على مدار الساعة

مفهوم الزندقة وتجلياتها في كتابات للمسيء ولد امخيطير (1 من 2)

15 نوفمبر, 2017 - 13:00
السالك ولد محمد موسى - باحث في العلوم الشرعية والانسانية

يسعى هذا المقال - مشاركة في النقاش الدائر هذه الأيام - إلى التعريف بمفهوم الزندقة واستجلاء مقوماتها وإبراز تجليات هذه المقومات في كتابات منشورة على شبكة الانترنت للمسيء المدعو محمد الشيخ ولد امخيطير.

 

أولا: مفهوم الزندقة ومقوماتها

1- ظهور المصطلح في بلاد فارس ودلالته

مصطلح الزندقة من المصطلحات التي شهدت تطورا كبيرا عبر التاريخ جعل مدلولها يتسع ويتطور في عدة سياقات تداولية. ويسمي علماء اللغة هذا النوع من المفردات (المنقول) وهو اللفظ الذي وضع لمعنى معين ثم نقل إلى معنى أو معان أخرى لوجود مناسبة بين المعنى المنقول عنه والمعاني المنقول إليها. ويتفق الباحثون على أن هذه الكلمة فارسية الأصل (زنده كرد) ولكنهم يختلفون في المعنى الأصلي لهذه الكلمة ويرى أغلبهم أنها من (الزند) أي الشروح التأويلية القديمة والمنحرفة لكتاب (أفستا) وهو كتاب الديانة الزرادشتية. فيكون معنى الزنديق هو (متبع الشروح القديمة المنحرفة لكتاب الديانة الزرادشتية).

 

وقد كان المانوية أتباع ماني (216 - 276 م) والمزدكية أتباع مزدك (487 – 531 م)  - وهم جميعا لا يمثلون إلا أقلية في المجتمع الفارسي الذي يعتنق أغلبه الزرادشتية - يتبعون هذه الشروح المنحرفة ويخلطونها ببعض التعاليم المسيحية والبوذية داعين إلى أفكار مخالفة للتعاليم المشهورة للزوادشتية ومن هذه الأفكار الإلحاد واشتراكية المال والجنس وإباحة الزواج بالمحارم وازدراء الشعائر، والزهد المبالغ فيه.

 

وهذا ما جعل المجتمع الفارسي يعتبرهم جماعة شاذة ومنحرفة ويحاربهم ويضطهدهم. غير أنهم - كنخبة متعلمة - استطاعوا بنوع من المكر والدهاء أن يحصلوا على قدر من الحماية والنفوذ لدى بعض ذوي السلطة في المملكة الفارسية، وإن ظلت أغلبية المجتمع تنظر إليهم بارتياب وازدراء.

 

2- مواجهة المسلمين الأولى لخطر الزندقة

وبعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس، واجه المسلمون - خاصة خلال العصر العباسي - مخاطر متعددة من بعض فئات المجتمع الفارسي الذين تظاهروا بالدخول في الإسلام لكنهم احتفظوا سرا بعقائدهم المانوية والمزدكية وأفكارهم المنحرفة التي أخذوا يعملون خفية على نشرها بين المسلمين متوسلين إلى ذلك بطرق ماكرة منها تقول بعض الأحاديث الموضوعة على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وتأويل بعض آيات القرآن الكريم تأويلات منحرفة لتحميلها بمضمون معتقداتهم المانوية.

 

وقد انتهجت هذه الحركة التخريبية التي ستعرف بالزندقة عدة أساليب، فاعتمد فرع منها على التشويش على العقيدة الاسلامية والتشكيك فيها وترويج الإلحاد بواسطة إلقاء الشبهات والمغالطات، وقد تزعمه الكاتب والفيلسوف الملحد ابن الراوندي. واستخدم فرع آخر الشعر والكتابة الأدبية لنشر نزعات فكرية متناقضة وغريبة على التعاليم الإسلامية كالإلحاد والمجون والإباحية والشذوذ ( صالح بن عبد القدوس وأبو نواس وأبان بن عبد الحميد) و الزهد المبالغ فيه والتشاؤم والامتناع عن ذبح الحيوانات وعن أكل اللحوم (أبو العتاهية). كما عمل فرع ثالث على نشر النزعة الشعوبية التي تعمل على ذم العرب والتنقيص منهم وتفضيل الشعوب الأخري عليهم (بشار بن برد) وقد اتهم الكاتب عبد الله بن المقفع بتبني هذه النزعة.

 

ومن هنا ارتبطت دلالة الزندقة لدى الفقهاء والمحدثين والمتكلمين بمجموعة من الأمور الخطيرة على الدين والمجتمع الإسلامي مثل التبني السري لعقائد الثنوية (المجوسية والمانوية والمزدكية) والدعوة سرا الى نزعات فكرية وسلوكية منافية للروح الاسلامية العربية. ولما كان هؤلاء الزنادقة مع ما يبطنون من هذه الاعتقادات والنزعات يظهرون الإسلام ويؤدون الشعائر، فقد اعتبرهم كثير من الفقهاء مماثلين للمنافقين في عهد النبوة. بيد أن المقارنة بين الفريقين تظهر أنه بالرغم من تشابههما في إبطان الكفر وإظهار الإسلام وسوء النية والكيد للدين، فإن ثمة فرقا معتبرا بين أساليبهما. إذ يمكن القول إن أساليب المنافقين بدائية إلى حد ما وتنقصها المنهجية فهي تعتمد الخداع والأيمان الكاذبة وتدبير المكائد والمؤامرات غير المؤسسة على صناعة ثقافية سابقة، أما طرق الزنادقة فتعتمد أساليب فكرية ممنهجة وتتوخى إحلال قيم حضارية معينة محل القيم الحضارية الاسلامية مستخدمة آليات التأويل والمغالطة والتخطيط المحكم.

 

وكان التصدي لخطر الزندقة من أولويات الفكر الإسلامي، فنشأت علوم إسلامية للقيام بهذا الغرض كعلم مصطلح الحديث وروايته بما يتضمنه من دراسة سير رواة الأحاديث وما فيهم من جرح وتعديل، وعلم أصول الفقه الذي يتكفل بوضع القواعد الصحيحة لاستنباط الأحكام الفقهية من النصوص الشرعية، وعلم التوحيد (أو علم الكلام) الذي يتضمن الحجاج عن العقائد الإسلامية بالأدلة العقلية الصحيحة والرد على خصوم هذه العقائد، وعلم التصوف الذي يحدد طرق تهذيب النفس وتزكيتها وفقا للتعاليم الإسلامية. ومن جهة أخرى تروي كتب التاريخ تفاصيل تلك الحرب الشعواء التي شنتها السلطة العباسية - وخاصة في عهد الخليفتين المنصور والمهدي - على الزنادقة فقتلت وسجنت واستتابت منهم خلقا كثيرا.

 

ويذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (من تاريخ الإلحاد في الإسلام) أن مفهوم الزندقة كان أيضا سلاحا تشهره كل فرقة إسلامية ضد خصومها. فكان بعض أهل السنة مثلا وخاصة من الحنابلة يطلقونه على مخالفيهم من المعتزلة والجهمية بالرغم من أن المعتزلة أبلوا بلاء حسنا في التصدي للزنادقة المانوية في وقت مبكر.

 

كما ينقل هذا الباحث عن بعض المؤرخين أن السلطة العباسية استخدمت تهمة الزندقة لتصفية بعض خصومها ومنافسيها ومن هؤلاء القائد أبو مسلم الخراساني الذي كان له دور كبير في إقامة الحكم العباسي.

 

لكن كل هذه الاستخدامات غير الموضوعية للمصطلح لا تنفي الوجود الواقعي للزندقة كحركة معادية للإسلام لها مقومات خاصة وآليات محددة، وقد مثلت في مختلف تجلياتها وما تزال خطرا كبيرا على هذا الدين الحنيف.

 

لقد لاحظ دارسو حركات الزندقة في العصر العباسي أن أصحابها يعتمدون لتحقيق أهدافهم على آليات خاصة منها التأويل التحريفي للنصوص الدينية، وممارسة الاستدلالات السوفسطائية للتنصل من لوازم الأقوال التي تثبت عليهم وتكون كاشفة لحقيقتهم، واستغلال بعض المظالم والقضايا العادلة كعناوين يتسترون بها ويختبئون خلفها للظهور بمظهر الشخص النبيل المدافع عن المظلومين والمحرومين، كما يندسون أحيانا بين صفوف الصوفية والأدباء والفلاسفة.

 

3- العلمانيون أو الزنادقة الجدد

في العصر الحديث الذي شهد قيام الحركة الاستشراقية في الغرب المتغلب وهي - بالرغم من كونها في الظاهر حركة علمية بحثية - كانت مقدمة وتمهيدا طبيعيا لعملية الاحتلال الغربي الذي سمي استعمارا وعانت منه أغلب البلدان الإسلامية والعربية، في هذا العصر انبعثت أنماط جديدة من الزندقة نتجت عن تأثير عوامل داخلية وخارجية وكان العامل الخارجي (تأثير كتابات وأطروحات المستشرقين المغرضة والمناهضة للإسلام غالبا، وتأثير سياسات وخطط القوى الاستعمارية التي استمرت حتى بعد حصول تلك البلدان على ما سمي بالاستقلال) هو الأقوى أثرا في بعث موجات الزندقة الحديثة والمعاصرة والتي تمحورت - أساسا - حول اتهام التعاليم الإسلامية بأنها في جوهرها هي سبب تخلف المسلمين والعرب وأنه لا يمكن بناء أي نهضة أو تنمية إلا باقتفاء سبيل الأمم الغربية وذلك بإزاحة تعاليم الإسلام عن تنظيم المجتمع وتأسيس دول لائكية (علمانية) يغدو دور الدين فيها مجرد اعتقاد شخصي وممارسة لبعض الشعائر ولا حاكمية له على أي من عناصر النظام الاجتماعي. و نتيجة لضعف المسلمين في هذه المرحلة التاريخية وانبهار بعضهم بالغرب المتغلب وهيمنة هذا المتغلب على المشهد الدولي، تحولت بلاد المسلمين الى حقل تجارب لمختلف تقليعات الفكر الغربي الذي شهد أزمات وصراعات فلسفية وإيديولوجية عنيفة وما يزال عاجزا عن استعادة توازنه الفكري حتى الآن كما يدرك ذلك من درس مسارات الفكر الغربي من عصر نهضته إلى اليوم.

 

والدارس لمؤلفات وأطروحات الزنادقة الجدد في العالم الإسلامي بمختلف توجهاتهم (أحمد لطفي السيد، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، أدونيس، محمد أركون...) يلاحظ انبهارهم بالغرب الليبرالي أو الشيوعي وسعيهم الدؤوب للتأسيس للعلمانية التي ترفض حاكمية للشريعة الإسلامية متوسلة بأساليب من المغالطات والـتأويلات المنحرفة لتحقيق هذا الغرض. كما لن يفوت الباحث المنصف أن يلاحظ أن المستفيد الأول من إقامة العلمانية في العالم الإسلامي هو القوى الغربية التي تسعى إلى إضعاف الحضارة الإسلامية وسلبها خصوصيتها تحت شعار العلمانية وما يرافقها من عناوين براقة مثل الانسانية والتاريخانية والحداثة والعولمة ونحوها من تقليعات الغرب الخداعة. كل ذلك في سبيل إخضاع المسلمين وجعلهم تابعين للغرب يدورون في فلكه.

 

ومن هنا يمكن تفسير ما يلاحظ غالبا من تحالف إستراتيجي مضاعف بين دعاة العلمانية ودوائر النفوذ في العالم الغربي من جهة، وبينهم والأنظمة الاستبدادية التسلطية التي كثيرا ما تكون هي أيضا حليفا طبيعيا للقوى الغربية. وإذا كان بعض القراء قد يعتبر هذا مبالغة ووقوعا في فخ نظرية المؤامرة، فإنني أجيبه أن الدراسة العميقة للتاريخ الغربي الحديث والمعاصر تؤكد أن نظرية المؤامرة لا يمكن نفيها بالكلية، بل قد يصل الدارس لهذا التاريخ للقول إن النفور المستمر من قبول أي  تفسير له مسوغات وشواهد لمجرد كونه متصلا بنظرية المؤامرة قد يكون وقوعا حقيقيا في حبائل مؤامرة ما!!

 

وقد انقسم دعاة العلمانية من الزنادقة الجدد طرائق قددا فكان منهم الليبراليون والاشتراكيون والشيوعيون وأصبحت مصطلحات (اليمين واليسار والتقدمي والرجعي والصراع الطبقي والديالكتيك) ذات رواج عجيب في العالم الاسلامي والعربي بالرغم من انعدام الظروف الموضوعية التي أنتجت هذه المفاهيم في الواقع العربي الإسلامي الذي له تركيبته وحقائقه الخاصة.

 

ولما كان العلمانيون من العرب والمسلمين يعيشون في مجتمعات مسلمة متدينة، لم يكن باستطاعتهم غالبا التصريح برفض الدين والتحرر منه دفعة واحدة، فكان لا بد لهم من مداراة المجتمع وذلك بانتهاج طريق الزندقة (تبني عقائد مخرجة من الملة كإنكار حاكمية الدين على المجتمع مع الممارسة الظاهرية لبعض شعائر الدين كالصلاة والصوم والحج..).

 

ولا بد - توقيا لسوء الفهم - من الإشارة إلى أننا لا نعتبر أي استفادة من نظريات العلوم والفلسفات الغربية في أي مجال هي زندقة ما لم تكن هذه الاستفادة مصحوبة بإنكار حاكمية التعاليم الإسلامية على المجتمع والدولة. فملاك اعتبار شخص ما علمانيا ومن ثم زنديقا هو إنكاره لحاكمية الشريعة الإسلامية على الحياة الاجتماعية.

 

أما الاستفادة من ثمرات الحضارة الغربية المادية (مثل الاختراعات والمنجزات التقنية..) والمعنوية (نحو طرق الانتخاب والإدارة والتسيير ومختلف المعارف النظرية الصحيحة...) وهي لن تكون متعارضة مع تعاليم الإسلام (مبدأ انسجام العقل الصريح والنقل الصحيح) فهي مطلوبة شرعا وعقلا. والامتناع عن هذه الاستفادة يعد تحجرا وجمودا ينافي فاعلية المسلم وإيجابيته المطلوبتين شرعا وهو ما تشير إليه الآية الكريمة {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} ومعلوم أيضا أنه كان للحضارة الاسلامية إبان ازدهارها فضل وتأثيرإيجابي في تمهيد الطريق أمام الحضارة الغربية للوصول إلى ثمراتها المعاصرة، وهذا مورد اعتراف وإشادة من كبار مؤرخي الغرب.

 

كما لا بد من الإشارة إلى أن الاعتقاد بحاكمية الشريعة يقتضي جعل التشريعات والقوانين منسجمة معها وتنفيذ أحكامها وقوانينها، غير أن ثمة تفاصيل فقهية في حكم الشخص أو الجهة التي تعتقد بحاكمية الشريعة لكنها لا تنفذ الأحكام الشرعية.

 

وخلاصة هذا الأمر أنه حيثما كان عدم تنفيذ الحكم الشرعي بسبب الجهل أو الهوي أو التعصب أو الخوف أو بسبب تأويل خاطئ معتمد على شبهة لجنسها حظ من الاعتبار في الشرع ونحو ذلك مما لا ينافي الاعتقاد بوجوب تنفيذ الحكم الشرعي -كما يقتضي مبدأ الحاكمية - فإنه في هذه الحالة يكون عدم التنفيذ - إذا لم توجد ضرورة قاهرة - معصية وفسقا ولا يكون كفرا. أما إن كان عدم التنفيذ لسبب ينافي الاعتقاد بالحاكمية مثل ادعاء أن الأحكام الشرعية متخلفة أو لا تصلح لهذا العصر أو تفضيل قوانين وضعية عليها، فإن كل هذه الأمور مساوية لإنكار أصل الحاكمية ويكون معتقدها وفاعلها كافرا والعياذ بالله تعالى.

 

وفي مواجهة تناقض مبدأ العلمانية الذي يتبناه زنادقة العصر مع حاكمية الدين الاسلامي المعلومة للعامة والخاصة لا يجد هؤلاء العلمانيون بدا من اللجوء الى التأويل التحريفي والمغالطات السوفسطائية وهي شنشنة معروفة في كل أجيالهم منذ أسلافهم الفارسيين. فتارة يقولون إن التعاليم الاسلامية مرتبطة بفترة نزولها وإنها كانت تحصل المصلحة العامة في تلك الفترة. وحيث إن مفهوم المصلحة في نظرهم متغير تاريخيا بصورة كلية، فينبغي مراعاة المصلحة - كما يتم تصورها في الحضارة الغربية المعاصرة المتغلبة - وعدم اعتبار المضامين التشريعية المعينة في النصوص الشرعية. وواضح أن هذا مجرد عملية تحايل والتفاف على الأحكام الشرعية بهدف إبطالها وإلغائها بالكلية وصولا إلى هدم  حقيقة الحاكمية من أساسها.

 

ومعلوم أن التعاليم الإسلامية - كما هو مقرر في محله - تسعى وفق منهج أصيل ومنضبط حرره علماء الأصول إلى جلب المصالح الحقيقية وتكثيرها ودرء المفاسد الحقيقية وتقليلها وهي على صراط مستقيم لا تسوي بين مختلفين ولا تفرق بين متساويين ولاتعارض أي حقيقة عقلية ثابتة.

 

وتارة يحاول الزنادقة العلمانيون التشبث ببعض النصوص الخاصة والروايات الجزئية التي تفوض تدبير التفاصيل الجزئية للأمور الدنيوية للخبرة البشرية كحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ليروموا بذلك إبطال حاكمية الشريعة المعلومة بالضرورة بنصوص الشرع الكلية وباستقراء أحكامه الجزئية. وهذا جهل منهم أو تجاهل لتعدد حيثية النظر الى الأمور الدنيوية. فهي - من جهة كونها أفعالا يتوخى منها أصحابها تحقيق أغراض معينة - فهم مفوضون في تدبيرها بعقولهم وخبراتهم، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها بموجب مبدأ حاكمية الشريعة، فإنه يطلب من المكلفين أن يكون تدبيرهم لهذه الأفعال منسجما مع الأحكام الشرعية ذات الصلة. فالجهة التي فوضت الشريعة الأمر فيها للمكلفين مغايرة للجهة التي ألزمتهم فيها التقيد بأحكام الدين. وهذا ما يوضح مغالطة العلمانيين وقصور أفهامهم وتهافتهم.

 

ولا يضيع العلمانيون أي فرصة مواتية للسخرية من الدين وتشويهه وربطه بالتعصب والإرهاب واستعداء القوى الغربية عليه والتنقيص من التراث الإسلامي والسخرية من علماء الإسلام و التحامل على بعض أحكامه و شعائره ومظاهر سمته (مثل تعدد الزوجات، ذبح الأضاحي، إعفاء اللحية، حجاب المرأة...).

 

بقي أن نذكر الفرق بين الزنديق والمرتد. وهو أن المرتد شخص خرج من الإسلام طواعية بقول أو فعل يقتضيان ذلك لزوما بينا، أو باعتقاد يصادم جوهر العقيدة الإسلامية، وبإنكار ما علم من الدين ضرورة. والمرتد لا يخفي كفره بل يعلنه وأحيانا بتبجح به ويفتخر. ولهذا يدعى الى التوبة وتقبل توبته ولو كانت بعد القبض عليه.

 

أما الزنديق فهو- كما رأينا - شخص يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وله حالان: فقد تكون زندقته أصلية أي أنه منذ بلوغه وكونه مكلفا اختار طريق الزندقة فهو يتظاهر بإسلام زائف ولم يسبق له إسلام حقيقي. وقد تكون زندقته طارئة: أي أنه كان مسلما إسلاما صحيحا ثم ارتد وأصبح يخفي ردته ويتظاهر بإسلام زائف. والزنديق لا تدرأ توبته عنه حد الردة - على الراجح من قولي العلماء - إلا إذا كانت قبل الإطلاع على زندقته، لأن توبته بعد القبض عليه لا يمكن التأكد من صدقها جراء طبيعته المخادعة الماكرة.

 

4- المقومات العامة للزندقة

من هذا العرض المقتضب وبنوع من الاستقراء لنماذج من الزندقة يمكن أن نستنتج أن لمفهوم الزندقة مقومات ومكونات تمثل ثوابت بنيوية لهذا المفهوم في مختلف تجلياته عبر التاريخ. وهذه المقومات هي:

- إنكار حاكمية الدين على المجتمع والسعي إلى تهميشه وإقصاءه من دائرة التأثير، ومن هنا فإن ديدن العلماني ودأبه غالبا هو استعمال أساليب ملتوية وملتبسة للطعن في أحكام الشريعة والسخرية منها ومن مقام النبوة الشريف والتحامل على علماء الدين الملتزمين والسعي إلى تشويه صورتهم لدى المجتمع.

- النفاق والكذب بادعاء الالتزام بالدين والتظاهر أمام العامة باحترام الشعائر واغتنام أي فرصة مأمونة للكيد للدين وازدراء أحكامه وشعائره، مع الحرص على إنكار أي أقوال أو تصرفات تكشف حقيقة الزنديق عند ظهور أمره والتحقيق معه.

- ممارسة التأويل التحريفي لنصوص الدين ولما يصدر عن الزنديق من أقوال واعتماد السفسطة والمكابرة، وذلك إما لتبرير معتقدات منافية للدين لا يجرؤ الزنديق على التصريح بمنافاتها له، أو للتخلص من لوازم كلام أو أمور ظهرت عليه ومن شأنها أن تكشف حقيقته. ومن طرق هذا التأويل التحريفي ما يسمونه بالتاريخانية أي أن الاحكام الشرعية ولو كانت قطعية الورود والدلالة ينبغي أن تتطور وتتغير حسب تطور أحوال المجتمع الإسلامي، بل أيضا حسب تطور المجتمعات الغربية التي هي النموذج والقدوة عندهم.

- الاختباء والتستر خلف عناوين نخبوية لها نوع من القبول لدي جهات من المجتمع كالفلسفة والتصوف والكتابة الأدبية، أو استغلال قضايا نبيلة كالدفاع عن حقوق الإنسان والدعوة لإنصاف المظلومين.

 

أما الإباحية و المجون فليسا فيما يظهر من اللوازم الذاتية والدائمية للزندقة لكنهما لا يبدوان بعيدين عنها وخاصة في عصرنا الحالي حيث يقوم بعض العلمانيين - انطلاقا من مواقعهم الإعلامية أو السياسية واعتمادا على مفهوم مغلوط وغير منضبط للحرية - بالدعوة إلى الحرية الجنسية المطلقة بما فيها حرية الشذوذ التي يسمونها تمويها وتلطيفا (السلوك الجنسي المثلي) وهذه الدعوات تحظى بتأييد ملحوظ من جهات ومنظمات عالمية مشبوهة وذات نفوذ واضح في الأوساط الأكاديمية والمالية والسياسية والإعلامية في العالم المعاصر (الماسونية والمنظمات المشابهة).

 

وفي الجزء القادم بحول الله تعالى نتناول تجليات هذه المقومات في بعض كتابات المسيء ولد امخيطير.