على مدار الساعة

على رسلكم... الشعب يريد نهج البناء! (الحلقة الأولى)

10 فبراير, 2023 - 12:10
بقلم: محمد يسلم يرب ابيهات - beihatt@gamil.com

ربما لم يفكر النواب الذين تحمّسوا لفكرة "اللجنة البرلمانية" للتحقيق في ما أسموه بـ"ملف العشرية" ذات يوم مشؤوم من صبيحة 30 يناير 2020م، أنهم وفي إجماع منقطع النظير على "معارضة شخص محمد ولد عبد العزيز"؛ وحين صمموا على الاستجابة لناعق "تصفية عزيز" سياسيا، سيفتحون على وطننا المسكين أبواب تصفية سياسية لا تعود بنفع في مكافحة الفساد، ولا تخدم المصلحة العليا للوطن؛ والأخطر والأدهى من ذلك، ستشكل سابقة خطيرة علينا جميعا، لا قدّر الله، إن هي نجحت في مكرها وكيدها. حينَ تكرّس لاستسهالِ، واستصغارِ انتهاك أعلى نص تشريعي وضعي نحتكم إليه، منذ نشأة الدولة الموريتانية الحديثة، ألا وهو الدستور. 

 

فالدساتير تكتسي في نظم الدول الحديثة، المرجعية العليا في هرم القوانين المعمول بها. فهي السلك الناظم لكل القوانين، وهي التي لا يسمح على الإطلاق، بالخروج عن نطاقها. ويمتاز الدستور كقانون أسمى بالثبات، والمكث، والشمولية، فلا يتصور خروج مسألة من القانون عن نطاقه، كما لا يمكن تغييره إلا بالرجوع إلى الشعب، عن طريق استفتاء دستوري. للدساتير إذا من العلوّ، ومن الديمومة، ومن الشمولية ما ليس للقوانين الأخرى.

 

وإذا كان خرق القانون العادي، أي كل ما سوى الدستوري، لا يجوز؛ إلا أنه لا يرقى إلى مستوى خرق القانون الدستوري. لأن خرق هذا الأخير، يعتبر في الحقيقة تجاسرا على الوطن، واحتقارا، وإهانة للشعب بأكمله. أقدم بهذه البديهيات الأولية، لأخلص إلى القول، إن القبول بخرق الدستور، والسكوت عليه، إن حدث وأن وقع، لا قدّر الله، فإن ذلك سيعد سابقة خطيرة، ستجر البلد لا محالة إلى منزلقات، ومطبات، ومآلات، لا يعلم حجم خطرها وتهديدها للبلد ككل، إلا الله.

 

وكلِّي ثقة في أن قضاتنا لا يزالوا يملكون من الحرص على الاستقلالية في القرار، والإحساس بعظم المسؤولية، أمام الله وأمام الوطن؛ وبجسامة الخطر، وعظم المهمة المنوطة بعواتقهم في محاكمة كهذه، ما يجعلهم بالتأكيد يفكرون مليا، قبل الإقدام على تجاوز المادة 93 من دستور 20 يوليو 1991؛ وذلك نظرا لخطورة السابقة إن وقعت. وسنرى من خلال نقاش هادئ لهذه المادة فقرة، بفقرة، ما يساعد، إن شاء الله، على توضيح الموضوع للرأي العام، ويعين على فهم حقيقة ما تتضمنه هذه المادة من معان ودلالات واضحة لا لبس فيها.

 

تنص المادة 93 من الدستور الموريتاني، صراحة على ما يلي:

1. لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسته سلطاته، إلا في حالة الخيانة العظمى.

2. لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها.

3. وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية)

 

أما في فقرتيها المتبقيتين، أي الرابعة والخامسة فتتناول المادة 93 ما يتعلق بالوزير الأول وأعضاء الحكومة، ومسؤوليتهم الجنائية.

 

الفقرة الأولى:

واضح  من أسلوب صياغة المشرع الموريتاني، الذي أتى باستثناء واحد بعد نفي شامل، عام، كامل، تام؛ أن التفرقة ما بين "الأفعال التي تدخل في إطار المهام الرئاسية" وتلك التي "تخرج عن إطار مهام الرئيس"، وإن وجد في بعض أطروحات فقهاء القانون الدستوري الفرنسي، لم يكن في مقصود المشرع الموريتاني على الإطلاق، ولا تسوغ الذهاب إليه صياغة هذه الفقرة، التي، نصت بالحرف: (لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسته سلطاته) إذ لو كان في وارد الذكر تمييز بين أفعال رئاسية وأخرى، لنص المشرع على ذلك مباشرة بعد لفظة "أفعاله"، حينها يكون القول واضحا بإضافة: "التي تتعلق بالمهام الرئاسية". فنكون في حل من التفريق بين مهام وأخرى. أمّا ولم يرد المشرع الموريتاني ذلك، ولم يقصده، ولم يترك المجال حتى بالتفكير فيه، فالحال أن الأوْلى بالجميع، القبول بهذه الفقرة كما وردت، وعدم تحميلها ما لا تطيق. ولقد ورد، في هذه الفقرة، نفي المسؤولية عن الأفعال أثناء ممارسة السلطة، مصوغا بلفظ "لا" النافية للجنس، وتلك أداة عند أهل اللغة العربية، تفيد "الاستغراق" أي الشمول لجنس المنفي؛ أي "ليس رئيس الجمهورية مسؤولا عن جميع ما يدخل في جنس "الأفعال" أثناء ممارسة السلطة، دون تفريق بين ما يمكن وصفه من المهام الرئاسية من غيره. ثم ختمت هذه الفقرة الأولى من المادة 93، بقول المشرع الموريتاني: "إلا في حالة الخيانة العظمى". وهذا الاستثناء بأداة "إلا" يحصر، ويحدد، وينعت مباشرة الحالة الوحيدة التي يكون فيها رئيس الدولة مسؤولا، عن هذا الفعل الوحيد، والأوحد، المستثنى، من بين جميع أفعاله أثناء ممارسته سلطاته، ألا وهو الخيانة العظمى.

 

وكلّنا يتذكر هنا، المحاولات البائسة، في لحطة من لحظات إعداد ملف التلفيق والكيد السياسي، المسمى بملف العشرية، التي أعلنت يوما، وبدق الطبول والمزامير، أن "مشروع رباط البحر" أو "الجزيرة البحرية" على شواطئ نواكشوط، تعد "حالة خيانة عظمى"، حيث تم بيعها من طرف الرئيس السابق، أو منحها لأمير قطري. ثم ما لبث ذلك الدخان أن انقشع، حين اتضح أن الحالة لن تسعف المتحاملين على الوصول إلى مقصدهم. على أن تلك المحاولة، على كيدها، وظلمها، وبحثها المستميت عن الإيقاع برئيس جمهورية خدم بلده بصدق وإخلاص؛ كانت أذكى في محاولة انسجامها مع الاستثناء الوارد في الفقرة الأولى من المادة 93 من الدستور الموريتاني.

 

الفقرة الثانية:

الفقرة الثانية واضحة في لحن حطابها وفحواه؛ فهي تدل على "إجراء" عملي لا بد من القيام به من طرف البرلمان، ولا يكون ذلك البتة إلا بعد تحقق شرط وقوع "الخيانة العظمى" لدى ممثلي الشعب الموريتاني. ففي هذه الحالة، وهذه الحالة فقط، يحق للجمعية الوطنية، وليس لسواها، توجيه "التهمة" بالخيانة العظمى إلى رئيس الجمهورية: (لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية).

 

أما كيف يكون ذلك الاتهام، فبشروط "عملية" واضحة، وهي على التوالي، وطبقا للترتيب الوارد في هذه الفقرة كما يلي:

أ. تبت الجمعية الوطنية بتصويت؛

ب. عن طريق الاقتراع العلني؛

ج. وبالأغلبية المطلقة لأعضائها.

 

ويتضح بجلاء مما سبق ذكره في هذه الفقرة الثانية من المادة 93 أن "لجنة التلفيق، وتصفية الحسابات" التي شكلت من أول أيامها؛ لم تحترم هذه الخطوات والمراحل، التي يلزمها الدستور الموريتاني بالقيام بها، وباحترامها حرفيا. فلا أنا ولا غيري، من المواطنين العاديين أمثالي، سمعنا بـ"تصويت "، و"عن طريق الاقتراع العلني" و"بالأغلبية المطلقة"، صادر عن الجمعية الوطنية؛ قصد توجيه اتهام بـ "الخيانة العظمى" للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. أما دعواهم بإجماع الطيف السياسي ورضاه عن كل الإجراءات التي تم اتخاذها من طرف لجنة "العار والشنار" فحسبنا التذكير بما خلص إليه النائب ولد سيد مولود، الذي كان عضوا من بين أعصائها حين تشكلت، حيث يقول اليوم: (لا يمكنني الاحتفاء بمحاكمة أي مفسد، أو متهم بالفساد، في إطار ملف أشهد على ازدواجية مقيتة طبعته بعد ميلاده فمنحت الثقة لأخطر ركائزه، وتم التنكيل بالبعض قبل كلمة القضاء) اهـ.

 

الفقرة الثالثة:

تأتي هذه الفقرة الثالثة من المادة 93 من الدستور الموريتاني لتوضح أن المحكمة الوحيدة التي يحق لها محاكمة رئيس الجمهورية هي محكمة العدل السامية التي تحاكمه في "هذه الحالة" أي في حالة الخيانة العظمى فقط، لا غير. ولا عبرة بما يتقول به المتبجحون بمعرفة القانون من أدعياء المحاماة، الذين لا يتورعون عن تحميل هذه الفقرة ما لا تحتمل، من قبيل تركها الباب مفتوحا لمحاكمة رئيس الجمهورية بعد انتهاء مأموريته، وإمكانية وقوعه أمام محكمة أخرى؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان بإمكان المشرع الموريتاني النص عليه بصيغة أخرى؛ وهو الشيء الذي لم يقصده المشرع الموريتاني، ولم يرد الخوض فيه أصلا. ثم إن التأويل، الذي هو في الحقيقة صرف النص عن ظاهره، لا يكون إلا بقرينة، وما دامت القرينة غير موجودة، فلا صحة للتأويل. فتبقى الفقرة الثالثة من المادة 93 من الدستور واضحة في منطوقها، ومفهومها، الذي يقتضي أول ما يقتضي، أن رئيس الدولة، في حالة الخيانة العظمى المثبتة بالأدلة والبراهين، أمام الشعب، وعلى الملأ: (تحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية).

 

وبعد.. فالرجوع إلى الحق أحق.. ونحن ننتظر من محكمة مكافحة الفساد الموقرة، أن تعلن بكل صدق عدم اختصاصها، بخصوص ملف "العشرية" المعروض أمامها. علّها تبقي على بصيص أمل، في بقية من الأخلاق وشيء من التقوى، لبلد عرف بالتشبث بقيم ومُثُلِ شريعة العدل، والحق، والمساواة؛ فذلك وحده ما يليق بها، وبقضاتنا المحترمين.

 

أما الذين يحسبون أنهم نجحوا في "مكرهم" بالرئيس السابق، بدعوى ترك الملف أمام القضاء، وعدم التدخل في مجرياته، على حين أنهم قد "فصّلوه" حسب هواهم، ورغباتهم؛ فنقول لهم... على رسلكم ... على رسلكم... فالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، اسم امتزج إلى الأبد بقصة نجاح باهر في بناء وطن، عانى شعبُه في حضيض التخلف والقهر، والفقر، والجهل، والمرض، والجوع، والهشاشة، والإقصاء، والتهميش، فتمّ انتشاله؛ حين أفاق ذات يوم سعيد على بشرى  طلائع حركة تصحيحية يقودها، ويسطرها إنجازاتٍ خالدةً للشعب الموريتاني، قائدٌ فذ أقسم على المضي في خدمة وطنه، وبناءه، والرفع من شأنه، حتى آخر رمق..

 

يتواصل..