غيَّب الموت جل الذين أحبوا موريتانيا منذ استقلالها، وقيد العجز البقية الباقية الصالحة في قيود الوهن والمرض، ولم يبقى سوى فرقة من الكولونياليين لانقلابيين والطابور الخامس ينخر سوسهم عماد المستقبل ويتوسعون دون توقف في نواحي الحياة الموريتانية.. لقد انفردوا بوطننا كما ينفرد الذئب بالفريسة، وقادوه كما يقود أعور سيارة بلا مصابيح في ليل أسحم، ويبحرون به كما يبحر قراصنة بفلك استولوا عليه بالقوة وهم يمخرون به عباب بحرٍ لا ساحل له، لا يهتدون لليابسة سبيلا ولا للنجاة طريقا.. وكذلك يبحر بنا هؤلاء في بحر الحياة لا يتعظون مهما عصفت من حولهم العواصف وهاج من تحتهم الموج.
والكولونيالية مصطلح إنجليزي يقابل الكلمة العربية (استعمار)، ولاستعمار لغة هو إحياء الأرض وتعميرها والعمل على رفاهية ساكنتها وإقرار العدل بينهم ونقلهم من وضع سيئ إلى آخر مُنعَّم.
أما اصطلاحا فقد أجمع الكتاب على أنه احتلالٌ لِمكان ما، سواء كان دولة أو إقليما، أو قطعة أرض أو واحة نخيل، واضطهاد أهله وتهجيرهم وتشريد شبابه ونهب خيراته وتحويل حياة ساكنيه إلى جحيم من الذل والتفقير لا يتوقف ولا ينقطع، ومع الوقت وحين تحين لحظات النضال للتخلص من هذا المستعمر وتلك سنة الله في الخلق أن لا حال يدوم على حاله، يتحد المجتمع مع مناضليه ويضرب بيد من حديد لنيل الحرية، بينما وفي ردة فعل موازية ينتهج ذلك المستعمر طرائق شتى في سبيل بقائه، أشهرها بث الفرقة بين الشعب الواحد (فرق تسد) وخلق طوائف جديدة لم تكن موجودة من قبل، وإثارة النعرات بين الناس على أساس إثني وعرقي، وبث الشائعات المخيفة التي تجعل أصحاب الأرض يؤجلون النضال في مقايضة لبها الأمن والغذاء مقابل الخنوع..
وعندما لا تنجح هذه الطريقة، يجنح المستعمر إلى سياسة لاغتيالات والتصفية طورا، وتلفيق الفضائح لقادة النضال طورا آخر، وبث لانحلال الأخلاقي ورعايته حتى يتمكن من خلق جيل من العملاء الماديين الذين يتخلون عن الوطن مقابل النزوات والمال، وكلما تقدم الزمن صار هذا الجيل من العملاء طابورا خامسا ودويلة عميقة داخل الدولة، يفرقه المستعمر في كل مجال من مجالات العمل داخل البلاد: في المراكز الحيوية من جيش وأمن ومخابرات وشركات، وفي الصحافة والجامعات، وداخل التنظيمات والأحزاب، وحديثا في وسائل التواصل الاجتماعي.
وكلما تقدم الزمن وزادت فترة مكوث هذه الكولونيالية، زادت قوتها أو ضعفت، تزيد قوتها إذا استسلم الشعب لبطشها، وتضعف قوتها إذا وجد المناضلون طريقهم إلى الاتحاد في وجهها واتحدت جهودهم.، ضدها..
إن هذه هي نفس الصورة التي سيشرئب نحوها خافقك ثم يسألك؟: على من تنطبق عليهم هذه المواصفات وترتسمهم تفاصيل هذه السطور بين مسافات أحرفها؟.. سيجيبك خاطرك قائلا: كأنهم حكام موريتانيا اليوم.!.
ليس كأنهم!
بل إنهم هم، وبملامحهم الاستعمارية التي تقبع تحتها موريتانيا مكلومة منذ 1978، تاريخ أول انقلاب ظن الناس أنه بدوافع إصلاحية يومئذ، وبعد أربعة عقود اتضح للناس أنه لم يكن سوى كولونيالية من نوع جديد قادته هذه الطغمة العسكرية الاستعمارية، وكلما قربت لحظة الخلاص منها والتحرر من ربقها والعودة إلى السلطة المدنية، بدلت جلدها كما تبدل أفعى الكوبرا جلدها، ووجدت على أديم الأرض من "بني العلقم" من يمهد لها الطريق للعودة من النافذة، ويهيأ لها لاستقرار ويمدها بروح جديدة وما أكثر أرواحها كقطة ذات سبعة أرواح لا تموت..
إنها رغم كل هذا الطغيان الذي بدى منها على مر العقود لم تتوقف عن إغراق البلاد في أوحال الفساد والبطش الذي يضمن لها لاستمرار والتمدد زمنا طويلا، الله وحده يعلم كيف سينتهي..
لقد جعلت من موارد موريتانيا وخيراتها ملكا لها ودولة بينها وبين أبنائها وقبيلها وعشائرها، وأزَّمت الهويات والإنسان الموريتاني على حد سواء، وإني لأخشى أن تكون أزمات متأخرة على العلاج، لا يمكن البتة أن تتعافى منها موريتانيا إلا من خلال الثورة أو التغيير العنيف..
أولا: أزمة الهويات:
إن مما جعل موريتانيا تدور في فلك هذا التيه الآخذ في تزايد والذي لا شك أنه بات يجسد خطرا على وجودها واستقرارها، هو عدم وجود ثلاث هويات أساسية بعد الانقلاب على النظام المدني، ـ بغض النظر عن الظروف التي ولدت فيها ومنها الدولة قبل ذلك ـ، ألا وهما الهوية السياسية، والهوية الاقتصادية، والهوية الاجتماعية، إنها بصمات كالجندرية التي تولد وتباض مع المخلوق منذ المخاض، وترافقه إلى الممات، غير قابلة التغيير رغم استثناءات محدودة، وظروف تأسيس موريتانيا منذ البداية كان واضحا وعلى مسار سالك الدرب قبل أن يتم إلغاء القواعد التي نشأت عليها البلاد من قبل المنقلبين ويحشرونها على مر أربعة عقود من الزمن في عنق زجاجة لا مخرج منه، ارتهنت خلاله الدولة للقبيلة والجهة، وبعثت فيه أخلاق الدولة السائبة، وأزمت أوجه الحيوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
1. أزمة الهوية السياسية:
الهوية السياسية هي مشرط ينحت قسمات البداية التي تنبثق من خلالها الدولة، وتتأثر في الغالب بالحالة الدولية السائدة في الإقليم الذي تقع الدولة ضمنه عند النشأة، فإن ولدت الدولة في ظل صعود تيار سياسي مثل الرأسمالية الليبرالية، أو الشيوعية الاشتراكية، أو الإسلامية، فإن الدولة في الغالب لا بد لها أن تتقمص إحدى هذه الأوجه بفعل قوة الجوار أو قوة المد (الانتشار)، الناتج عن تبنى مجموعة من النخب لواحدة من هذه التيارات باعتبار أنها تشكل حلا لمشكلات الدولة ولو لفترة محدودة، مدفوعة دائما بإكراهات الانتماء الإقليمي أو إكراهات التحالفات السياسية القائمة في ذلك الوقت، والتي تتمايز بحسب قوتها العسكرية والاقتصادية المادية، وفي حالات أخرى فإن هذه التيارات تفرض نفسها على صعيد الدولة عبر الثورات أو لانقلابات، فتولد معها هوية سياسية مغايرة لما كان موجود من قبل، هوية تقوم على مبادئ ونظم إدارية جديدة ومختلفة، وأيا كانت الظروف التي هيأت للتغيير، انقلابا كان أم ثورة، فإن الهوية السياسية تكون سابقة على نشأة النظام أو مزامنة له، وسابقة على تنفيذ الانقلاب، وسابقة على الثورة، إنها خارطة الطريق نحو تغيير جذري ما، تأخذ جماعة على عاتقها تنفيذها ضد سلطة كانت قائمة فأنهيت.
وغياب هذا الوجه جعل موريتانيا تعيش تيها سياسيا منذ أول انقلاب إلى اليوم، ولذلك أسباب عديدة، منها شخصنة لانقلاب، حيث جاء انقلابا انهزاميا وهروبيا من الحرب لا انقلابا فرضته ظرفية ما، ولم يكن انقلابا هيأت له صراعات أيديولوجية دولية مثل الانقلابات التي ظهرت بسبب الصراع لإيديولوجي الاقتصادي بين الشرق السوفياتي والغرب الرأسمالي الليبرالي، بدليل فشلهم – أي المنقلبون ـ في الانتماء إلى أحد الأقطاب التي تقدم مكتسبات للدولة المنضوية في حلفها، مكتسبات عسكرية ولوجستية لمن اختار المعسكر الشرقي، أو مالية وعلمية لمن انضم إلى المعسكر الغربي، إلا أن الكولونياليين الانقلابيين يومها لم ينتموا إلى أي من الجانبين، واختاروا ابتداع هوية سياسية يشوبها القصور والارتجال، أخذت من إرث النظام المدني السابق نتفاً، ومن تاريخ دولة السيبة وقواعدها الأميرية جزءا، - ادعى إسلامية الدولة وأخذ منها التسمية مستغلا سمعة سارت بها الركبان قُبلاً نحو الشرق الاسلامي لقلة من المشاهير تعد على الأصابع من علماء الدين الإسلامي الموريتاني، واحتفظ في نظام الإدارة والتسيير بالهوية الفرنسية العلمانية - وهذا هو النتف القليل الذي احتفظ به الانقلابيون من إرث نظام المختار رحمه الله.
هذه (الخليطة البليطة) حتمت على الانقلابيين لاحتفاظ بالسلطتين القضائيتين اللتين أسسهما النظام المدني لتساير التغيير داخل المجتمع على فترات من الزمن كنوع من التغيير الفابي، واحدة تحكم محاكمها بالقانون الوضعي، والأخرى بأحكام الشريعة الإسلامية، وكانت صورة أقرب إلى النفاق المؤسس منها إلى تأسيس لهوية سياسية يتطلبها انقلاب يزعم قادته أنهم لجنة للخلاص الوطني، سلكت طريق القوة للوصول بالدولة والشعب إلى الحكم الرشيد.
ومهما كانت المبررات التي سيقت لهذا الانقلاب فإن الحقيقة الوحيدة التي تبدت فيما بعد، هي أنه انقلاب عسكري لإنهاء الحرب والتخلي عن الحوزة الترابية، ولم يكن لذات الأهداف التي علل بها المنقلبون انقلابهم، وزاد هذا لانقلاب من تعقيد مظاهر الهويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد لما طبق الشريعة الإسلامية في عهد محمد خونه ولد هيدالة شكلا لا مضمونا، كنوع من تدارك الوضع والخروج من عباءة النفاق الذي مثلته ثنائية المحاكم، وأيضا حين عاند صندوق النقد الدولي وتقريبه للقبيلة وتمكينها من مفاصل الدولة بعد أن كادت تضمحل قوتها على الأقل في العاصمة نواكشوط التي كانت تمثل مدينة المدنية البعيدة عن تخلف البدو وعجرفتهم.
هذا التغيير الانقلابي واتته الفرصة لبناء هويات للدولة الموريتانية، لكنه ظل يحكم بأنماط وأنساق لا سابق لها، وعجز عن التأثر شكلا أو مضمونا بالمحيط الإقليمي الذي يحيطه، فلم يستنسخ منه تجربة واحدة من تجاربه السياسية، لم يستطع أن يؤسس هوية ملكية أو أميرية أو جمهورية حقيقية، ولم ينشأ دستورا جديدا يغير من ملامح الحكم بل احتفظ بما كان قائما، وزاد عليه بكثير من القرارات لارتجالية التي ستدفع موريتانيا ثمنها فيما بعد..
2. أزمة الهوية الاقتصادية:
أما الهوية الاقتصادية فهي الاختيار الذي يختاره نظام الحكم المؤسس أو المنقلب أو الثائر عبر منهج تسييري ضمني يتم التشاور عليه من طرف المؤسسين، وكانت جل الدول الأوروبية بعد الثورة الفرنسية تبنت الطرح الليبرالي كهوية اقتصادية بسبب ما يحمله من آفاق واعدة على تطور المجموعة داخل الدولة، وقدرته – أي الطرح الليبرالي ـ على جعل الدولة راعية مكتفية بالتنظيم وحماية الأفراد وممتلكاتهم.
وفي ملاحظة سريعة يجب علينا أن لا ننسى أن هذه الليبرالية التي نادى بها جل الفلاسفة في عصر الأنوار، صارت اليوم ليبرالية محدودة جدا، تحتفظ من خلالها الدولة بوسائل الإنتاج والمشاريع الحيوية والاستراتيجية بعيدا عن التملك الفردي، مما هيأ لها الهيمنة على اقتصادات العالم وتحقيق الرفاه لشعوبها، بينما غُيبت هذه الجزئية في موريتانيا وتم تحويل اقتصادها إلى عبثية وأرضية فاسدة تخدم البرجوازيين وأباطرة الفساد وشيوخ القبائل، وجعلتهم يتحكمون في الثروة على غرار النظام الاقطاعي الروماني القديم، الأمر الذي أنتج أربعة أجيال منذ تأسيس الدولة الموريتانية إلى اليوم غارقين في الفقر والجهل والتيه، أجيال ركعتهم شرذمة من الفساق واللصوص مكنتهم السلطات الانقلابية من وسائل الإنتاج الحيوية فحولوا الناس إلى عبيد ومملوكين..
أولئك البرجوازيون حكمتهم الكولونيالية الانقلابية في رخص الصيد والأراضي الزراعية، وفي شركات تشييد الطرق وفي الأسهم في الشركات القومية مثل شركة اسنيم، وشركات التنقيب عن الذهب مثل شركات مناجم، والهيئات الطبية بعدما حطموا عن قصد النظام الصحي العام الموازي الذي يلجأ إليه المواطن البائس بديلا عن النظام الصحي البرجوازي الغالي، وهكذا غاب وجود الدولة كمنافس حريص على بسط العدالة الاجتماعية بين الناس.
لقد أنتج هذا النمط الاقتصادي الفوضوي، تمايز إثني وقبلي وعشائري، جعل أباطرة البرجوازية والمال الحرام لا يهتمون إلا بمن ينتمي إلى حيزهم الجغرافي أو الجهوي أو القبلي، ومع الزمن، ومع استمرار إقصاء الغالبية العظمى من الشعب، حدث شرخ اجتماعي عمق الإحساس بالغبن، وظل النظام الحاكم يبتكر علاجات ترقيعية دون أن يدرك أن العيب في وجوده هو، وأن العلاج يكمن في مراجعة شاملة لنظام الدولة وعقيدتها الاقتصادية ولو تأتى ذلك من خلال استقالة الكولونيالية الانقلابية تفاديا للثورة العنيفة التي ستكون هي الحل الوحيد المتاح للملايين من الموريتانيين المضطهدين على أرضهم ووطنهم، المبددة ثرواتهم على قلة قليلة من أبناء علية القوم والأقلام المأجورة التي تدافع عنهم، والمنافقين المحيطين بهم..
وعلى كل حال يجب أن نفهم أن الثورة ليست بذلك السوء الذي كرسه فشل "السعير العربي" في عقول الناس لما أفِلت بسببه حكومات وأوشكت بسببه أن تزول دول، لأن عامل الفشل فيه كان هو العرضية وفوضوية الأحداث التي فجرت الثورة قبل أن يبنى الثوريون نظاما هوياتي اقتصادي واجتماعي وسياسي يضمن النجاح، ولم يكن العيب في اختيار الثورة كحل أمثل لمشكلات المجتمع العربي، بل كان العيب في من أسرجوا الثورة واستغلوها، وكان العيب في الفوضى التي طبعتها، وكان كذلك في تجاهل الحكام العرب والنخب الموالية لهم ـ خوفا من يوم ذي مسغبة - للنداءات والتحذيرات التي وجهها إليهم المفكرون والكتاب بضرورة التصرف لتفادى طوفان الغضب الشعبي الجائع الذي إذا حدث سيفقد معه الناس الاهتمام بما بعد اللحظة، لحظة ما بعد الثورة، لهذا كان الربيع العربي مدمرا بدل المخلص..
هنالك دول استجاب ملوكها لنداءات النخب الداعية إلى التغيير، فأحدثوا تغييرات مفصلية في دولهم مثل المغرب والسعودية في عهد بن سلمان والإمارات، وكانت تلك التغييرات التي حدثت في هذه الدول برهان على كذب ما كرسه المنافقون الموالون للنظم في عقول العامة حول خطر الثورة، وأنها لا تنتج سوى الفوضى حتى صار كل حديث عنها يعتبر خيانة ودعاية لتمزيق الأوطان.
إذاً، الثورة أو الاحتجاج العنيف ليس بهذا السوء الذي يسوق له أباطرة الفساد وأقلام الشرذمة الحاكمة، إنهم يصورونها على أنها إيذان بالنهاية، بينما الحقيقة أنها إيذان بنهايتهم هم، ونهاية امتيازاتهم الإقطاعية، ورخص صيدهم، وأساليب نهبهم، وشركاتهم وشراكاتهم في شركات الصيد الأجنبة والشركات الدوائية، إنها إيذان بنهاية هيمنتهم اللا إنسانية التي دفع الشعب الموريتاني ثمنها من دمائه وتشتيت أبنائه الذين هجروا وهلكوا في طرقات الموت الموحش في أمريكا اللاتينية، ومن مجتمعهم المنقسم على نفسه كشعبين متجاورين زنوج وبيض وربما غرابيب سود، ينظر كل واحد منهم إلى الآخر كعدو يجب الحذر منه في انتظار تصفيته متى ما واتت الفرصة لذلك.
إن الهوية الاقتصادية هي صمام أمان الدول وهي بصمة الدولة، لذلك أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مدينته المدينة المنورة على هوية اقتصادية اشتراكية تكافلية قبل أن يشرع في أي شيء آخر، حتى أنه أسس هوية المدينة المنورة قبل أن يؤسس مسجدها، وخطب في الأنصار أن يقاسموا المهاجرين فائض طعامهم وشرابهم وسكنهم وحتى زوجاتهم، فقاسموهم الخبز والملح والفراش والنساء بعد تطليقهن وانتهاء عدتهن، وكانت هذه هي البداية التي رسخت الهوية المدينة التي انطلقت منها الجيوش تدك حصون الكولينيالية الفارسية والرومية الظالمة، ونشروا أعظم دين نزل على البشرية قبل أن تشوهه زعامات النفاق الديني المعاصر..
عندما أطنب في الكتابة عن هوية الدولة الاقتصادية فذلك لأهميتها، ولاستشعاري أني أتحدث عن ضامن يضمن استمرار الأجيال مستقبلا في تآخي ومودة، لأن الهوية هي الضامن لتوزيع الثروة بعدالة على الشعب، والمنهج الذي يجعل المنظومة الحاكمة نظام تسيير لا نظام استعباد وفساد، وعند غياب هذا واستحالة تحققه وسد كل الأبواب أمام التفاهمات البينية، بين المواطنين والنظام لن يكون في الأفق من حل سوى الثورة..
الثورات مثل العملية الجراحية للجسد، خلقت لتصحح مسارات الدول وتعيدها إلى قاطرة الحياة.. وأجل، كانت الثورة دائما حل أخير أقرب إلى التغيير الراديكالي بعدما تصبح وتمسى المحاولات المتكررة للتغيير الفابي مضيعة للوقت، لكنها في ظل استمرار الأوضاع كما عليه الحال في موريتانيا اليوم، فإنها كالقيامة لا محالة آتية وإن تأخر الزمن بها وطال.
هذاما استوعبته دول غربية وآسيوية متقدمة، استشعرت ضرورة خلق هوية اقتصادية داخل إطار تحالفي جماعي، تحافظ به على ازدهار شعوبها، ومن الأمثلة عليها حلف مجموعة لبريكس الذي بدأ قادة دوله مؤخرا في اجتماع 2022 يطرحون احتمالات خلق عُملة جديدة تنافس الدولار واليورو لتحقيق قدر من القوة في وجه تغول الدولار الذي يحدد أسعار الصناعات المصدرة للخارج من هذه الدول، وقبل مجموعة لبريكس اتحادات دول الخليج الاقتصادية، والاتحاد الأوروبي، ودول العشرين ودول أوبيك.. إلخ.
3. أزمة الهوية الاجتماعية:
لعل أكثر ما عمق مأساة موريتانيا وحولها إلى فوضى من الفساد والعنصرية والطغيان الفردي والجماعي، هو استغلال الدين كهوية اجتماعية وتحوله مع الوقت إلى نفاق، ثم إلى طقس منفصل عن الحياة وعن أخلاق الناس، ويظهر هذا في الممارسات الاجرامية اليومية المغلفة بالدين والتي لا حصر لها، ولكن من أرذلها أفعال الموردين، والأئمة المنافقين الذين يشرعون للحكام أفعالهم وللمنافقين نفاقهم، وللمجرمين إجرامهم، وتجار الأغذية الذين قتلوا آلاف الموريتانيين دون أن يرق لهم جفن حتى صار البعض يرى في كل متمظهر بالدين مستغل جشع، أو تاجر يبيع السموم أو يستغل مظهره الديني لخداع الناس، زد على ذلك انتشار موبيقة الموبيقات، ألا وهي استغلال العواطف الدينية عند المظلومين حتى ضاع أثمن شيء قدسه الله على وجه الأرض وأمر بالحفاظ عليه ألا وهو (الروح)، صار إزهاقها مؤتمن العقوبة لأن الفاعل إن لم يكن من أهل الطبقات السفلى فهو ضامن لتحرك القبيلة فيما بعد وإلقاء المواعظ على المفجوعين بتذكيرهم بما أعد الله لأهل العفو والصفح، حتى ينال هو العفو، والحق أن ذلك الذي أعده الله، إنما أعده للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، أما القتل العمد والاغتصاب وقتل الغيلة فهي من الموبيقات التي لا يجب على ذوي الضحية العفو فيها حتى يعود الاستقرار إلى المجتمع الموريتاني.
لقد تنبه المرحوم عبد الوهاب المسيري لهذا الأمر، ودعا إلى علمنة الدول العربية لسبب واحد، ألا وهو أن الدولة عندما تكون مشرفة على الدين كمؤسسة لا كشريك أو طرف تقل المأساة..
المأساة التي أعني هنا هي مأساة استغلال المتدينين لعواطف العامة، واستغلالهم للدين من أجل تبرير إجرامهم المتفرع في كل ناحية، فلا يكون بإمكان رجل واحد أن يحرك آلاف الناس في اتجاه الفوضى دون مبرر واضح، ولا يكون بإمكان رجل واحد أن يلقى كلاما معسولا يفلت بعده مجرم قتل نفسا بغير حق من العقاب، ولا يكون لرجل يتسيد قبيلة في فيافي من الخلاء تعيش عيشة القرون القروسطية شكلا وسلوكا أن يكون قادرا على تخليص لص من أكلة المال العام من العقاب باجتماع القبيلة وتوجيه علمائها للوقوف معه بالباطل.
إن الحقيقة المرة وكل أحوالنا حقائق مريرة، هي أن مأساة الهوية لاجتماعية الموريتانية بدأت مع الجفاف الذي ضرب البلاد منتصف السبعينات، وأجبر مئات الآلاف من الناس الذين يعيشون في عاصمة نظيفة متمدنة على تقبل استقبال آلاف البداة الجهلة الأجلاف الذين جرفهم الجوع مصحوبين بمواشيهم وأخلاقهم السيئة التي لا تعترف بالحدود، ولا تعترف بقيم المدنية ولا بالدولة ككيان جامع للناس، وفي فترة قصيرة وجدت الدولة يومذاك نفسها محاصرة من كل أطرافها بهؤلاء الوافدين الذين حملوا معهم كل خلق سيء ووسخ، إنهم الأعراب الذين يرون أن حليلة الجار يمكن النزوح إليها ليلا في غياب زوجها، وأن الفري يمكن أن يتكور في الخاصرة ويلعب الغميضة مع الأشعة السينية في جوف المرأة، وأن الإسلام يسمح بقتل العبد وإخصائه، وأنه يجيز التكتم على قبائح الأمور من خيانة زوجية وزنى محارم خشية الفضيحة وابتلاء الآخرين بها، وأن الهوية الإسلامية للدولة لا تكتمل بدون تمايز طبقي يجعل من علية القوم معصومين من كل خطأ وعقاب، وسفلة القوم خليق بهم كل شر وانتقاص كما ردد متدينون سياسيون في تسجيلات صوتية في الماضي القريب.
وفي أقل من عشرين عاما تحولت موريتانيا الجديدة بسبب هذا النزوح المشؤوم، إلى موريتانيا كما كانت في زمن السيبة قبل تأسيس الدولة، انتشرت كل القيم المرذولة التي كانت تسود بلاد السيبة في العاصمة، وتسللت هذه القيم إلى داخل المؤسسة العسكرية حتى صارت مع الوقت وجهة لأهل الشوكة فقط، وصار القضاء وجهة للزوايا، وهكذا مع الوقت فشلت الدولة في إيجاد هوية اجتماعية جامعة للدولة الموريتانية الوليدة التي تتنازعها حداثة التأسيس، وانعدام أمة (شعب).
ثانيا: أزمة الإنسان الموريتاني:
عمر علاقة الانسان الموريتاني بالحضارة لا يتجاوز بضع سنين، على عكس الشعوب الأخرى المجاورة له، شعوب مثل الجزائر والمغرب والسنغال، عايشت رافدا مهما من (روافد الحضارة) ألا وهو الاستعمار الفرنسي، عايشته وعايشها وتعلمت منه قيم مختلفة جعلتها على علاتها تنشأ مقدساتها الخاصة، وأول هذه المقدسات احترام الانسان كأخ في الدين والوطن، وثانيها نبذ الظلم، وثالثها قيم العدالة، وقد شيد لها رافد الحضارة ذاك (المستعمر) الجامعات والمستشفيات واتخذها مستعمرات وتمسك ببعضها كجزء لا يتجزأ من أرض فرنسا، لا كمستعمرة سيحق لها الاستقلال ذات يوم، تخرجت من هذه الدول التي عايشت الحضارة نخب واعية، صار الوطن بالنسبة لها رقعة وشعب مقدسين، أما الإنسان الموريتانية فنظر إلى المستعمر شزرا، وتلقى مفاهيم خاطئة حوله لا أدري من لقنه إياها، لكنها وجدت بيئة خصبة وقبولا في قلوب الناس، فرفضوا محاولاته الحثيثة لتمدينهم، وقاتله بعض الأفراد ممن كانوا فيما سبق قطاع طرق يغيرون على الخيام ويقتلون العجائز العزل ويتركوا كلابهم تفترس الصبية، قبل أن يوجهوا سلاحهم إلى هذا الوافد المنبوذ الذي يملك الكلَّ والرزق الوفير، فصاروا بقدرة قادر مجاهدين ومقاومين، بينما كل من قتل في معارك المقاومة الثلاثة عشر بحسب ما أرخ له (المؤرخون) ـ على خجلها ـ لا يصل إلى عشرين فردا باستثناء معركتين كانتا مفصليتين في تاريخ موريتانيا لأسباب يضيق المقام عن ذكرها، وهي معركة الرشيد وأم التونسي،
أما البقية الباقية كانت هي الأخرى مرتزقة باسم الدين ومتخابرون مع القوة الكولنيالية ، مهدوا لها الطريق كما مهد ابن العلقم الطريق لهولاكوا إلى بغداد، خيانة مهما كانت مكانة الأشخاص الذين فعلوها تبقى خيانة..
هذه العوامل مجتمعة أفرزت إنسانا موريتانيا معقداً ومليئا بالتناقضات والحقد، يميل إلى الفوضى والفساد أكثر مما يميل إلى الإصلاح والتغيير، ويقدس الخرافات التي تعطيه مكانة اجتماعية من الوهم، ويرفض سيادة الدولة بكل مفاهيمها الحميدة والمجيدة التي تؤسس لكيان موحد يتمايز الناس فيه على أساس العمل وتحصيل الشهادات العليا ودفع الضرائب وخدمة البلاد، ويكفر بقيم المدنية ويعتبرها عدوه الأول، وحق له ذلك لأنها قيم تؤذن بزوال وهمه، وتحرر الانسان من ربقة عبوديته، وتتلاشى معها مكانته القبلية البغيضة التي هدمت كيان الدولة الموريتانية وحاصرته، وجعلته في القرن الواحدة والعشرين من أفقر الدول رغم غناها وأخطر الدول أيضا رغم قلة سكانها..
والإنسان الذي تنخره هذه الصفات، وعاش هذه المحطات يظل يُوَّرث لأبنائه كل معتقداته السيئة حول المجتمع، كمسلمات:
مسلمات حول عليته كمركز للكون، وحول الطبقية وحول العبودية وحول احتقار الدولة، ومع الوقت تصبح الدولة أمام خطر الاجتياح لأن السور الذي يحميها هو الشعب، والشعب الذي يرى في فيافي البادية أمنه أكثر مما يراه في فناء دولة القانون، ويستمد قيمه من الطغيان وتحريف قيم الدين الإسلامي على حساب منجاته في الآخرة، يصبح واحدا من عوامل تفكك الدولة.
هنالك ما يزيد من وطأة هذا التأزيم ويُصعب إيجاد حلول له أو استشراف لها، ألا وهو ترحالية الأزمة بين الأجيال كما أسلفت، تنتقل من جيل إلى الجيل الذي يخلفه على الأرض، ولهذا لا مناص من تقسيمها إلى أزمة الأجيال، أزمة الإنسان الموريتاني الأول، وأزمة الإنسان الموريتاني المعاصر.
1. أزمة الإنسان الموريتاني الأول:
كانت العزلة هي أزمة الإنسان الموريتاني الأول ما قبل ستينات القرن الماضي، أزّمته ككائن بشري عاش في ظروف بيئية صعبة ومريرة، تتنازعها سطوة السيبة المنتشرة على عموم الحيز الجغرافي للبلاد السائبة، رقعة لا يحكمها قانون ولا إنسانية، وإنما يحكمها قانون الغالب، أي قانون القوة، القوي يأكل الضعيف ويسلبه حياته ويسبي أهله، وعلى هذا استمرت معيشة وحياة هذا الإنسان الموريتاني زهاء خمسة قرون من السيبة والوحشية اللتين امتزجتا بعقائد الناس وطبائعهم، وأجبرتهم على أن ينضووا تحت خيمة القبيلة والعشيرة، وأن يكونوا أجلافا ووحشيين تجاه الكائنات البشرية الأخرى التي تتشارك معهم الأرض، وتشبههم في الملامح والمعيشة والظروف، وتفاقم هذا الوضع بندرة الغذاء، ومع الوقت نشأت كيانات سميت جزافا بالكيانات الأميرية، تصارعت بالسواطيل والهريرعلى مكامن الماء والكلأ، وسلب بعضها حرية البعض من مختلفي البشرة وحولوهم إلى أرقاء كوسيلة وحيدة لراحة الإنسان الأول، وهذا ما يفسر الكم الهائل من العبيد والعبيد السابقين المتواجدين في موريتانيا اليوم، حتى أن البعض كان يسترق أخاه وأقاربه متى ما واتته فرصة لذلك.
فرضت هذه الصراعات على الإنسان الأول قسوة القلب، وتحريف النصوص الدينية حتى يحقق أقصى مصالحه، وضمن الموروث الديني بعض التحريفات كقوله لا خير في الحداد ولو كان عالما، وأن العبد إذا عبق لا يشم رائحة الجنة، وأن الآخرة متأخرة، وأن الله غفور رحيم لكل شيء، أي شيء مهما كان ذلك الشيء، وأن دم الصائل هدر، وأن العبد المطيع جنته مضمونة حتى ولو لم يقدم لله عبادة واحدة، وأن مال حسان مباح، وأن الصلاة خلفهم وخلف لمعلمين لا تجوز ولا تقبل، وأن بعض المشايخ وسادات الطرق لهم حوبة وحظوة عند الله دون غيرهم، وأنهم ينامون عند أنف البراق كل ليلة، ويسافرون إلى مكة ويعودون على مقبض فأس، ويلتقون رسول الله صلى الله عليه وسلم جسدا متى ما شاءوا ذلك، وأن الطبقية سنة الله في الخلق لا تتغير، وأن التمايز بين الناس على أساس العرق لا تصح عقيدة المسلم دون التسليم به.
كان الإنسان الأول براغماتيا حقا ورهيبا، يصارع صحراء قاحلة ويسخر ما هو موجود لخدمته مهما كان ثمن ذلك، ولما وفد إلى المدينة بعد الاستقلال كانت صدمته قوية من التغيير الهائل الذي حصل على مستوى العقول والتنمية، لكنه ـ وهذا غريب ـ استطاع بذكاء نادر أن يفرض قوانينه على الساكنة وعلى النظام الحاكم، هيمن بمنظومته آنفة الذكر والسرد، على الشعب والحاكمية، ولم تمضى سوى أربع سنوات حتى استطاع أن يحاصر الثلة القليلة المتحضرة التي كانت تسكن قبله العاصمة وتشكل نواة لبناء دولة قانون ومؤسسات تقوم على العلم والعمل والمساوات.
بعث القبيلة والعشيرة بقوة، وساعدته الحرب الدائرة آنذاك على التغلغل أكثر من خلال دمج أبنائه في قيادات الجيش باعتبارهم أولى بالقيادة وبخوض الحرب كأهل شوكة وورثة إمارة بعدما كان يخفيهم عن المدارس، وتولى شِلوٌ منه الممارسات الإدارية الأخرى، مثل قيادة الخارجية والداخلية والقضاء والتعليم، ولم يكن عسيرا على هذا الانسان المعقد الداهية في نهاية السبعينات أن يقلب نظام الحكم، ويحبس موريتانيا التي كانت صاعدة داخل عنق زجاجة من الأوهام والشر والتخلف، الشيء الذي جعل الإنسان الموريتاني المعاصر يقبع تحت وطأة الهزيمة ويتحول إلى إنسان مهزوم ويائس ومذهول من هول الصدمة إلى يومنا هذا.
2. أزمة الإنسان الموريتاني المعاصر:
الإنسان الموريتاني المعاصر المذهول من هول الصدمة، هو ذلك الذي ولد في خمسينات القرن الماضي، وعايش بقايا الاستعمار وآثاره الحضارية، وبلغ سن التكليف في زمن الانقلاب الأول على السلطة المدنية، هذا هو الإنسان الذي درس في مدارس العصر بعيدا عن محاظر الإنسان الموريتاني الأول التي حرف علومها، وسخرها للظلم والغبن وتقديس التراتبية كما أسلفت، وتشريع جرائمه وموبيقاته تجاه أخيه الانسان وتجاه الوطن، فلا تجد مرذولا مورس أو يمارس في موريتانيا إلا وله تأصيل ديني مفترى، سكه الإنسان الأول من الدين كذبا وبهتانا، ولا أدري سبب جراءة ذلك الإنسان الأول البدوي على الله بهذا القدر وحسبه أنه أفضى إلى ما قدم..
وهذا الإنسان الأول هو الذي تكلمنا عنه في أزمة الهويات، أما لإنسان المعاصر المثقف المتمدين، فهو من انتزع الاستقلال رغم تفاسيرنا وتفاسير غيرنا لاستحقاق ذلك الاستقلال، وهو الذي بنى عاصمة من العدم وحولها من كثبان موحشة تستوطنها الكلاب والذئاب، إلى وطن كان منتصف السبعينات وطن كامل الإمكانيات، له عملة مستقلة قوية، وعلاقات دبلوماسية رفيعة، وصناعات مختلفة، ومدارس تصنع الإنسان كإنسان ذو أخلاق ومثالب طيبة، لا آخر وقح وطاغية، وهو الإنسان المعاصر الذي اختار أن يدخل الحرب رغم محدودية آلياته، وهذ الإنسان لو لم تتآمر عليه الطبيعة وتحاصره بآلاف النازحين البداة، لكنا اليوم نعيش تحت ظل الدولة التي طمح بها لنا (سويسرا إفريقيا)، ولكنا اليوم دولة مختلفة، لكنه لم يستطع الصمود أمام تحالف الكولونيالية الانقلابية مع ذلك الإنسان الذي اقتلع ملامح الدولة المدنية من جذورها كما أسلفت ووأدها في المهد.
من سوء حظ هذا الإنسان الموريتاني المعاصر المثقف أنه كان قليل العدد، مكون من ثلاثة أجيال فقط هم جيل الأربعينات حتى منتصف الخمسينات 1940 – 1958، وجيل الستينات حتى منتصف السبعينات 1960 إلى 1978، وجيل الثمانينات حتى منتصف التسعينات 1980- 1998، هذه هي الأجيال الثلاثة المعاصرة والمحاصرة اليوم، والتي دفعت ثمن الحرية والنضال لأنها ولدت وتربت في بيئة مدنية قبل أن تغلب البداوة وسلوكياتها على الدولة وتحولها إلى نسخة معاصرة لما كانت عليه موريتانيا في زمن السيبة والفوضى، الشيء الذي خلق تنازع قيم وأخلاق بين الإنسانين، أو إن شئت قل: خلق صدام بين أخلاق هذين الإنسانين، كانت نتائجه صادمة ومؤلمة؟
3. صدام القيم بين الإنسانين الأول والقديم:
ما بين الإنسان الأول والإنسان الأخير ـ بأجياله الثلاثة ـ تحولت البيئة السياسية إلى صراعٍ لانتزاع الحقوق السياسية والمدنية، وأخذ كلاً من الإنسانين القديم والمعاصر آليات ووسائل مختلفة، فالإنسان القديم في وسط معمعة المدنية التي تتطلب الشهادات والخبرات، سك وسائل بديلة استطاع من خلالها أن يجد موطأ قدم على أرض رخوة، ألا وهي التملق والنفاق لأحفاده من الطغمة الحاكمة والتحالف معها ضد إرساء دولة القانون، إنك تذكر عزيزي القارئ إذ حدثتك أن مشكلة سلطة الاستقلال الكامنة في غياب الهوية أو نسيانها أو تأجيلها، لم يسعفها الحظ حين باغتها الفارون من الحرب بانقلاب عسكري، أولئك الفارون من الزحف كانت غالبيتهم من الإنسان الموريتاني الأول المشبع بالطغيان والمزهوا بالقبلية والجهوية، ذلك الإنسان الذي حدثتك عنه أيضا في هذا الفصل واستنتجت كما غيري أنه إنسان وافد على المدينة مطارد من الجفاف، هو نفسه الذي تغلغل في الجيش على غفلة من رافد الحضارة الذي خيل إليه أن هذا الكم، صار على قدر من التحضر والتهذيب، لقد جلس على مقاعد الدراسة في أكاديميات "سانسير" الفرنسية، وفي مدرسة الدرك في روصو، وفي الأكاديمية العسكرية الفرنسية في "سان لويس" السنغالية، لكن الحقيقة أنهم ما إن نفذ الانقلاب الأول حتى بدأ في تقريب الإنسان الموريتاني الأول، وشرعوا في إقصاء الإنسان المدني الأخير (المثقف) الذي تخرج هو الآخر من الجامعات والمعاهد الفرنسية المدنية، لكنه فهم الرسالة فهذبته حضارة بلاد موليير وأسس الأحزاب والتنظيمات وناضل من أجل التعريب والحرية ولاستقلال، وجاء بالنظريات والأيديولوجيات، وطبق بعضها على الأرض وانعكست على سلوك الناس المدنيين سكان العاصمة الأوائل، وفي وقت قليل انتشرت دور السينما ودور الأزياء والمصانع فكان أن قلما تخرج من مقاطعة إلا وسمعت أزيز المصانع، وكنت إذا تنقلت وجدت وسائل نقل معاصرة تستخدم حاسبات المسافات بالكيلومترات مقابل خمس أواق، وكانت خدمة البريد والصرف الصحي والخدمات الطبية آخذة في النمو والازدهار، فقط الإنسان الموريتاني المعاصر فعل كل هذا وفي ظرف لا يتجاوز 15 عاما قبل أن ينقلب عليه أبناء الإنسان الأول، وصدق من قال "إن الطبع غلاب"..
في خمسة عشر عاما شيد الإنسان الموريتاني المعاصر دولة وبنى قيم، وخلال 48 عاما لازال الإنسان الأول يوغل خنجر لإجهاز في روح الدولة الموريتانية، استخدم الشعر للنفاق وتحقيق مآربه، وتوصيل أبنائه الخدج إلى مراكز القيادة في السلطة، صار بإمكان رجل تقليدي أن يدخل على زعيم الانقلاب ويلقي قصيدة ركيكة تحرك فيه مشاعر زمن الفتوة والسيبة، فيمنحه شاحنة من الطعام، أو قطعة أرض غالية، أو ملايين أو رخصة صيد، أو يعين له ابنه الذي لم يحصل في حياته على شهادة جامعية، ولا يعرف سوى كلمات متناثرة من لغة بلاد نابليون استبدل تاؤها بالطاء عند اللفظ..
من الطبيعي في حركة توارث الأجيال أن يكون الحاكمون لموريتانيا اليوم هم من جيل الثمانينات والسبعينات، - أو هكذا كان ينبغي ـ غير أن المظاهر تخيب الأمل بمشاهدة كهول أكل الدهر من أعمارهم وردهم إلى أرذل العمر، يتم تدويرهم ليظلوا هم المتحكمون في مصير البلاد والعباد، بينما الأجيال الثلاثة، أجيال المعرفة والجامعات شردوا في فيافي الأرض ما بين مشردين في المهجر وما بين مستسلمين لأجمة الحياة الأسرية يحفهم الفقر والمرض من كل حدب وصوب..
لقد استطاع الإنسان الموريتاني الأول أن يبنى حوله سور قوي من القواعد التي تساعد على استمرار وجوده، ومنها:
تجييش الضعفاء والجوعى في الانتخابات لعكس إرادة الأمة الموريتانية في التغيير عبر انتخاب السفلة نوابا ومستشارين مقابل الطعام أو الدواء أو قصعة هي في الأصل حق معلوم لكل إنسان داخل الدولة (الوظيفة)، والتفوا حول مرشحي الكولنيالية الانقلابية الموريتانية التي ستبقى ببقائهم، سيصعب عليك في كثير من الأحايين استيعاب بعض الظواهر الشاذة كأن ينتخب الشعب عجوزا تم جلبه من الخارج ليتولى رئاسة البلاد، لكنك ستفهم ذلك حين تدرك أن انتخابه هو ما سيضمن للكولونيالية الانقلابية استمرار مصالحها على فترات من الزمن، سيصعب عليك أيضا فهم لماذا مثلا يحيط كل التقليديين وبعض المعاصرين بالرئيس الحالي ولد الغزواني وشلته الحاكمة رغم علو كعبهم في الفساد والفشل، لكنك ستفهم مع الوقت سبب ذلك، وأول ما ستفهم أن كل مظهر من هذه المظاهر هو مرآة عاكسة لهيمنة الإنسان الموريتاني الأول؛ الإنسان البدوي، الإنسان النازح منذ أيام الجفاف واختطافه لمشروع الدولة مدعوما من الكولنيالية الانقلابية الحاكمة التي يُعتبر هذا النظام اليوم امتدادا لها لما يتسم به من موروث قبائلي ومشيخاتي تقليدي.
لقد سميتها كولونيالية لأن هذا الذي يحكم موريتاني اليوم، هو مجموعة من الضباط يستعمرون البلاد كما استعمر المستعمر الفرنسي ولبريطاني البلدان من قبل، ينهبون خيراتها كما كان المستعمر ينهب خيرات البلدان، ويشردون أبناءها في المنفى الاختياري مرغمين كما كانت القوى الكولنيالية تشرد أبناء الشعوب المستعمرة في فيافي المعمورة، وإنك لتدرك مهما كانت محدودية فهمك أن القوى الاستعمارية الكولونيالية، لا سبيل للخلاص منها إلا بوعي الشعب واستعداده للتضحية من أجل التحرير والاستقلال..
فمتى ستحين تلك اللحظة، وتتحرر موريتانيا وتعود قاطرتها إلى سكة الحياة، ويعود شعبها في ود ووئام وإخاء؟
سيحدث ذلك عندما تعترف كموريتاني أنك تعيش تحت احتلال، تحت استعمار، تحت كولونيالية مقنعة، وليس تحت نظام منتخب كما تريد البقية الباقية من شلة الإنسان الأول أن تقنعك به.