على مدار الساعة

ماذا نريد؟!

9 سبتمبر, 2017 - 11:18
أ.خالد الفاظل ـ كاتب

راسلني قائلا: " هذه هي نتائجي في المواد الأساسية في الباكلوريا، حسب وجهة نظرك ما هو التخصص المناسب " ؟

سألته، وماذا تريد أنتَ؟

فكر وقدر، ثم فكر وقدر، ودخل بعدها موجة من الصمت العميق، كأن سؤالي له كان باللغة السريالية، إنه ببساطة شديدة لا يعرف ماذا يريد بالضبط! 

 

قد يبدو لكم هذا السؤال بسيطا وساذجا، لكن الإجابة عليه قد تستغرق منا سنوات طويلة من الركض وراء أشياء لامعة مثل السراب، أشياء تبتعِدُ عنا كلَّما اقتربنا منها، لأننا ركضنا نحوها دون أن نحمل في أنفسنا إيمانا عميقا بها...

أيام الابتدائية لم يسألني المدرس ماذا أريد؟ كنتُ أرسم فقط وألعب تحت المطر بلا قميص وأحذية. في الثانوية لم يسألني أستاذ العلوم ماذا أريد؟ كنتُ أكتب شعرا أفقيا وحسب وأرقص ليلا تحت النجوم البعيدة. على أعتاب الجامعة لم يسألني أحد ماذا أريد؟ همشت نفسي ولم أساعدها في العثور على طريقها القويم، كنت أدرس فقط لكي أرمي سنوات الجامعة الرتيبة وراء ظهري، ولكي أحظى بشهادة ورقية موقعة أرضي بها كبرياء نفسي بعد وعثاء سفر دراسي طويل لم تكن له منذ البداية وجهة مُحددة، حتى عندما تخرجت لم يسألني أحد ماذا أريد؟

حتى أنا لم أسأل نفسي حينها ماذا أريد؟ مع الوقت تسربت الدروب من بين أصابعي مثل قطرات الماء، ووجدتني أسير في طريق رتيبة ومسالمة، طريق لا أشواك متناثرة عليها ولا كنوز تلمع في نهايتها!

في دخيلتي رغبت دائما بأن أكون رائد فضاء أو عالم آثار، لكنني أخفيت تلك الرغبة عن نفسي لعدة أعوام حتى نسيتها تماما وأصبحت شبيهة بذكريات بعيدة يلفها ضباب كثيف. خوفا من الانتظار، شاركت في أول مسابقة أتاحتها الوظيفة العمومية، حصلتُ على وظيفة صغيرة في بلدة نائية لم اسأل نفسي إن كُنت أريدها بالضبط، لكنني واصلت الطريق وحسب، فلم تكن هناك جدوى من طرح ذلك السؤال الفلسفي العميق جداً في زمن البطالة والقروض الميسرة لدمج ضحايا الجامعة في الحياة النشطة، مرّت أربعة أعوام دائرية، كانت كل سنة تُعيد تلك التي سبقتها، لم أشعر فيها أن شيئا ما ينمو بداخلي، ولا بأن العشب ينبت وراء خطواتي المُهذبة، كنتُ فيها مثل السيد التاجر صمب الذي باع البصل واشترى البصل، مع أن السيد صمب كان أكثر شغفا وحكمة مني، فقد عرف ماذا يريد بالضبط! كان يريد أن يحتفظ ببصله وإن كان ذلك بطريقة غريبة.

لكنني لستُ وحدي طبعا، حتى الشعب نفسه يذهب إلى صناديق الاقتراع وهو لا يعرف ماذا يريد، الرئيس نفسه عندما قام بانقلاب لم يكن يعرف ماذا يريد بالضبط من خطوته تلك، الجميع كان يعي أنها مجرد ردة فعل فردية على إقالته هو وصديقه في غسق الدجى، حتى الرئيس المُطاح به ساعتها نام ببرودة أعصاب، لأنه لم يكن يريد كل هذا، حتى الرئاسة لم يكن يريدها ولم يُخطط لها قبل سنوات طويلة. عندما استوردنا الديمقراطية معلبة وجاهزة مثل حفظات بامبرز للأطفال، ولم ننتجها طبعا لم نسأل أنفسنا ماذا نريدُ بالديمقراطية بالضبط. دعوني أخبركم بسر!

الحقيقة أنه لا يوجد سر لا تعرفونه، فجميعكم تعرفون ماذا يحدث داخل وطنكم من الأعلى ومن الأسفل أيضا، لكن القاسم المشترك بينكم جميعا أنكم لا تعرفون بالضبط ماذا تريدون. ذات عام سألت طلابي قائلا: " بم تحلمون "؟

بعضهم ترك فراغا خاليا، لا حلم له، بعضهم كتب أحلاما مبهمة، وقلة منهم كتبت أحلاما مُحددة ودقيقة، أحدهم قال بأنه يريد أن يكون لاعب كرة قدم لا يشق له غبار، قادني الفضول لمشاهدة لعبه مساءً في الوادي، فعلا، لقد كان سريعا ويجيد دحرجة الكرة بين أطراف جسمه بمهارة تثير الإعجاب، لكنه على مقاعد الدراسة كان يشبه السبورة، يُكتب عليها كل شيء لكنها لا تحتفظ بأي شيء، وليست تلك المشكلة، المشكلة أن المسكين لن يصبح لاعب كرة قدم، فقط سيجنه أهله لسنوات طويلة في المدرسة وعندما يسأمون من تعثره المستمر فيها سيطلقون سراحه، لكن لا أحد منهم سيسأله يوما، ماذا تريد؟

بعد خلوة مع النفس دامت عشرة أعوام-لا تستغربوا ذلك مطلقا-فأنفسنا جُزر متشعبة ونائية وإن بدت لنا قريبة، ففي تلك الخلوة الطويلة حاولت الإجابة على هذا السؤال الصعب، ماذا أريد؟

لقد حسبت دائما أن عظمة الأشياء في مقدار الضجيج الذي ينتجُ عنها، والحقيقة أنها في مقدار الإيمان الذي نحمله في أنفسنا ونحن نصنع تلك الأشياء التي نحبها حقا ونسير إليها بإصرار متصاعد وصبر سرمدي. 

صراحة أغار من ذلك الإسكافي في مدينتنا، لقد أصلحت عنده أحذيتي وأنا تلميذ مراهق في الثانوية، وأصلحهم لي أيضا بعد عقد وأنا " مراهق " أدرس طلاب الثانوية، أغار منه لأنه عرف ما يريد بالضبط وتصالح مع ذاته.

هنا، حاولت أن أكمل دراستي في تخصص الكيمياء الصناعية (الغاز والبترول)، لأنني ظننت أن هذا هو الصواب، لكن رائحة مصنع تكرير النفط المجاور لنا سببت لي حساسية أثرت على حاسة الشم عندي، نصحتني رئتي المسكينة بالتراجع، فبعد رائحة الطباشير لا يمكن أن أسلم نفسي بكل هذه البساطة لغاز الميثان ومشتقات الهيدروكربونات، ومن المعلوم أن الإنسان لولا الروائح الكريهة لكان بوسعه أن يعيش الف عام، خرافة علمية سمعتها عند مواطن في زحمة التاكسي هنالك في وطن يتصاعد حبه تائها مثل دخان المصنع المجاور، لأن حبه ببساطة قد نما في قلوب محترقة. لكن الأهم من ذلك كله، أن نفسي لم تكن تريد هذه الخطوة، سعادة عارمة تلك التي تتدفق في وعيك عندما تعثر أخيرا على وجهة نفسك..

ببساطة شديدة لقد اكتشفت أنني كنتُ أحْتلُ نفسي، لقد وجدتُ نصفي الخائف والمتشائم يسيطر على نصفي الآخر ويقيده كلما تحرك وهمَّ بالحرية، إن تلك القوة التي حسبتها دائما مستمدة من رضا الآخرين وجدتها مختبئة في داخلي وبنفس الصلابة، لقد ضيعت أعواما أطارد ظلالي الذائبة في ظلال الآخرين، كنتُ محتاجا للوقوف بعيدا عنهم تحت الشمس حتى أرى ظلي لوحده ينمو ويتشكل بكل وضوح.

الغريب أن أنفسنا التي نظنها أكثر شيء وضوحا، هي أكثر شيء غموضا يحيط بنا في هذا الكون الفسيح والمليء بالأسرار..

هناك أشياء لا نكتشفها إلا في وقت متأخر، لكن في الحياة لا يوجد شيء اسمه وقت متأخر، فكل دقيقة في هذه الحياة تستحق منا أن نعيشها بشغف، حتى تلك الدقيقة التي تسبقُ الموت مباشرة، إن دقيقة نعيشها ونحن نعرف ما نريد، أكثر إثارة بكثير من عشرة أعوام نعيشها ونحن لا نعرف ما نريد.
لا أعرف إن كان هذا الحديث الفلسفي يعني لكم شيئا، لكن كل واحد منكم سيحظى بخلوة مع نفسه بلا شك في وقت ما، عليه فقط أن يطرح هذا السؤال على نفسه، ماذا أريد؟

إن أخفق في الحصول على إجابة مُحددة فهو ضائع، وعليه أن يبحث عن نفسه أولا، فلن يتوغل بعيدا في دروب الإبداع والسكينة قبل أن يعثر على نفسه. وكذلك هي الأمم، أية أمة لم تتصالح مع ذاتها ستبقى تائهة بين الأمم، ستبقى تنظر إلى مرآة المستقبل فلا ترى فيها إلا ظلال الأمم الأخرى.. 
الذين مازالوا يسيرون بصعوبة على طريق تألفها أنفسهم، أكثر سعادة وسكينة من الذين وصلوا بسرعة لنهاية طريق لامعة كانت تعافها أنفسهم.

إذا سرت في طريق تريده، قد لا تتفطن لحقيبتك ظهرك المفتوحة، لأنك لا تهتم بتلك الأشياء التي تسقطُ من وراءك، كما حدث معي في هذا الممر الضيق.

هنا تونس(بنزرت)، وأعتقد أن الحكمة بعد الأنبياء أصبحت مخبأة في حقائب المسافرين، ولا أقصد بالمسافرين هنا، الذين توجد الكثير من الأختام على جوازات سفرهم، فبعضهم يسافر كثيرا لكنه يترك عقله وقلبه بالمنزل، وربما تركهما معا في الثلاجة، أقصد بهم الذين أدركوا أن الحياة مجرد سفر، فسافروا بلا توقف في ملكوت الله حتى عثروا على أنفسهم.

الساعة 02:08 فجرا، وأقول قولي هذا وأستغفر لله لي ولكم.