للأبجدية - هي الأخرى - غصة وشجون. تسكب الحبر على سفح الدموع، فمشهد "هنية" المسجى سلبني تهجي الحروف المحترقة على رفوف الصمت الصاخب. فمآذن القدس ثكلى يلفها غسق الأحزان.
أبا العبد أهكذا يرحل الأخيار؟
تمهل، لا تتعجل قبل حصاد "تشرين"، قل أي شيء، اكتب، أفصح، أشر، رتل كما كنت ترتل، رتب حقائب السفر على مهل، لمح بقرب رحيلك كي نتجلد للوداع الأخير.
أجب أيها القارئ الشهيد،
لوكنت تجيب لأجبتني فرحا عن سر رحيلك المفاجئ: بأن عمر، وحمزة، وعلي، والحسين والرنتيسي، وأحمد ياسين، رحلوا على عجل، ثم تردف مستبشرا: الشهداء أحياء يرزقون.
للموت رهبة في النفوس، وهو آت، لكن أي موت يصيبك - حتما - سيكون مهيبا باذخا،
وأي قبر يضمك سيكون فخما، فسيحا، وأي كفن يلامسك سيكون نقيا ناصعا كسيرتك، فلطهرك لم يحضرك الأعراب المتآمرون.
لم يظهروا أسى، لم يكتبوا نعيا، لم يرسلوا وفدا، وقد فعلوا يوم هلك "شمعون بيريز"..!
أبا العبد: أيها السيد المتدثر بالبهاء كن مطمئنا، لا تجزع ففي مقامك الجديد - إن شاء الله – لا يمنعون إخوانهم الماء والرغيف، بل {إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}..
في مقامك الآمن لا يحتفى بأكابر مجرمي العالم تحت وابل من التصفيق..!
أبا العبد: أحقا لن تعود إلى شنقيط؟ أتدري أنها شغوفة بك، مساجدها، محاضرها، خيامها، أزقتها، شيوخها، نساؤها، "الداية الرابعة " "مركز تكوين علمائها" أحياء "الصفيح" "تفرغ زينة".. ضجت بكاء ذلك اليوم العصيب.
كنا نمني النفس أن نصطف خلفك قياما وأنت ترتل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
كان طوفان الأقصى الذي باركته فرقانا بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين المنتصر لدينه وأمته؛ وبين من كان ظهيرا للمجرمين.
قبل رحيلك كنت الشاهد على السقوط المدوي لسرديات "غربية" سُوّقت لأحقاب، كالدفاع عن حقوق الإنسان، وقيم العالم المتحضر، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والقلق المزمن للخارجيّة الأمريكية إزاء حقوق الأقليات والمثليين..! ليدق العرض المستمر لإبادة غزة المسمار الأخير في نعش مقولة "حقوق الإنسان".
كانت حرب غزة تبصرة وذكرى، وحجة، ففيها من الصبر على البلاء والجلد على أعداء الله ما يثبت الله به المجاهدين، ويربط على قلوب المؤمنين.
أبا العبد: أيها الرافل في سندس الكبرياء، يا من علمتنا أن للصبر مذاق سائغ، وأن الجهاد علو شاهق يرتقيه الصادقون.
وأن الشهادة درب يسلكه المجاهدون، وأن الثغور عروش يعتليها المرابطون، وأن القرآن نور وذكرى للمؤمنين..
"وإنه لجهاد نصر أو استشهاد".