مررنا مرور الكرام فيما سبق بالعوامل التي تدفع الوطن الموريتاني بالهجرة إلى الخارج كمحطة في الطريق الذي يقودنا إلى وجهتنا النهائية التي تتمثل في فهمي الأسباب التي تقلل من رغبة المغترب في العودة إلى بلده أو تقف حائلا دونها.
ووقوفنا في هذه المحطة كان ضروريا لكي يتسنى لنا فهم الصورة الكبرى للموضوع بشكل يسمح لنا بتقييم أهمية هذه العوامل كجزء لا يتجزأ من الموضوع. والمحطة الثانية تتعلق بفهم الواقع الذي يعيشه هؤلاء المهاجرون في بلادهم المضيفة. وفي هذه المحطة، سوف نرسم لوحة لمستويات المداخيل المالية باعتبارها الحافز الأول، إضافة إلى ظروف العمل والمحيط الاجتماعي باعتبارهما متغيرين في معادلة الحياة اليومية يلعبان دورا كبيرا في مستوى الارتياح والسعادة. فكلما كان مستوى ارتياح المرء وسعادته عال كلما صعب عليه بذل أي جهد في سبيل تغييرها، طالما يعتقد أن الحصيلة الإجمالية لهذا التغير سوف تكون سلبية. فما هي ظروف الموريتانيين الذين يعيشون في الدول الغربية (مثل الولايات المتحدة)؟.
الغالبية العظمى من هذه الجالية يزالون لأعمال الحرة التي تتيح لهم مرونة كبيرة في اختيار ساعات ومكان العمل، السبب الآخر الذي يجعل هذه الأعمال مناسبة للمهاجرين هي أنها تمكنهم من اختيار عدد ساعات عملهم في اليوم أو الأسبوع حيث إن معظمها لا يخضع لقوانين حماية حقوق العمال.
من ناحية أخرى، يفضل الموريتانيون هذه الأعمال لأنها تريحهم من تلقي وطاعته أوامر المشرفين والمديرين وتمنحهم استقلالية تقلل من حلات الخلافات والتوتر التي قد تحدث نتيجة لأسباب شخصية أو أخرى قد تنجم عن اختلاف العادات والتقاليد. فنظام العامل في المطاعم والمؤسسات الصناعية هو نظام مكثف ومرهق يتطلب كثيرا من الانضباط والجدية خلال فترة العمل مما لا يسمح بدقيقة واحدة من التراخي أو التكاسل، إضافة إلى أنه لا يوفر عطلات سنوية طويلة. إحدى الميزات الأخرى لهذا النوع من الأشغال هي أنها لا تتطلب مؤهلات تعليمية مما يجعلها أكثر جاذبية للمهاجرين الذين لا يرغبون في الالتحاق بالجامعات لمدة سنوات متعددة من التكوين والتدريب.
والغريب في الأمر أن بعض هذه الأعمال الحرة توفر موارد مالية مماثلة لما يتقاضاه بعض خريجي الجامعات أو أكثر بعض الأحيان، زيادة على ذلك فإن الأعمال الحرة توفر فرصة لتخفيض مبالغ الضرائب التي يجب دفعها للسلطات المحلية والاتحادية نتيجة للسياسات التي تشجع الاستثمار في القطاع الخاص.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الأعمال لها جوانب سلبية حيث إن مزاوليها مسؤولون عن شراء التأمين الصحي لهم ولأفراد عائلتهم وحسابات التقاعد وغيرها من الفوائد الأخرى التي توفر الموظفين وعمال الشركات. وأخيرا، أصحاب الأعمال الحرة لا يتقاضون أجورا أثناء عطلهم السنوية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الذين يزاولون هذه الأعمال حاصلين على شهادات جامعية في مجالات مختلفة تضم الصيدلة والطب البيطري والاقتصاد والقانون والتعليم، على سبيل المثال لا الحصر.
و على الرغم من اختلاف طبيعة الأعمال ومستويات الدخل بين أفراد المجموعتين، إلا أنهم يتقاسمون المعاناة من العيش في بيئة اجتماعية غير ملائمة لعاداتنا وتقاليدنا، فمن الصحيح أن الأفراد هنا يتمتعون بحرية كبيرة في اختيار نمط الحياة المفضل لديهم لكن الأجواء العامة تسيطر عليها التقاليد والأعراف الغربية، فيمكن للفرد أو الأسرة تحويل المنزل الذي يسكنونه إلى منزل موريتاني لكن ذلك لن يتعدى عتبة الباب بشبر واحد. هذا الواقع قد لا يهتم به البعض لكن له أبعادا عميقة خصوصا فيما يتعلق بتربيت لأطفال في هذا المناخ.
فمما لا جدال فيه أن الأطفال يعتمدون بالدرجة الأولى في تكوين انطباعاتهم ومعرفتهم ومعتقداتهم وحتى عواطفهم على محيطيهم الواسع الذي لا تمثل عائلاتهم منه إلا جزء صغير، فلهذه الأسباب قد يجد الأطفال صعوبة في اكتساب لغة أبويهم وعادات وتقاليد مجتمعهم الأصلي، بل أكثر من ذلك، قد يمتد تأثير المحيط الاجتماعي ليشمل الكبار خصوصا بعد فترة إقامة طويلة في مناطق منعزلة عن باقي أفراد الجالية.
الملاحظة الأخرى التي تؤثر على المجموعتين هي غلاء تكلفة المعيشة في هذه الدول والتي قد تغيب عن الذين يفكرون في الهجرة عندما يقومون بحساباتهم النظرية، يجب ألا ننسى أيضا أن تكاليف السكن ومقومات المعيشة الأخرى في الغرب أيضا تكلف أضعافا مضاعفة بالمقارنة.
الحقيقة الأخرى التي لا جدال فيها، هي أن الغريب يظل غريبا مهما طال به المقام، فجميعنا لا زلنا نتذكر تعهدات الرئيس الأمريكي السابق بمنع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. تعهدات قد نهملها متذرعين بأنها رأي رجل واحد فقط، لكن الحقيقة أن شريحة كبيرة من المجتمع كانت (ولا زالت) تؤيد هذا الرأي. وربما تم عزل الرئيس السابق وترحيله من البيت الأبيض لكن نفس المشاعر لم تتغير بل بقت في قلوب وأذهان عشرات الملايين.
فقد يكون المقيم في ولايات المتحدة يتمتع بدرجة كبيرة من الأمان لأن النظام السائد يضمن حماية الفرد وممتلكاته، لكنه من الواضح أن العرب والمسلمين غير مرغوب فيهم بنفس الدرجة التي يحظى بها ذوو الأصول الأوروبية والديانتين المسيحية واليهودية. ففي نفس الوقت الذي كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق تحاول بشتى الطرق منع جميع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، فتحت الإدارة الحالية الباب على مصراعيه لجميع الأوكرانيين ومنحتهم حقوقا أفضل مما يتمتع به بعض المواطنين الأمريكيين أنفسهم.
وهنا أريد أن أسجل للأمانة، أن هذه المواقف والمشاعر لا يمكن أن تعمم على جميع الأمريكيين. هذه سياسات تبنتها الحكومة أو حاولت سنها من أجل أن تنال تأييد بعض شرائح المجتمع بينما عارضها الكثيرون ووفقوا ضدها جهرا وعلانية. كل هذا يقودنا إلى السؤال الثاني السؤال الذي أشرنا إليه في الجزء السابق: لماذا لا يعود الموريتانيون المقيمون في الدول الغربية إلى وطنهم الأم؟ هل ينطبق علينا المثل الذي يقول إن "الكلب ما يروم ما هو خناقو"؟
جواب هذا السؤال سهل لدرجة مدهشة، ويمكن اختصاره بأنه مقارنة بين التكلفة والفوائد المتوقعة في الحالة الافتراضية لتطبيق هذا القرار أو القرار الآخر.
لكن الأمر يبدأ يزداد تعقيدا إذا تفحصها التقديرات التي تعتبر في إجراء هذه الحسابات بطريقة مفصلة، فالأب أو الأم قد تثمن تربية أطفالها الصغار في المجتمع الموريتاني رغم ما قد يكلفها ذلك من خسارة دخل كانت ستكسبه لو بقت في الولايات المتحدة. لكن الأمر قد يكون مختلفا من وجهة نظر فرد ليس لديه أطفال مما يجعله يثمن فرصة البقاء وكسب المزيد من المال بدلا من العودة.
هذه الحسابات أيضا قد تأخذ بعين الاعتبار مدى حاجة عائلة الفرد في موريتانيا يما فيها الأبوان والأشقاء وغيرهم. وكل ما زادت حاجة الفرد ومحيطه العائلي كلما كان أكثر استعدادا للتضحية برغبته الشخصية في سبيل سد حاجات ذويه.
هذه دوافع قد تختلف من فرد إلى آخر ولا يمكن تعميمها، لكن دعنا نفترض أن رغبة الشخص في العودة كانت أكبر من رغبته في البقاء. في هذه الحالة، هناك سؤال واحد ستكون لإجابته دور حاسم في اتخاذ قرار العودة أو البقاء، هذا السؤال هو ما هي فرص العمل المتاحة لي هناك والتي تمكنني من مزاولة المهنة أو الحرفة أو الخبرة التي اكتسبتها أثناء غيابي؟.
هذا السؤال ليس له جواب واحدة وإنما له جوابان اثنان -مثل المعادلة الرياضية من الدرجة الثانية- ليس لأي منهما علاقة بمدى الخبرة أو الكفاءة. الجواب الأول هو أن جميع فرص العمل متوفرة، على شرط أن تكون لديك واسطة قوية أو تكون مستعدا لدفع رشوة كبيرة، أما الجواب الثاني فهو أن فرص العمل تكاد تكون معدومة إذا كانت وسيلتك الوحيدة هي الكفاءة والخبرة.
أنا على يقين أن البعض سوف يتهمني بالمبالغة مضيفين أن البلاد قد شهدت تحسنا ملحوظا في تبني واتباع المعايير الإدارية السليمة بكل شفافية ونزاهة خلال السنوات العشرين التي قضيتها في المهجر. والحقيقة هي أن العلم عند الله وقد تكون البلاد تحسنت بشكل فعلي وقد يكون اختيار الموظفين الآن يتم على حسب القدرات والكفاءة.
لكن ماذا لو قلت لك إنني خبير في علم الأوبئة حاصل على شهادة الماجستير من جامعة لندن في المملكة المتحدة وشهادة الدكتوراه من جامعة برديو (Purdue) في الولايات المتحدة، أعمل في مركز أبحاث وعضو هيئة تدريس جامعي منذ أكثر من عشر سنوات؛ اتصلت بأحد المسؤولين في التعليم العالي والبحث العلمي في موريتانيا مؤخرا لأستفهم عن إمكانية المشاركة في نشاطات التدريس والبحث العلمي وكل ما لقيته كان الإهمال التام، ليس ذلك فقط، بل كانت هذه المرة الثانية التي حاولت فيها الاتصال بمسؤولي التعليم العالي والبحث العلمي دون أي جدوى. وللأمانة، فلقد كانت المرة الأولى مختلفة حيث استقبلني مدير المؤسسة بترحيب حين زرته في مكتبية، ثم تلقيت رسالة عبر البريد الإلكتروني من نفس المدير بعد عام من لقائنا اعتذر فيها عن عدم المواصلة نتيجة للانشغال. القاسم المشترك بين هاتين الحالتين هو أن اتصالي كان اتصالا مباشرا دون استخدام أي وسيط أو مصدر نفوذ وكان ذلك عن قصد ووعي تام.
لقد ترسخت في ذهني خلال 20 سنة من الإقامة في الولايات المتحدة مبادئ اتباع النظام والشفافية والمساواة التي هي في الحقيقة مبادئ حث عليها ديننا الحنيف ونحن أولى باتباعها. مبادئ صممت على اقتناعها مهما كلف الثمن ولحسن حظي ليس هناك ما يجبرني على التخلي عنها حيث إنني جد مرتاح في وظيفتي الحالية وأتمتع بثقة واحترام زملائي. ورغم ذلك أرغب بصدق في خدمة بلدي وأهلي قدر المستطاع ولكن في نفس الوقت أرفض رفضا باتا المشاركة في مظاهر الفساد الإداري والمحسوبية.
السبب الثاني والأهم لامتناعي عن ممارسة الوساطة والرشوة هو أنه كما يقول المثل "كما تدين تدان" ولا أريد أن أجد نفسي في وضع لا أحسد فيه. ليس فقط لأنها أفعال مشينة ولكن أيضا لأن هؤلاء الخبراء يهمني كونها استقلاليتهم وحريتهم الفكرية أكثر من أي شيء. فمصداقية هؤلاء الخبراء وثقة العالم في ما ينشرونه من نتائج بحوثهم العلمية ووجهات نظرهم المهنية كلها تعتمد على مبدأ استقلاليتهم وعدم الضغط عليهم أو توجيههم من أصحاب السلطة وذوي النفوذ. ففي اللحظة التي يفقد فيها خبير استقلاليته الفكرية لأنه مدين لشخص بجميل أو استسلم لمغريات كسب المال أو غير ذلك فإنه يصبح اقل من الحمار الذي يحمل أسفارا.
السبب الذي جعلني أروى هذه الواقعة ليس من أجل إثارة الجدل أو حتى جذب الانتباه إلى نفسي فقد بقيت بعيدا عن الأضواء ومجهولا تماما في موريتانيا طيلة حياتي و مازلت جد سعيد أن أبقى كذلك. لكن هدفي هنا هو أن أوضح أن أكبر العوائق التي تقف عثرة في طريق عودة الموريتانيين إلى وطنهم هي تفشي الفساد الإداري بمظاهره المتنوعة، الفساد الإداري الذي أعنيه هنا لا يتوقف فقط على التشغيل والتوظيف بل يمتد إلى العدالة في حل المنازعات وتوفير الأمن وحماية الممتلكات ورفع الظلم. فهذه بالتحديد هي الميزات التي ترجح كفة الميزان في صالح التغرب وتحمل ما ينتج عن ذلك من معاناة وإهانة.
هذه ميزات تخدم مصالح جميع المغتربين على اختلاف مستوياتهم التعليمية وأرصدة حساباتهم المصرفية، كما تخدم مصالح المواطنين المحليين، مميزات كانت كافية لتجعلنا نفضل أن نعيش غرباء وهي أكبر محفز يشجعنا علي العودة لو توفرت في وطننا الذي نحن جزء لا يتجزأ منه ونشتاق إلى كل من فيه وكل ما فيه.