على مدار الساعة

"اتروسي" واللف والنشر، بين التوازي والتقاطع

15 مارس, 2018 - 00:50
بقلم الإعلامي أحمد سيدي

يُعنى علم البديع بجمال اللفظ والمعنى، وبذلك يندرج تحته قسمان يهتم أولهما بتحسين الألفاظ، فأخذ اسمه منها وصار يعرف عند الدارسين بـ "المحسنات اللفظية"، ويهتم ثانيهما بتحسين المضامين أو المعاني فأخذ اسمه منها كذلك وصار يعرف بـ "المحسنات المعنوية".

 

وقد عرف ابن خلدون علم البديع على أنه نظرٌ في تزيين الكلام وتحسينه على نوع من التنميق، إما بسجع يفصّله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظِه، أو ترصيع يقطعُ أوزانه، أو تورية عن المعنى المقصود...

 

وعرّفه محمد ابن عبد الرحمن في كتابه "التلخيص" على أنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة.

 

وبناءً على التعريفين السابقين يتضح لنا أن "اتروسي" و"اللف والنشر" ينتميان إلى هذا العلم دون شك، ولكن هل يعني ذلك أنهما متطابقان كما يزعم البعض، أم يجمعهما هذا العلم على اختلاف في الماهية والأسلوب كما يزعم البعض الآخر؟ تلك تساؤلات نسعى إلى إجابتها من خلال هذه الورقة المقتضبة.

 

اللّف والنشــر:

هو ذكر متعدّد على التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد دون تعيينه، ثقة بأن السامع يرده إليه لعلمه بذلك من خلال القرائن اللفظية أو المعنوية كما يقول الدكتور عبد العزيز عتيق في كتابه "علم البديع".

 

 

وهو بذلك ينقسم إلى نوعين، أحدهما يبدأ بذكر مجمل، لن نخوض فيه لوضوح عدم الارتباط بينه وبين "اتروسي" الذي لا يكون إلا من خلال ذكر متعدد، أما ثانيهما الذي يبدأ بذكر متعدد فينقسم إلى ثلاثة أقسام:

 

اللف والنشر المرتب:

ومثاله قوله تعالى {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء من فضل الله عائد إلى النهار على الترتيب.

 

ويقول إيليا أبي ماضي:

وصــرت عقــدا لك أو خاتما *** في جيدك الناصع أو إصبعك

 

ذكر الشاعر في البيت الأول متعددا مفصلا، وهو العقد والخاتم، وذكر ما يتصل بهما في البيت الثاني فالجيد مذكور للعقد، والإصبع مذكور للخاتم.

 

اللف والنشر المشوش:

ومثاله "هو ليل وورد ومسك، خدا وأنفاسا وشعرا"

 

فالليل وصف للشعر والورد للخد والمسك للأنفاس.

 

اللف والنشر المعكوس:

ومثاله قول لمغني.

 

هذا من ش لِ فيك أتفاك *** من تخوافك لِ والتطماع

ما خــلاهـــا بي تظيــاك *** ولا خــلاهــا بـي توسـاع

 

والمعنى المراد في هذا الكاف أن خوف الشاعر من الربِّ تضيق به عليه الأرض، وتتسع إذا استشعر طمعه فيما عند الله.

 

اتروسي:

هو ذكر متعددٍ تفصيلا على الوجوبِ، لأنه كما أشرنا سابقًا لا يمكن أن يبدأ بمجمل يأتي تفصيله لاحقا كما هو الحال مع اللف والنشر. وهذا المتعدد الذي ذكر في البداية هو نفسه الذي سيُعاد ذكره لاحقا.

 

مثال:

ما رينَ فرق إيبان اكبير *** مول الطشه هون أبدارُ

ويعـدل مـــارُ، والفقـيـر *** أبـــدارُ ويعـــدل مـــارُ

 

وفي هذا الكاف نلاحظ تكرار نفس الكلمات بين "التيفلواتن" الثانية والثالثة والرابعة، وبنفس المعنى، لكن مع إضافتهم في المرة الأولى إلى الغني، وإضافتهم لاحقا للفقير، في تعبير جميل عن ضمان الرزق، وتقارب أحوال أهل الدنيا.

 

وينقسم اتروسي كما هو الحال مع اللف والنشر إلى ثلاثة أقسام:

 

اتروسي مرتب:

ومثاله قول الطيب ولد ديدي رحمة الله عليه:

أشمــرنِ يالحــي المتيـن *** مديــن وعريــان ودافر

ومسافر، واشمرن مدين *** وعريان ودافر وامسافر

 

اتروسي معكوس:

ومثاله قول امحمد ولد أحمد يوره رحمه الله:

كنت أنظن أنّ كان أبعـدت *** منك نكــر هــــاك ونثبت

وانحل الراص، ولا خلكت *** مـــانـــل يانَ مـــا حليت

الــراص ومـــانل ما فــت *** زاد اثبت ولا فت أكريت

 

اتروسي مشوش:

ويقول فيه امحمد كذلك:

هذو هون ادويرات إلاه *** امن اديار البيه التولاه

وحده عند المان افمگفاه *** أُوحدَة عند المارد تلُ

اوحدَ عند انِيذنينْ احذاه *** حــد اتفگـدهَ تحـجــلُ

فاتت نوبتهم غير امنين *** فاتت ذاك المـارد تلُ

مــزال افبــلُ وانيـذنين *** افبــــلُ والمـــان افبلُ

 

ومن خلال العودة إلى الأمثلة التي عرضناها من اللف والنشر يتضح لنا انتماء هذا النوع من البديع إلى المحسنات المعنوية لأن ذكر المتعدد في البداية – في جملة اللف - اشتمل على ما يدل على المعاني اللاحقة في جملة النشر، كما يتضح لنا أنه أسلوب أصيل في اللغة العربية، وفي كتاب الله العزيز، واستخدمه الشعراء والكتاب في شعرهم ونثرهم، واستخدمه لمغنين في نصوصهم وأوردنا أمثلة على كل ذلك.

 

أما "اتروسي" فلم أقف على مثال منه في الشعر الفصيح ولا في كلام العرب، ما يدفعنا إلى الاحتفاء به كأسلوب يعود الفضل في اكتشافه إلى مخيلة الشاعر الحساني. وإن كان ليس ببعيد من بعض أنواع التوكيد التي يراد بها إثارة التوقع لدى المتلقي وتأكيد المعاني وترسيخها في ذهنه.

 

وله وظيفة موسيقية ومساهمة في بناء الإيقاع الداخلي للنص، من خلال تكرار الكلمات وما ينتج عن ذلك من صخب موسيقي داخل البنية الصوتية للنص، ما يضفي مسحة جمالية على الشكل. وهو بذلك يقترب من المحسنات اللفظية في علم البديع على عكس اللف والنشر الذي ينتمي إلى المحسنات المعنوية.

 

استنتاجات:

  •  من أوجه التشابه بين اتروسي واللف والنشر، انقسامها إلى ثلاثة أقسام هي: المرتب والمعكوس والمشوش.
  • من أوجه الاختلاف بينهما أن اللف والنشر يأتي مجملا ومفصلا واتروسي لا يأتي مجملا أبدًا وإنما يشترط فيه التعدد.
  • من أوجه الاختلاف بينهما أن اللف والنشر لا يكون بنفس الكلمات وإنما يبدأ بكلمات تشتمل على معانٍ تدل على ارتباطها بكلمات أخرى تأتي مفصلة بعدها، بينما يأتي اتروسي من خلال تكرار نفس الكلمات، دون ارتباط معنوي بكلمات أخرى مغايرة.
  • من أوجه الاختلاف بينهما اعتناء اللف والنشر بالمعنى وانتماؤه إلى الجانب المعنوي من علم البديع، واعتناء اتروسي بالألفاظ وانتماؤه بناءً على ذلك إلى الجانب اللفظي من علم البديع.