كنت قد كتبت في مقال سابق بعنوان: "حديث قد يهم وزير تمكين الشباب" رأيا نقديا كان هامشا على متن النص ذي الطابع غير الأدبي.
بسبب ذلك الرأي صرت مثار سخرية بين حراس القالب التقليدي للشعر الشعبي "لغن"، على طريقة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي سألني أحد "الأصدقاء": "من أنت؟"، من أنت حتى تكتب أن "اتروسي" مجرد عدوى أصابت لغن من الشعر العربي إبان عصر ضعفه؟
من أنا؟، أنا متلقي بسيط أطرب للإبداع وأفهم في الجمال، أنا مثل ذلك القارئ العادي الذي تختاره دور النشر ليكون بجانب الناقد والكاتب والمدقق اللغوي قبل نشر أي نص روائي.
إخوتي جماعة التروسي، ماذا لو أخبرتكم بعض الآراء الأخرى الأكثر تطرفا في هذا المجال؟
في انتظار ردكم تقبلوا مني رأيا أو اثنين في هذا الموضوع:
أولا:
أنا أكره أن تكون للإبداع مقدمات، أو أن يلجأ الشاعر إلى تقديم لنصه، فالإبداع حسب رأيي هو تلك الدهشة التي تصيب المتلقي حين تلامس الكلمات شغاف قلبه قبل أن تسمعها الآذان، وهو أيضا ذلك الفضاء الحر الذي يتيح للإنسان البسيط أن يستخدم القصيدة أو الكاف والطلعة وفقا لحكايته الشخصية.
وعلى هذا المنوال، أرى أن "حمر الطلعة" أو بالأحرى التيفلواتن الأولى منها، التي قد تتوقف قبل الكاف أو عنده بالضبط، في كثير من الأحيان مجرد حشو ينقص من وهج الإبداع ويخفف من صدمته الأولى.
ولأعطي مثالا يدعم رأيي، لن أستخدم سوى أمهات لغن المتعارف عليها، فما ضر أربان لو فاجأ المتلقي بقوله مباشرة:
شفت اكوم التيدوم *** لمسهو كان الدار
محروك اعاد احموم *** سبحانك يالقهار
معود حراك اكوم *** ماه فاهم لخبار
أليس من الأولى أن يترك لضحية إبداعه حرية تفصيل تجربة "حراك أكوم" وفقا لحياتها الشخصية ولذكرياتها الموغلة في الخصوصية.
الشيخ ول مكي، وهو من هو، قيد الحيز الجغرافي ببعيربات وامكيرنات وقدم لحكمته تقديما أضفى عليها بعض البرودة، حين قال:
ذي دار ابعــــيربات *** اخلات امن الحيات
أُذِي دار امگيــرنات *** اخـــلات امن الحيّ
أُ عاد الوكر اديارات *** وازْويــــرت دمْبَــيّ
ذيكيّ واصل اخلات *** امــن الحي هــــيّ
واذّرذرْ صدْر الـــواد *** و امن الٔـــمَ لَوْدِيّ
يبْسَت واعگوبت زاد *** الدنْــــــيَ ذِيـــكيّ
لولا تلك المقدمة لكان "كاف الطلعة" بحجم بكاء البحتري ووعظ أبي العتاهية وتأملات المعري .
واذّرذرْ صدْر الـــواد *** و امن الٔـــمَ لَوْدِيّ
يبْسَت واعگوبت زاد *** الدنْــــــيَ ذِيـــكيّ
حتى لا تقتصر أمثلتنا على "لبتيت الناقص" وحتى لا نبقى في حيز جغرافي واحد سنعود أدراجنا إلى الترارزة وإلى "اسغير"، فالبوتيك الذي بجوار المصطفى ولد أتشفغ أعمر قد يثير اهتمام أي رجل، وبالتالي لا علاقة له بالعمر ولا بشكل الشاعر:
وأحذاي بوتيك وحله *** فيه اطويفلات
افيه امل زاد كهله *** من ذوك الكهلات
الاستثناء الذي يؤكد القاعدة هو طلعة لمريفك لسيد محمد ول الكصري نظرا لأن بدايتها شرط ونهايتها جواب له :
كالحمد ال يواد *** لمريفگ واكتن راد
الله اعليك ابعاد *** الدهر ال غلاك
ؤخسرت حالت لبلاد *** ؤعدت انت لل جاك
ماه انت ذاك ؤعاد *** ذ ماه دهر اغلاك
عدت آن مان زاد *** سيد محمد ذاك
مثل كثير من لغن لم تسلم هذه الطلعة من عبث الرواة الذين أضافوا همزة إلى التافلويت ما قبل الأخيرة فصارت عطفا بدل أن تكون جواب الشرط والصحيح أن الشرط هو:
كالحمد ال يواد *** لمريفگ واكتن راد
الله اعليك ابعاد *** الدهر ال غلاك
ؤخسرت حالت لبلاد *** ؤعدت انت لل جاك
ماه انت ذاك ؤعاد *** ذ ماه دهر اغلاك
أما جوابه فكان:
عدت آن مان زاد *** سيد محمد ذاك
ثانيا:
يفصل هذا الرأي بين الإبداع من جهة وبين المحسنات اللفظية وثراء القاموس اللغوي من جهة أخرى، وبالتالي فإن ما تزدحم به الساحة الآن من الذين يزعمون أنهم "امغنيين" ليسوا سوى "متكرحين" و"متبيظنين"..!
سأحاول أن أعطي مثالا للفرق بين الابداع وبين القدرات البلاغية في الشعر العربي !
المتأمل لأبيات عمر بن أبي ربيعة يراها غير رائجة في سوق الزمخشري البلاغية، يقول عمر:
لَيتَ هِنداً أَنجَزَتنا ما تَعِد *** وَشَفَت أَنفُسَنا مِمّا تَجِد
وَاِستَبَدَّت مَرَّةً واحِدَة *** إِنَّما العاجِزُ مَن لا يَستَبِد
بينما لو ترجمنا هذه الأبيات إلى أي لغة لاحتفظت بقيمتها الابداعية ولوجدت لها مستقبلات نوعية في قلب أي انسان قد ماطلته هنده، بالمقابل لو ترجمنا أبياتا من عصر الضعف مليئة بالجناس والطباق وتُقرأ من الجهتين لكانت سخرية أو على الأقل أحجية غير متماسكة.