتها قبل اعادة طباعتها وتوزيعها.

3. الاهتمام بنشر القيم المدنية والوطنية من خلال مراجعة الـمُقررات التـربويـة والبرامج الإعلامية والحصص الدينية من قبل خبراء في مجالات حقوق الانسان.

4. من المهم انشاء برامج للمعالجة النفسية لضحايا التمييز والتحيز الاجتماعي خاصة داخل الوسط المدرسي وما قبل المدرسي.

5. تنظيم ملتقيات للتنوع الثقافـي والاجتماعي داخل مختلف الولايات وبين الجهات، على ان يجري التخطيط بعناية لجوانب الاندماج بيـن المشاركين/المشاركات من خلال تعليم اللغات الوطنية والفلكلور الغنائي والفني والرياضي لمختلف المكونات، وكذلك القيم والأعراف المجتمعية الخاصة. 

 

انواكشــوط، 10 ديسمبر 2022