... ويحُل أول وفد عربي قادم من الجمهورية العربية المتحدة بربوع موريتانيا، بعد عزلة طويلة عن العرب دامت قرونا وقرونا.. فتنبري الشلة للاحتفاء بهذا الحدث التاريخي، وتُعد نفسها لذلك، فتُجري تدريبات شاقة على شاطئ "المحيط الهادر" في أوج الشتاء. وتفاجئ الوفد الزائر والسلطات المضيفة معا بتجمهر شبابي منظم ومدرب يستقبل الأشقاء الوافدين وهْنا من الليل بالهتافات والأناشيد على عتبات فندق مرحبا. وكمكافأة على مبادرتهم تم انتدابهم رسميا لمرافقة الوفد الزائر في جميع تنقلاته. فكان ذلك أول لقاء بين الشلة والكنانة ممثلة في معالي وزير الصحة النبوي المهندس رئيس الوفد، وفضيلة الإمام الأكبر محمود شلتوت شيخ الأزهر الشريف - رحمهما الله - ونخبة من جهابذة الجمهورية العربية المتحدة!
وبزيارة الوفد العربي، والدور المتميز الذي لعبته الشلة في إنجاح تلك الزيارة، وما تمخضت عنه الزيارة من ثمار طيبة، رأت الشلة أن خطوة كبرى في مشروعها القومي التحرري قد تحققت؛ ألا وهي فك العزلة عن موريتانيا، وتصدي مصر جمال عبد الناصر لإنقاذها، والنهوض بها، والسير بها إلى الأمام!
وتمخضت زيارة الوفد العربي إلى موريتانيا عن نتائج باهرة منها اعتراف الجمهورية العربية المتحدة بموريتانيا وتبادل الوفود والسفراء معها، وافتتاح مركز ثقافي عربي في نواكشوط كان له أعظم دور في نشر الثقافة والوعي في موريتانيا، وابتعاث كوكبة من الشباب الموريتاني الواعد ذي الثقافة العربية المحاصر إلى مصر، وإيفاد بعثات من المدرسين العرب إلى المؤسسات التعليمية الموريتانية بُغية رفدها، وتحسين مستوى التعليم العربي بها!
وفي هذا الأفق الجديد حظي ثلاثة من الشلة بالوفادة إلى مصر هم: محمد فاضل ولد الداه ومحمد محجوب ولد بَيَّه وأحمد ولد الوافي؛ وذلك ضمن بعثة من خيرة شباب الوطن نهلت من معين مصر الفياض، وكان لِمَا عادت به من معارف، ولما أسهمت به من جهد ونضال خلال تلك الحقبة الصعبة أثر بالغ في دفع حركة التعريب، وفي النهضة التي عرفتها البلاد آنذاك، وتعجيل الانعتاق من ربقة الاستعمار الفرنسي الجديد!
وكان من بين أفراد تلك البعثة – للتاريخ - كذلك الرواد: محمد المصطفى ولد بدر الدين ومحمدو الناجي ولد محمد ولد أحمد وشي غالي ولد محمد محمود ومحمدٌ ولد امبيريك وأحمد سالم ولد اكاه ولكبيد ولد حمديت ومحمد سالم ولد زين والمختار ولد آمين والعالم ولد العتيق وإدومو ولد يحي وباباه ولد متالي ولمرابط ولد إسلمو ومحمد يحي ولد أحمد ولد الهادي وباب (بتفخيم الباءين) ولد محمد عبد الله، ومحمد يحي ولد أجفغنلا ومحمد ولد حامدن وعمر والد وأحمدُ ولد احميد.. وآخرون! وكان جلهم من طلاب معهد أبي تلميت؛ ذلك الصرح العملاق الذي شيده الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديَّ منارة للعلم واللغة العربية في بلادنا وفي غرب إفريقيا، فجمع بين علوم ومناهج المحظرة الأهلية العتيقة والعلوم والمناهج التربوية الحديثة. خاصة في سنوات إشراف الدولة عليه، وفي ظل عمادته التونسية النيرة المكونة من الأستاذين الجليلين البشير لعريبي والهادي حمو، ودوحة شيوخه الأجلاء: الشيخ محمد عالي ولد عدود وابنه الشيخ محمد يحي، والشيخ محمد ولد أبي مدين، والشيخ محمد ولد آبَّوَّ، والشيخ أحمد ولد مولود ولد داداه، والشيخ إسحاق بن محمد ولد باب، والشيخ محمد عبد الله ولد الصديق! وغيرهم. (رحم الله الراحلين منهم، وعمر الأحياء في العافية).
لم يستطع محمد فاضل - للأسف الشديد - مواصلة الدراسة بمصر كباقي زملائه بسبب مرض أقعده. ولما تماثل للشفاء رفض الهزيمة والعودة إلى وطنه بخفي حنين، فذهب إلى المغرب حيث حصل بجدارة على شهادة الليسانس في الحقوق، فعاد إلى أرض الوطن وعمل في رئاسة الجمهورية.
***
... وعادوا فوجدوا الأوضاع قد تغيرت كثيرا عما كانت عليه يوم ظعنهم:
- لم تعد نواكشوط قرية؛ بل صارت مدينة تزخر بالتناقضات والثورة، تحاصرها مخيمات وأكواخ النازحين من الريف المنكوب بالجفاف (كانت أضاه تفرغ زينه يومها مخيما "حلة شرويطة" قبل أن تصبح فللا وقصورا) وتنعكس عليها جميع سلبيات الاستعمار الجديد!
- ولم يعد الخنوع والاستكانة للاستعمار الجديد وأعوانه، والقبول بنظام الحزب الواحد سبيلا؛ بل عصفت بذلك كله ثورة الشباب!
- وأصبحت الشلة حركة وحزبا تتبعهما عشرات المنظمات الطلابية والتلاميذية والنقابية وغيرها. ونبغ فيها مناضلون أشاوس: سيدي محمد سميدع، يحي ولد عمر، بدن ولد عابدين، محمد الحسن ولد لبات، عبد القادر ولد محمد سعيد، محمد سالم ولد العتيق، محمد عبد الله ولد زين، يبه ولد البشير، إبراهيم السالم ولد بو اعليبه، محمد ولد مولود، حمود ولد إسماعيل، محمد ولد منيه، إسلمُ ومحمد الأمين ابنا عبد القادر، محمد شين ولد محمادو، إسلمُ ولد سيدي حمود.. وغيرهم! ناهيك عن قادة ومناضلي الحركات الوطنية الدائرة في فلك النضال يومئذ: محمد يحظيه ولد ابريد الليل، حبيب الله ولد عبدو، ممد ولد أحمد، المصطفى ولد اعبيد الرحمن، عبد الله ولد إسماعيل، الدكتور سيدات، يبه ولد الشيخ البناني، لادجي تراورى، ودافا بكاري.. إلخ. (رحم الله الراحلين منهم، وعمر الأحياء في العافية).
- وحده الريف (موريتانيا الأعماق) ظل جامدا وعصيا، تسحقه المؤسسات التقليدية من إمارات ومشيخات وطرق تبذل قصارى جهدها في حماية نفوذها ومقاومة كل "بدع" التطور والحداثة؛ لدرجة تحريم وتجريم التمدرس! وكان الشباب أول ضحايا تلك النظم والتقاليد والعادات البائدة؛ والمكتوين بنارها، ولم يسلم من جبروتها حتى العصاميون اللامعون حملة الشهادات العليا من أمثال محمد فاضل! الشيء الذي عزَّ عليه رحمه الله، وحز في نفسه، فترك في أعماقه جرحا غائرا لا يندمل ولا يريم!