على مدار الساعة

{ومكَروا مكْرا كُبَّارا} (الحلقة: 2)

31 يناير, 2023 - 14:20
الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديا

التعريف بملة إبراهيم عليه السلام:

بعد التمهيد العابر الذي قدمنا أمسِ فى الحلقة الأولى عن أفاعيل أعداء الإسلام للتمكين للديانة الإبراهيمية الجديدة فى هذا العصر يحسن أن نعرّف المسلمَ ونذكِّره بملة إبراهيم عليه السلام وبأسُسِها وأصولها ومعالمها من خلال القرآن الكريم بدءا بمواقف إبراهيم الخليل نفسه وتثنيةً بمواقف ابنه ومتبع ملته محمد صلى الله عليه وسلم.

 

***

ملةُ إبراهيمَ الخليلِ أبى الأنبياء أو الإسلامُ، أو الحَنِيفيَّةُ السمحةُ: هى ما تضمَّنه الوحىُ المنزّل عليه، مما جاء فى صُحُفه المكرَّمة وغيرِها، من التوحيد الخالص، والكلماتِ التى ابتلاه ربُّه بهن فأتمّهنّ، وتجسيدُ ذلك كلِّه بتجريد التوحيد للواحد الأحد، وإسلامِ الوجه له سبحانه، والقُنوتِ له تعلى، وشُكرِ أنعُمِه الظاهرة والباطنة، والدعوةِ إليه، ونفىِ الشرك، والبراءةِ منه، ومن أهله، وإقامةِ الحجة عليهم بالعقل والنقل، وإعلانِ العداوة والبغضاءِ لهم، وجعلِ أوثانهم جُذاذا، والتضحيةِ بالنفس فى سبيل الله، والهجرةِ من دار الكفر عند الإيَاس من إيمان المدعُوّين، والتحَلِّى بخصال الفطرة العشْر.

 

وهذه الملة هى التى هَدى الله عز وجل إليها نبيَّنا الخاتَمَ محـمدًا صلى الله عليه وسلم، وأمَرَه وأمّتَه باتباعها ولزومِها.

 

قال سبحانه وتعلى لعبده ورسوله محمـد صلى الله عليه وسلم: {قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملةَ إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}، وقال تعلى:  {ثم أوحينا إليك أنِ اتبع ملةَ إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}، وقال جل وعلا: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}، وقال عز وجل: {ملةَ أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفى هذا}.

 

وقولُه فى هذه الآية: {ملةَ أبيكم}: نصْبٌ على الإغراء، فى قول الزجاج والحَوْفىّ وأبى البقاء وغيرهم، وجوّزه الأكثرون وجها إعرابيا لائحا. وتقديره: اتبعوا والزَموا ملة أبيكم إبراهيم.

 

ويُعَزِّزُ هذا الإعرابَ منطوقُ الآيتين الأخيرتين فوقُ.

 

وقال تعلى: {قد كانت لكم أسْوةٌ حسنة فى إبراهيم والذين معه}.

 

فقدوة هذه الأمة المحـمدية هو إبراهيم الخليل، والذين اتبعوه، ولذلك كان أَوْلى الناس بإبراهيم أتباعُه ومحـمدٌ صلى الله عليه وسلم والذين ءامنوا. قال تعلى: {إن أوْلى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبىّ والذين ءامنوا والله ولىّ المؤمنين}.

 

ولا غرابة فى شىء من ذلك، فقد كان نبيُّنا محـمدٌ صلى الله عليه وسلم دعوةَ أبيه إبراهيمَ الخليلِ عليه السلامُ، فإنه دعا ربَّه لأهل مكة قائلا وهو يَرفع القواعدَ من البيت وإسمعيلُ: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم ءاياتِك ويعلِّمُهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.

 

وقد استجاب الله دعاءَه، وحقق رجاءه، فبعث محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا لأم القرى ومَن حولها، بل رسولا إلى العالَمين أجمعين فى عامة أصقاع الأرض وأرجائها من لحظة بِعثته إلى نفخة الصعْق.

 

فيا لها من دعوة ما أعظمَ بركتَها، ومن ضراعة ما أطيبَ ثمَرتَها!

 

***

 ملة إبراهيم عليه السلام: مواقفُ ومعالم:

لقد كان لإبراهيم عليه السلام فى تجذير التوحيد، والدعوةِ إليه، والتضحيةِ فى سبيله، ومحاربةِ الشرك والبراءةِ منه ومِن أهله، والغِلْظةِ عليهم ما هو معلوم، ووُصِف إبراهيمُ فى القرآن الكريم بأنه كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، فحاز بذلك مَقام الصِّدّيقيّة والصلاحِ الأخروىّ والاصطفاءِ، ومقامَ النبوة والرسالة والخُـلّة والشكر والهداية والاجتباء، وأثنى الله عز وجل على ملته بقوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سَفِه نفسَه}. وبقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وجهَه لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا واتخذ الله إبراهيمَ خليلا}، وأمره الله ببناء بيته المعظم لإقامة التوحيد: {وإذ بوَّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهّر بيتى للطائفين والقائمين والركّع السجود}. وقد جاء عن مجاهد وقتادة فى قوله تعلى: {وطهر بيتى} أنه تطهيرُه من الشرك وعبادة الأوثان.

 

ولا بأس أن نسْتجلىَ من نصوص القرآن بعضَ مواقف الخليل عليه السلام الدالةِ على معالم مِلَّتِه المباركة، مع الإلماع فيما بعدُ إلى ما يُشبِهُها ويلتقي معها من هَدْى ابنِه ودعوتِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

 

 فمن ذلك:

1. مُلاطَفةُ إبراهيمَ لأبيه وهو يدعوه إلى توحيد الله، وترك الإشراك به.

 

قال تعلى: {وَاذْكُرْ فى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنى عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّـى قَدْ جَاءَنِـى مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّـى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ منَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِـى مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّـى إِنَّهُ كَانَ بِـى حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دون الله وَأَدْعُو رَبِّـى عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّـى شَقِيًّا}.

 

2. إعلانه لأبيه وقومِه البراءةَ منهم أجمعين ومِن آلهتهم الباطلة التى يعبدون من دون الله، قال تعلى:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِى فطَرنى فإنه سيهدين}.

 

وقال سبحانه: {وما كان استغفار إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعِدة وعَدها إياه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عدوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم}.

 

 وقال عز وجل عن مخاطبة إبراهيمَ وأتباعِه المؤمنين لقومهم المشركين فى البراءة منهم وإظهار العداوة والبغضاء لهم حتى يوحِّدوا الله تعلى: {إنا بُرَءاءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}.

 

3. توبيخ إبراهيم لقومه بعبادتهم ما لا ينفعهم شيئا ولا يضرهم: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم}، ثم أردف قائلا كأنما يبصُق فى وجوههم: {أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله} مستبعدا أن تكون لهم عقول يفقهون بها: {أفلا تعقلون}؟!

 

ومثله قوله لهم كما فى سورة الصافات: {أتعبدون ما تنحِتون والله خلقكم وما تعملون}؟!

 

وقد تقدم مثلُه فى خطابه لأبيه، وإنكاره عليه عبادةَ ما لا يَسمعُ ولا يُبصِر ولا يُغنِى عنه شيئا: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا}؟!

 

4. وصْف إبراهيمَ لأبيه وقومِه بالاِنغماس فى الضلال المبين لعُكُوفِهم على التماثيل تقليدًا لآبائهم المشركين: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُبِين}، {وإذ قال إبراهيمُ لأبيه آزَرَ أتتَّخِذُ أصناما ءالهة إنى أراك وقومَك فى ضلال مبين}.

 

فإبراهيم لم يُجامِل أباه وقومَه، وإنما وصَفهم بالاِنغماس فى الضلال البيّن بشركهم وعبادتِهم الأوثانَ من دون الله، وواجَهَهم بالتوبيخ والتقريع والاِستنكار، ثم اعتزلهم بعد استنفاده وسائلَ الدعوة، وفاصَلَهم تهيئةً وإعدادا لمرحلة جديدة من المفاصلة أعظمَ وأبلغ: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا}.

 

5. إقسام إبراهيمَ بالله أَمامَ قومِه لَيَكِيدَنّ أصنامَهم بعد أن يُوَلُّوا مُدبِرين: {وتالله لأكيدن أصنامَكم بعد أن تُولوا مدبرين}، وتنفيذُه ما أقسم عليه، فحطّم أصنامَهم، وجعلها قِطَعا متناثرة: {فراغ عليهم ضربا باليمين}، {فجعلهم جذاذا}.

 

6. بذْل أقصى الطاقة والوُسع من أجل هداية الناس إلى سبيل الله. ويَظهر ذلك جليّا فى المقطع الذي لاطف فيه إبراهيمُ أباه، وترفّق به فيه، وبيّن له أثناءَه فسادَ منهجِه ومعتقَدِه بقول ليِّن موزون رغم فظاظة الأب، وتهديدِه له بالرجْم، ومطالبتِه إياه بهَجرِه مُلَاوةً من الدهر. فلم يزد إبراهيمُ على أن قال له: {سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيّا}.

 

7. التضحية بالنفس فى سبيل الدعوة إلى التوحيد: {قالوا حرِّقوه وانصُروا ءالهتَكم إن كنتم فاعلين}، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، (قالوا ابْنُوا له بُنيانا فألقُوه فى الجحيم}.

 

8. الهجرة من أرض الشرك والمشركين عند اليأس من هدايتهم: {فآمَن له لوطٌ وقال إنى مهاجِرٌ إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم}، أى وقال إبراهيمُ: "إنى مهاجرٌ إلى ربى"، {وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين}، {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِين}.

 

فقد خرَج إبراهيم من كُوثَى بأرض العراق متوجها إلى أرض الشام ليتجرد لعبادة ربه، بعد أن نجاه الله من النار بقوله جل وعلا: {يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم}.

 

قال الإمام أبو عبد الله القرطبىُّ فى تفسيره: "هذه الآية (إنى مهاجر إلى ربى) أصلٌ فى الهجرة والعُزلة. وأولُ من فعل ذلك إبراهيمُ عليه السلام، وذلك حين خَلَّصَه الله من النار، (قال إنى ذاهب إلى ربى) أى مهاجِرٌ من بلد قومى ومَولدى إلى حيثُ أتمكَّن من عبادة ربى، فإنه "سيهدين" فيما نويْت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارَة إلى الأرض المقدَّسة، وهى أرض الشام". (15/97).

 

وقال أبو عبد الله الرازىُّ فى التفسير الكبير: "لَمَّا بَالَغَ إِبْرَاهِيمُ فى الْإِرْشَادِ وَلَمْ يَهْتَدِ قَوْمُهُ، وَحَصَلَ الْيَأْسُ الْكُلِّىُّ حَيْثُ رَأَى الْقَوْمُ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَجَبَتِ الْمُهَاجَرَةُ، لِأَنَّ الْهَادِىَ إِذَا هَدَى قَوْمَهُ وَلَمْ يَنتَفِعُوا فَبَقَاؤُهُ فِيهِم مفْسَدَةٌ، لِأَنَّهُ إِن دَامَ عَلَى الْإِرْشَادِ كَانَ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُنتَفَعُ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ، فَيَصِيرُ كَمَنْ يَقُولُ لِلْحَجَرِ: صَدِّقْ، وَهُوَ عَبَثٌ، أَوْ يَسْكُتُ، وَالسُّكُوتُ دَلِيلُ الرِّضَا، فَيُقَالُ بِأَنَّهُ صَارَ مِنَّا وَرَضِىَ بِأَفْعَالِنَا. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْإِقَامَةِ وَجْهٌ وَجَبَتِ الْمُهَاجَرَةُ". اهـ (25/47).

 

يتواصل إن شاء الله تعلى.