على مدار الساعة

هل نستلهم العبر من فاجعة مقتل الصوفي؟!

23 فبراير, 2023 - 11:00
محمد المصطفى الطلبة (الفتى)

كانت جريمة قتل الشهيد الصُّوفي ولد الشين رحمه الله فاجعة صادمة ضجت لها الأمة الموريتانية، واستحوذت أخبارُها على الفضاءات العامة والخاصة، وأضحت حديث المجالس والمنابر في جميع الجهات: شرقا وغربا وجنوبا وشمالا.. وفجرت تصفيته الوحشية المؤلمة حراكا من التضامن الحيِّ، ورسمتْ نموذجاً من الأخوة الايمانية الحقة، التي تتكسَّرُ عليها معاولُ الهدم والتَّفرقة، ومع إعلان قاضي التحقيق ووكيل الجمهورية خبرَ الوفاة بهذه الصورة البشعة وفي مخفر للشرطة، تعالت الأصواتُ مطالبةً بمواصلة التحقيق حتى يُعرفَ الجُناة والضَّالعون في هذه الجريمة ويُقتصَّ منهم على رؤوس الأشهاد. 

 

وما إن أعلنتْ أسرةُ الشهيد توقيتَ الصلاة على الابن البارِّ والمواطن المخلص، حتى تداعت الجماهير من كلِّ أنحاء العاصمة إلى ساحة مسجد ابن عباس، معلنة بذلك التَّضامنَ الوفيَّ مع أسرة الفقيد في صورةٍ إيمانية قلَّ نظيرُها، إذ غصَّتْ باحةُ المسجد بالمصلين رجالا ونساءً، كبارا وصغارا، مع حُزنٍ وتأثر بالغين لا تُخفيهما قسماتُ وجوه الحاضرين.

 

إن ألم المصاب ووقع الفاجعة لا يجوز بحال أن يمنعنا من استلهام العبر والدروس، والتأكيد على جملة من التوجيهات الضرورية حتى لا تتكرر المأساة: 

1/ ضرورةُ إقامة القصاص والحدِّ على هؤلاء المجرمين، لأن في ذلك صلاحاً للمجتمع وسدًّا لبابٍ خطرٍ لا يُمكن أن يُغلق إلاَّ بتطبيق الحدود، كيف والله تعالى يقول: ﴿ولكُم في القصاصِ حياةٌ يا أولى الألباب  لعلَّكُم تتَّقون﴾، قالَ الإمام ابن كثير رحمه الله: يَقُولُ تَعَالَى: وَفِي شَرْع الْقِصَاصِ لَكُمْ -وَهُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ- حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَكُمْ؛ وَهِيَ بَقَاءُ المُهَج وصَوْنها؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ القاتلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ انْكَفَّ عَنْ صَنِيعِهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةُ النُّفُوسِ، وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: القتلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي الْقُرْآنِ أَفْصَحَ، وَأَبْلَغَ، وَأَوْجَزَ: ﴿ ولكُم في القصاصِ حياةٌ ﴾ [البقرة: 179]. 

 

وقد أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق القصاص على القاتل إذا أراد أهلُ المقتول ذلك دفعاً لمادة الشرِّ، وحسماً لحزازات النفوس، فقد  روى الترمذيُّ عَنْ عبدِالله بنِ عَمْرِو بْنِ العاص، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ؛ وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ؛ وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْعَقْلِ))، حديث حسن؛ (صحيح الترمذي، للألباني، حديث 1121).

 

إن إقامةَ الحدود الشرعية أمانٌ للمجتمع، وإبقاءٌ على أرواح الأحياء، ودرءٌ لباب الفتنة.

أبلغْ أبا مسمعٍ عنِّي مغلغلةً ** وفي العتاب حياةٌ بين أقوام.

 

2/ أن يُدركَ القائمون على الشأن العام أن إقامة دين الناس والاهتمامَ بأمر آخرتِهم وحفظَ دمائهم وأعراضِهم أولى وأوجبُ من الاهتمام بدُنياهم، وأن وظيفة وليِّ الأمر السهرُ على المصالح الدِّينية قبل المصالح المادِّية.

 

3/ تبنِّي المشروع الإصلاحيِّ الكبير الذي كان الشهيدُ الصوفي رحمه الله قد سخَّر له وقته وعلاقاتِه، وسعى جاهداً في حياته من أجله، ورسمَ المعالمَ الأولى من جمع الكلمة ورصِّ الصف وتوحيد القلوب، والذي ظهرتْ آثاره العميقة بعد موته، حيثُ انتشرتْ صوتياتُه الإصلاحية ونصائحُه المتضمنة وجوبَ التعايش السلميِّ بين مكونات الشعب الموريتاني، كما ظهر ذلك جليًّا في الصلاة عليه، حيث اجتمع الأبيض والأسود والعالم والعاميُّ والغنيُّ والفقيرُ في فضاء واحد، متآخين متآلفين متحدين.

 

ونقصدُ من هذا التَّبنِّي أن يكون صادرا من الجهات الرسمية ذات الصلة، وذلك بدعم أمثال الصوفي من المواطنين المخلصين، الذين لا يسعون إلى هباتٍ ولا أموال من هنا أو هنالك، والإشادةُ بجهودهم ودعمهم المادي والمعنوي.

 

4/ وجوبُ تقديم أمثال الشهيد في المجتمع كقدوات ورموز وطنية، والدفعُ بهم نحو وسائل الإعلام ومواقع التأثير.

 

5/ قوَّةُ اللحمة الوطنية في هذا المجتمع، وطيبة أهله وتماسُكهم في كل المواقف والظروف الجامعة، على الرغم من وجود أصواتٍ منكرة خبيثةٍ، تسعى لاستئصال هذا المجتمع والإضرار به في أعزِّ ما يملك، وأغلى ما لديه من ثروة صالحة لقيام دولة قوية، ألا وهي الأخُوَّةُ والترابطُ والتَّماسُك.

 

لقد أظهرتْ الصورُ الجميلة التي التقطتْها الكاميراتُ من الصلاة على الجنازة وبكاء الحاضرين حقيقةَ التلاحم بين أبناء هذا المجتمع، وإن اختلفتْ أفكارُهم وقبائلهم وجهاتُهم، وأنهم يدٌ واحدة وبناء قويٌّ، لا تؤثر فيه الدعواتُ النَّتنة، ولا تُقوِّضُه الأصوات المصلحية، كما أبان هذا الكمُّ الهائل من التدوينات والتفاعل على وسائل التواصل تلك الحقيقة الراسخة، وأنها خيارٌ لا محيدَ عنه ولا نقاش فيه.

 

وهذا - والحمد لله - شيء يُمليه الخطابُ الإسلاميُّ والضمير الإنسانيُّ والمصير المشترك تحت سماء هذا الوطن، ولقد عكستْ تلك الصور قوةَ الإسلام في قلوب أبناء هذه الأرض، ورسمتْ درجةَ الامتثال للوحي: {إنما المؤمنون إخوة} ، و (مثلُ المؤمنين في تعاطُفهم وتراحُمهم كمثلِ الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ  الجسد بالسَّهر والحمى ) رواه البخاري.

 

6/ تفاعُلُ العلماء مع الأحداث وتعليق أهل الرأي على الماجريات، وتدخُّل الدعاة والمصلحين في القضية كتابةً وتنديدا وتعزية وحضورا إلى المستشفى، وهذا أمر يُبشِّرُ بخير وهو عنوان رحمة ومؤشر سلامٍ واطمئنان، لأنه لا يصلُح للناس شأن إذا لم يتقدَّم ذلك الإصلاحَ أهلُ العلم وحملة الفكر.

 

لا يصلُح الناسُ فوضى لا سراةَ لهم *** ولا سراةَ إذا جُهَّالُهم سادوا.

7/ أن الإسلام لا يزالُ مصدرَ قوَّةٍ وعاملَ تأثير يجمعُ بين أهل هذا البلد، ولا تزالُ العاطفة الدينية تفوق كلَّ العواطف السياسية والمصلحية، وهنا خطٌّ عريضٌ للدولة وأهل العلم يجب اغتنامُه والعملُ على تقويته، وهو فرصةٌ للمصلحين من دعاة الوحدة الوطنية أن ينطلقوا من هذا الأساس ويبنوا على خطوط هذا المنهج، فبسبب هذا العامل تذوبُ الفوارق وتسقطُ المطامع والمطامح.

 

8 كلي أمل في استمرار نشاط جمعية الفقيد الصوفي رحمه الله، وفتح باب الانتساب لها، ودعمها بكل الوسائل الضامنة لنجاحها، من أموال وخبراتٍ وأفكار وموارد وكفاءات، فقد سن لنا سنة حسنة في العمل الجمعوي والحقوقي، نسأل الله عز وجل أن يكتب له أجرها، وأجر من عمل بها وتأثر برسالتها النبيلة ودعوتها الملهمة.

 

محمد المصطفى الطلبة (الفتى)