على مدار الساعة

لماذا لا تتكلم الحيوانات

10 يوليو, 2017 - 02:19
عبد الرحمن ودادي

في سنوات المراهقة تعلق قلبي بالفلسفة بسبب أستاذ في الثانوية نقلني إلى عوالم أفلاطون وسقراط وجعلني في كل درس أتبنى نظرية فلسفية وأعتبرها قمة الإبداع ليعود في الحصة الموالية ليبين نقاط ضعفها، مما يجعلني أستغرب من إعجابي السابق بها وتحولي الفوري لاعتناق نقيضتها، وهكذا دواليك إلى أن أدركت نسبية الحقيقية وامتلكت قدرة على نقد الافكار وتمحيصها، وخبرت متعة ولذة التفكير والاكتشاف.

 

في الجامعة درستها بتعمق كمادة رئيسية وحصلت في إحدى سنواتي على أكبر علامة في تاريخ كلية علم الاجتماع في حلقة البحث لمادة الفلسفة ـ 19 من 20 ـ حول موضوع التفكير الستاتيكي والتفكير الديناميكي، وما زلت حتى اليوم أدمنها وأقضي الساعات الطوال في قراءة كل ما وصلت إليه يدي من كتبها والبحث عن مواضيعها في شبكة الأنترنت.

 

مع كل ذلك أحس الآن بالعجز أمام سؤال طرح في البكالوريا بسنوات التسعينات في مادة الفلسفة وظني أنه في حال قررت العمل عليه سأحتاج على الأقل لسنة كاملة من التفرغ والبحث المتواصل، ولست واثقا مع كل ذلك من أن جوابي سيكون على المستوى المطلوب.

 

كان الامتحان: لماذا لا تتكلم الحيوانات؟

المصيبة أن هذا السؤال يغطي مجالا واسعا ومعقدا، ومن الأجدر به أن يكون موضوع رسالة دكتوراه لطالب مميز.

 

يتناقض هذا النوع من الامتحانات مع أسس التعليم الحديث والذي يقوم على أن الذكاء ليس المقياس لنجاح أي طالب، فالفروق الفردية كالذكاء والغباء في معظمها مكتسبات فطرية لا يجوز بحال من الأحوال اعتمادها كمعيار رئيسي للحكم على مستقبل أي إنسان، ولذلك تتجه أساليب التعليم إلى أن تكون الأسئلة واضحة تتيح لكل من بذل جهدا ووقتا كافيا من التمكن من النجاح بيسر وسهولة.

 

الغريب أن امتحانات جامعات هارفرد وكامبردج للمتخصصين في الفلسفة أكثر وضوحا ومباشرة من أسئلة طلاب في مرحلة الباكالوريا بمدارسنا.

 

أسئلة البكالوريا الموريتانية في عمومها تعتمد على أساليب الألغازوالتعجيز، والهدف الحقيقي منها إقصاء العدد الأكبر من الطلبة، لسبب بسيط وواضح وهو عجز حكام البلاد عن توفير العدد الكافي من المقاعد في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في حال بلغت نسبة الناجحين المعدل الطبيعي العالمي، لتقوم المنظومة التعليمة بطريقة خبيثة بتحويل المسؤولية من الحاكم الفاسد إلى الطالب وإقناعه بفشله وغبائه.

 

النسبة في المغرب لسنة 2016 بلغت 55.36 وفي الجزائر لنفس السنة 49.79  وفي سوريا سنة 2015 وصلت النسبة 68.86 في التخصص العلمي و52.9 في شعبة الآداب.

 

قطعا لا يمكن إهمال عامل الانهيار الشامل في منظومة التعليم العمومي التي بلغت نسبة المترشحين منه للبكالوريا سنة 2016 32.87 في المائة مما يبيّن عزوف الأكثرية عن الدراسة في مدارس الدولة التي تئن تحت وطأة انعدام الوسائل والفوضى الإدارية وغياب المعلمين المزمن والفساد المخيف الذي وصل لاستحواذ الرئيس وعصابته على المدارس بعمليات شراء صورية وتحويلها لأسواق.

 

كان الانخراط في سلك التعليم ما قبل حكم العسكر يكفل عيشا كريما، وما زال يحضرني وصف أحد المتقاعدين لدخوله في سلك التعليم بالستينات والسبعينات وكيف وفر لعائلته الكبيرة قفزة نوعية ودخلا محترما، حيث بدأ براتب ستة آلاف في الوقت الذي كان سعر الشاة لا يتجاوز المائتين.

 

اليوم أصبح العمل في سلك التعليم إعلانا رسميا للفقر، وصارعدد كبير من المعلمين والاساتذة يفضلون افتراش رصيف سوق الهواتف المحمولة لبيع البطاقات والرصيد عوضا عن ممارسة المهنة النبيلة، نظرا للارتفاع الجنوني للأسعار وانهيار قيمة الرواتب والاحتقار للعلم والمعرفة والثقافة الذي أدى له صعود طبقة حاكمة من الجهلة.

 

المؤلم أن نسبة النجاح في سنة 1974 التي في موريتانيا بلغت 58 في المائة بينما وصلت في سنة 2016 لنسبة 11.28 في المائة.

 

إنها لعنة حكام العسكر الذين لم يكتفوا بالإتيان على الأخضر واليابس بل تجاوزوا ذلك إلى تحميل الشباب عواقب عجزهم عن القيام بدورهم مما خلق لدى أجيال بأكملها إحساسا عميقا بالنقص ودفعها لأروقة البطالة ومهاوي الانحراف ومهالك التطرف.