سبعة عقود مرت على استقلال الدولة الموريتانية، وسبعة عقود مرت على احتكاك سكان الأرياف بالمدن المستقرة، وأكثر ما يميز المدن عادة هو تأثيرها الإيجابي في طبع قيم الحياة المعاصرة على سكانها، ولعل تجربتنا في هذا القطر من العالم لها خصوصيتها وطابعها الفريد. فلا يزال الإنسان الموريتاني رغم عشرته الطويلة بالمدينة يتقمص طبائع الريف بشكل وثيق ويظهر ذلك جليا في تعاطيه مع قوانين السير والطوابير وواجباته المدنية في احترام الأرصفة والصرف الصحي والتخلص من النفايات.
فعلى من تقع مسؤولية الفوضى المدنية؟
وأين دور المجموعات المحلية من كل ذلك؟
فمنذ تأسيس مدينة نواكشوط في منتصف القرن الماضي بدى أن الشغل الشاغل لحكومة الاستقلال هو كيفية إقناع الساكنة بضرورة الاستقرار في العاصمة الإدارية الفتية، بعد تحويل إدارة البلاد من مدينة سينلوي السينغالية إلى عاصمة تتواجد على الأراضي الموريتانية وهو الأمر الذي لم يلق تفاعلا سريعا. فكانت المدينة في أطوارها الأولى قليلة السكان فسيحة ومتباينة، وذات نمط عمراني يوحي بأن لها مستقبلا زاهرا وتسير نحو التحضر بخطوات واثقة.
إلا أن انعطافا مفاجئا كان له أثره الكبير في إضفاء القتامة البدوية على عاصمة كان يأمل منها الكثير، فقد أدت سنوات الجفاف نهاية السبعينات إلى حدوث هجرة هائلة من الأرياف إلى المدن الكبيرة وخاصة مدينة نواكشوط مما ضاعف عدد السكان وانتشرت ظاهرة الأحياء العشوائية وخلق ضغطا على الخدمات العامة.
فحسب المعهد الوطني للإحصاء فإن نسبة البدو الرحل إلى مجموع السكان في منتصف القرن الماضي تجاوزت السبعين بالمائة لتتحول في عقود قليلة لاحقة إلى أقل من العشرين بالمائة وهو ما يؤشر إلى أن نزوحا معتبرا هدفه الحصول على المساعدات والخدمات الاجتماعية للتخفيف من وطأة الجفاف كان سببا في زيادة سكان عواصم الولايات وخاصة العاصمة الإدارية للدولة.
وبحكم الواقع المدني الجديد فإن ثنائية القيم المدنية والقيم البدوية لا تزالان في صراع أيهما يطبع شخصية المتحضرين الجدد.
فلا تكاد تغفل عينك أينما اتجهت في أنحاء المدن المتعددة فوضوية لا حدود لها من عدم احترام قوانين السير وانتزاع الطريق والمرور من الاتجاهات المخالفة ورمي للنفايات على الشوارع وعدم احترام الأماكن العمومية أو الالتزام بالطوابير أيا كانت طبيعتها.
وبالرغم من وجود بلديات محلية منتخبة يدخل عامل التوعية المدنية للسكان على عاتقها من خلال مهام الحفاظ على الحيز البلدي الموكل لها والجباية التي تفرضها على الساكنة فتجعلها أداة زجر لكل من يخل بالطابع المدني للبلدية. كل ذلك لم يجد نفعا في كبح العامة عن تدنيس الفضاءات العمومية أو المحافظة على الطابع العصري للمدن بارتكاب تصرفات خارجة عن سياق الخلق المدني ومشوهة للواجهة المعاصرة للدولة مما يسيء لسمعة الوطن من خلال تقديم المدينة بصورة ليست بالبراقة أمام كل زائر أجنبي.
وعلى الرغم من الدور الحيوي المنوط بالبلديات والمجالس الجهوية إلا أنها لم تنجح في إشاعة ثقافة النظافة الجمعية رغم الجهود الجبارة التي بذلتها الدولة في سبيل ذلك أو أنها لا تملك سلطة فعالة لتحقيق تلك المهمة.
إن التحلي بالقيم المدنية والمحافظة على الفضاءات العامة والخاصة هي مهمة تحتاج مشاركة الجميع علماء ومثقفين وهيئات مجتمع مدني وإدارات مركزية وهيئات محلية مساهمة في الجوانب التوعية للمواطنين إضافة لفرض غرامات رادعة لكل خارج عن تلك القيم.