على مدار الساعة

نحو استهلاك أذكى للمنتجات الإعلامية

14 يناير, 2024 - 13:58
الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

المنتجات الإعلامية كأداة لتوجيه الرأي العام وإقناع أفراد المجتمع بأفكار أو مبادئ معينة لخدمة أهداف محددة هي أهم وسيلة لغسل أدمغة الأفراد والسيطرة على الشعوب للأسباب التالية

1 - المنتجات الإعلامية أكثر فعالية وأقل تكلفة كوسيلة سيطرة بالمقارنة مع الوسائل التقليدية مثل الشرطة والجيش. 

2 - من السهل إيصال المنتجات الإعلامية إلى عدد هائل من المجموعات المختلقة وتصميمها بشكل يستهدف كل مجموعة حسب خصوصياتها الاجتماعية، ومعتقداتها، ومشاعرها السياسية، والدينية.

3- يصعب تقييم دقة المنتجات الإعلامية واستقصاء مصداقية مصدرها، خصوصا على المواطن العادي الذي عادتا ما يتصفح المواقع الإلكترونية بسرعة البرق.   

 

فلذلك يتوجب علينا التعامل مع المنتجات الإعلامية بجميع أصنافها بنفس الحذر الذي نتعامل به مع المنتجات الغذائية والصيدلانية لأن مفعولها (المنتجات الإعلامية) لا يقل خطر باعتبارها تستهدف العقل والقلب اللذين يتحكمان في مقود الآلية التي تسوقنا وتتحكم في سرعة اعتناقنا للأفكار والمعتقدات وقوة تشبثنا بها. فهذه المنتجات أشبه بالمدرسة التي يتعلم فيها صغارنا وترسخ فيهم العادات والمعتقدات المرغوبة. لكن على عكس المدارس، ليست لدينا أي علم بمصادر بعض هذه المنتجات أو أي سيطرة عليهم. هذه اعتبارات عامة تنطبق على كل المجتمعات، ولكن ماذا عن مجتمعنا الموريتاني؟

 

دعنا أولا نعرج على إحدى محطات تاريخنا الحديث خلال فترة ما قبل الاستقلال. حقبة قد تبدو بعيدة بعد الهجرة النبوية الشريفة أو الخلافة العباسية نتيجة لحجم وسرعة التغيرات التي مر بها المجتمع منذ ذلك التاريخ مع أنه لم يمض عليها أكثر من أجيال تعد على أصابع اليد الواحدة.

 

‏عاش المجتمع الموريتاني وفي هذه الفترة حياة بدوية بسيطة ‏في تجمعات ‏قبلية تربطها مصالح ‏وقيم دينية وأخلاقية مشتركة. ‏ ‏ ‏فكان الجميع يعرف الجميع ‏وكانت النوايا الطيبة والخصال الحميدة ‏صفات تحلى بها الجميع ‏الأمر الذي نتج عنه وجود حد كبير من الثقة بين ‏الأفراد داخل هذه التجمعات وبين التجمعات فيما بينها. ‏وأكبر دليلا على ذلك هو انعدام وجود (أو الحاجة إلى) شرطة ‏أو أي أجهزة ‏أمنية لحماية الأفراد ‏وممتلكاتهم.‏ ‏فكانت‏ ‏النزاعات ‏بين أفراد ‏الجماعة الواحدة تحل ‏عن طريق ‏المفاوضات ومجهودات الوسطاء، إضافة قضاة ليس من السلطة سوى معرفتهم بأحكام الشرع وتقدير المجتمع. ‏الثقة المتبادلة، ‏بالإضافة إلى القيام الأخلاقية والدينية المشتركة التي وحدت الجميع جعلت هذا النظام كافيا و ‏كفيل ‏بحفظ ‏لأمن وإشاعة الاستقرار ‏لفترات طويلة وما زال يساهم في ذلك ‏إلى هذا اليوم.

 

 ‏العبرة ‏المستخلصة من هذه الوقفة التاريخية ‏هي أن ‏أمن واستقرار أي المجتمع ‏يتناسبان طرديا ‏مع قوة القواسم المشتركة ‏بين أفراده. ‏وعليه ‏فإن زرع الخلافات ‏هي أفضل وأسرع طريقة لإشاعة البلبلة والبغضاء ‏بين فئات المجتمع وتقسيمه إلى طوائف متعددة ‏على أسس ‏وهمية أو مستحدثة. ‏ومن هنا يأتي دور ‏المنتجات الإعلامية كأفضل وسيلة لزرع التفرقة وإشعال نيرانها من خلال ‏إبراز وتعميق الخلافات الموجودة، ‏أو خلق ‏خلافات جديدة إذا تطلب الأمر.

 

‏ومن المفيد في هذه المرحلة من النقاش توضح ما أقصده بالمنتجات الإعلامية لتفادي أي غموض أو سوء فهم. أقصد بالمنتجات الإعلامية ‏كل ما ينقل عن طريق وسائل الإعلام ‏‏المسموعة والمرئية مثل ‏قنوات الإذاعة والتلفزيون، أو ‏المكتوبة مثل ‏الصحف والمجلات المطبوعة أو إلكترونية، ‏إضافة إلى وسائل "التفاصل" الاجتماعي ‏التي قد تستخدم ‏لنقل هذه المنتجات ‏أو منصة ‏لنشر مواد إعلامية منتجة من طرف أفراد أو هيئات بصورة مباشرة‏. أما من حيث المحتوى، ‏فيمكننا تقسيم المنتجات الإعلامية بغض النظر ‏عن طريقة نشرها ‏إلى ‏أخبار وتحاليل وآراء. فما هي بعض الأمثلة هذه المحتويات وكيف يمكن استعمالها ‏في ‏التضليل والمغالطة ‏والتلاعب بالحقائق وتشويهها؟

 

1- الأخبار:

‏الأخبار في أبسط تعريف هي نقل مجريات الأحداث ‏في حالة ‏حيادية تامة ‏لكن في الواقع أنها دائما منحازة بطريقة أو بأخرى. ‏فمن غير المفاجئ مثلا ‏أن يكون المصدر متحيزا ‏ ‏لسياسات وتوجيهات الدولة أو الإقليم ‏الذي يمثله، ‏أو تيار السياسي معين، أو مصدر تمويله. ‏لكن التحدي الأكثر صعوبة يتمثل ‏في إدراك وتمييز مظاهر هذا الانحياز حتى يتمكن للمستهلك ‏التعامل معه بالطريقة المناسبة. ‏إذا قمنا بتقييم تغطيت ‏قناة الجزيرة ‏للإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهلنا في غزة ‏مقارنة بتغطية شبكة فوكس (Fox) الأمريكية ‏فستلاحظ ‏فارقا كبيرا في العبارات المستخدمة والمحتويات. ‏فبينما ‏تصف الجزيرة ‏كتائب القسام ‏ب"المقاتلين" أو "المناضلين"، ‏تصفهم شبكة فاكس ‏ب"الإرهابيين."

 

مثال آخر أقل وضوحا هو استخدام وسائل الإعلام الغربية لعبارة "المدعوم من طرف إيران" مع كل ذكر لحزب الله اللبناني أو الحوثيون في اليمن مع أنهم لا يضيفون عبارة "المدعومة من طرف الولايات المتحدة وبريطانيا" عند ذكر دولة الاحتلال الإسرائيلية.  ومن المؤسف في الأمر أن معظم وسائل الإعلام العربية تستعمل نفس التعبير الذي تستخدمه وسائل الإعلام الغربية نتيجة لعادة الترجمة الحرفية والتقليد الأعمى.

 

‏لكن ‏الانحياز في ‏الإخبار ‏لا يتوقف على ما ‏تم ذكره، بل قد يكون أيضا في صورة ما تم حذفه ‏والمثال الكلاسيكي على ذلك ‏هو المبالغة في عدد الضحايا في صفوف جنود العدو وخسائره والتكتم على ذكر الضحايا بين صفوف جنود الطرف الناشر الأخبار وخسائره. ‏مثال آخر جدلي ‏هو ‏نشر خبر ‏زيادة ميزانية التعليم أو الصحة بنسبة 10% ‏دون الإشارة إلى تخفيض الميزانية ‏المخصصة لصيانة الطرق (مثلا) ‏بنفس النسبة.

 

2- التحاليل:

 

‏التحليل في هذا السياق تتضمن ‏جمع معلومات من مصادر مختلفة واستخدام أجهزة متخصصة أو منهجية معتمدة لتقييم مدى صحة خبر معين أو العلاقة بين حادثة أو حالة معينة وأخرى ‏للكشف عن حقيقة مجهولة أو نفي أو تأكيد أخرى مزعومة. ‏فقد تقوم جهة خاصة أو عامة بتقييم استراتيجية ‏مكافحة الفساد ‏والرشوة في موريتانيا ‏لتحديد مدى ‏فعاليتها ‏والخطوات التي تم قطعتها في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة. ‏كل تحليل سوي يختلف ‏عن الآخر ‏ومن الصعب تقييم الطرق المتبعة إلا من قبل متخصصين ‏لهم معرفة كافية بموضوع التحليل ومتطلباته. ‏لكن مع ذلك يستحسن ‏(من باب الشفافية) نشر ‏تقرير ‏يوضح ‏ ‏خطوات التحليل والبيانات التي استخدمت لتبرير الخلاصة النهائية ‏وتوفيره للمعنيين من الجمهور (مثل الصحافة وغيرهم) ‏حتى يتسنى لمن له معرفتهم بالموضوع تقييم موضوعية وسلامة التحليل وما ‏إذا كان هنالك تقصير ‏أو تجاوز أو تزوير.

 

3- الآراء:

 

‏ ‏الرأي بالتعريف هو وجهت نظر شخص اتجاه ‏ ‏فكرة أو حدث أو قضية معينة. ‏ ‏منصات الإعلام ‏المرئية والمسموعة ‏تهتم ‏بنشر آراء ‏الخبراء والمهنيين لتقديم ‏شروحات وتحاليل وتنبؤات مستقبلية ‏لإنارة الرأي العام. فأولا يجب أن ‏ ‏يكون ‏مقدم الرأي في مشتهرا بخبرة ‏كافية أو تجربة مميزة تخوله الحصول على معلومات ليست متوفرة للشخص العام‏ ‏كمؤهل ‏يبرر منحه هذا المنبر لمخاطبة المجتمع.

 

فكما أنه ليس من السداد أو المنطق أو خدمة المصلحة العامة السماح لمن لا يمتلك المؤهلات الطبية الأزمة إجراء عمليات جراحية معقدة أو من ليست له المؤهلات والخبرة العسكرية قيادة الجيش على ساحة المعركة، لا ينبغي تسويق آراء من ليست له المؤهلات الكافية من خبرة أو تجربة والسماح له بالوقوف على المنبر (الفعلي أو المجازي) لتوجيه وإرشاد الجمهور. 

 

 ‏ورغم ‏ما قد يمتلكه كاتب الرأي من خبرة وحكمة ومعلومات، إلا أن كل ذلك ‏لا يعفيه ‏من مسؤولية الموضوعية والمنهجية وتقييم أدلة وبراهين وحجج منطقية ‏تبرر وجهة نظره، ‏كما أنه لا يعفي القارئ من مسؤولية ‏تفحص هذه الآراء ‏بكل بحذر ‏وتسائل وحكمة. ‏فحتى ‏الخبراء ‏وأصحاب بعد النظر ‏‏والتجارب الواسعة ‏ليسوا معصومين من ممارسة ‏أساليب المغالطة والتضليل.

 

‏ ‏فحقيقة الواقع الذي نعيشه اليوم ‏تستلزم منا ‏تفحص المنتجات الإعلامية بجميع أشكالها بجرعة ‏من الانتباه والحذر والتساؤل ‏تتناسب ‏مع مستوى تفشي أساليب الدعاية ‏والخداع التي تمارس بأشكال ‏مختلفة ‏للتلاعب ‏على ‏الطبيعة الإنسانية والنزعات ‏العاطفية ‏بشكل مخطط ومدروس ‏أشبه ما يكون باستراتيجية الموجهات العسكرية. ‏ ‏فيجب أن ندرك أن طيبة النوايا والصدق ‏والأمانة في التعامل مع الآخرين التي عهدناها في أيامنا الخالية ‏قد ولت إلى غير رجعة، ‏وإننا الآن نعيش ‏في عالم مختلف تماما.  عالم ليس كله غدر ‏ومكر بطبيعة الحال، لكن "الحزم أولى للسلامة".

 

 ‏ولم ‏ ‏نتطرق‏ ‏هنا ‏ ‏لما يعرف بمواقع التواصل الاجتماعي ‏التي هي ‏بالأصح مواقع التفاصل أو التفاضل الاجتماعي حيث إنها تُغرِّب القريب ‏وتُقرِّب ‏البعيد ‏لأن ‏المقام هنا لا يتسع لذلك.