إن الإنسان دائما يفكر في مستقبله ويحب أن يشعر بأنه آمن وأن ما ينتظره في قابل أيامه مُطَمْئِنٌ، ويخلو من المخاوف وأسباب القلق. ومن هنا جاءت عقلية الادخار، والحرص على اكتناز الأموال والممتلكات المختلفة بغية تأمين المستقبل الشخصي والأسري. ووعيا من بعض الدول بهذه الحقيقة قامت كثير من الحكومات، الساعية إلى تأسيس قواعد للأمن الدائم، والاستقرار، والتطور السياسي والاقتصادي في أوطانها، والراغبة في ضمان عيش كريم لمواطنيها وسكانها، قامت بوضع قواعد لما يسمي بنظام التقاعد، أو الإحالة على المعاش. والهدف من ذلك هو أن تضمن هذه الدول للفئة العاملة من مواطنيها حدا أدنى من الدخل ومن الخدمات يؤمن لها حياة كريمة بعد توقف رواتب أفرادها عن السداد، ويجعلها أيضا في غنا عن اختلاس ما في عهدتها من المال العام، حتى لا يتعرقل إنجاز المشاريع التنموية الكبرى التي يعول عليها في استمرار تطور البلد وتحسن أوضاع أهله. ونذكر من هذه الدول، علي سبيل المثال كندا، فقد أنشأت حكومتها ما بين ثلاثة إلى خمسة مصادر للدخل بعد سن التقاعد: منها صنف يُدفع تلقائيا لكل من يطلبه بعد بلوغ سن الخامسة والستين، ويسمي تقاعد السن OAS، ويحصل عليه كل مواطن أو مقيم تقريبا، حتى ولو لم يكن قد عمل من قبل، ومنها راتب تقاعدي للموظفين والعمال، CPP/QPP يُجمع لهم من أجورهم طيلة مدة عملهم، ومنها راتب تقاعد من الادخار الشخصي، RSI يقوم به الأفراد بواسطة برامج للادخار الشخصي، ومنها مساعدات تخص سكان بعض الولايات مثل إقليم كبك QPP تدفعها الحكومة الجهوية لقاطني هذا الإقليم… وغير ذلك.
وهذا فقط مثال يمكن القياس عليه.
ونعود بعده لذكر الصلة بين هذا الأمر وعنوان مقالنا، آنف الذكر، الذي هو (العلاقة بين ضعف تعويض التقاعد وعقلية نهب المال العام) ونقول إن عدم معرفة الموظف لمصيره بعد التقاعد، وخوفه من أن يعجز عن أن يواصل عيشا كريما لنفسه أو لأهله قد يجعله يستأثر بما تحت يده من مال عام ويدخره في حسابه الخاص ليُأمن به مستقبله، ومستقبل أبنائه. وهذا ينعكس على الاقتصاد، ويسبب تباطأ أو انعدام مسيرة التنمية الوطنية، ويوقف البناء في الدولة، ويُبقيها متخلفة وأغلب سكانها فقراء ومتعبون. ومع طول الوقت قد يؤدي إلى الاضطرابات السياسية والقلاقل الاجتماعية وانعدام الأمن. وهو ما نرجو من الله الوقاية منه لبلادنا. وعليه فإنه مطلوب من الدولة الموريتانية أن تنظر في هذا الأمر، وأن تطور من نظام التقاعد لديها كخطوة احترازية، وكعمل وقائي ضمن ما تقوم به من مجهودات لتحسين الأوضاع العامة، ولتأمين مستقبل أفضل. وأقترح هنا، بصفتي موظفا عموميا مدركا للتحديات التي يواجهها هذا الأخير، أن تقرر الحكومة الموريتانية، وعلى غرار ما قامت به جمهورية مصر العربية حديثا، تعويضين للمتقاعدين، أحدهما عاجل، ويدفع مرة واحدة، والآخر مستمر. يُدفع الأول للمواطن فور تقاعده، علي شكل مبلغ يمكنه استخدامه في بناء مشروع شخصي يواصل به نشاطه في الحياة اليومية، ويكسب به دخلا متجددا، ويكون به إنسانا مفيدا لنفسه ولمجتمعه. والثاني يكون راتبا شهريا معقولا يضمن الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم للمتقاعدين. وهذين الإجراءين سيطمئنان الموظف العمومي، ويعينانه، وخاصة من في قلبه نوع من الإيمان والمخافة، على التعفف عن أكل المال العام إن هو تولي تسيير شيء منه، وسيجعلانه يصرف ميزانية الدولة في ما خُصصت له من بناء المشاريع العمومية ذات النفع العام. وسينشأ عن ذلك إحساس بالثقة لدى المواطنين، وتزول عنهم به بعض أسباب التذمر والتفكير السلبي اتجاه الدولة والسلطة، ويُرجي أن يؤدي بهم ذلك إلى التعاون مع الحكومة على تنمية البلد.
إن نظام تقاعد جيد لعمال القطاعين العام والخاص معين جدا على اطمئنان نفس العامل والموظف على المستقبل، وعلى أداء العمل بأمانة وصدق، وعلى اكتساب، وتقوية ثقة المواطن في حكومة البلد.