تعتبر الحرب التجارية النتيجة الحتمية للسياسات الحمائية التي تقوم بها دولتين أو أكثر بفرض رسوم جمركية أو حواجز تجارية على بعضهما البعض، وغالبا ما تفضي إلى زيادة التوترات التجارية عالميا بل قد تكون عواقبها مماثلة لنتائج الحرب العسكرية خاصة إذا ما حدثت بين عملاقين.
دلالات توقيت إطلاق الرصاصة الأولى
في منتصف الشهر الجاري قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الحديد والصلب إلى الولايات المتحدة، وبالرغم من أن القرار يشمل دول أخرى، وبالرغم كذلك من أن حجم صادرات الصين من الصلب إلى الولايات المتحدة الأمريكية يشكل فقط 1.6% من مجموع واردات أمريكا من الصلب، و بالرغم أيضا من أن الصين تصدر فقط حوالي 5% من انتجاها من الصلب إلا أن القرار اعتبر تهديدا للتجارة العالمية وقد يخرجها عن مسارها، لكن الرصاصة الأولى التي أشعلت الحرب كانت القرارِ الذي أعلنه الرئيس الأمريكي بفرض رسوم جمركية على واردات صينية بقيمة 60 مليار دولار، بتهمة سرقة تكنولوجيا الشركات الأمريكية.
وصادف توقيت إطلاق الرصاصة الأولى في هذه الحرب ظرفية دولية وأمريكية خاصة، فهذا التوقيت جاء بعد أسبوع واحد من إعادة انتخاب شي جين بينغ رئيسا للصين لفترة رئاسية أخرى مدتها خمس سنوات، وكذلك التصويت على تغيير الدستور الصيني، كما يأتي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي، وقبل أقل من شهرين على موعد أول لقاء بين الرئيس الأمريكي وزعيم كوريا الشمالية كيم كونك، وكذلك في أقل من أسبوعين على افتتاح الصين لبورصة شنغهاي العالمية للطاقة لتداول عقود النفط المقومة باليوان الصيني؛ مما يجعل من توقيت إعلان الحرب من طرف واحد مناورة سياسية ذكية جدا داخليا تخدم الانتخابات الأمريكية التي تهيئ ترامب لمأمورية ثانية، وخارجيا تشكل ضغطا كبيرا على الصين وزعيمها الجديد لتقديم المزيد من التنازلات لصالح أمريكا لزيادة حصتها في السوق الصيني، إذ تمثل السلع الأمريكية 6.5% فقط من إجمالي واردات الصين، فطال ما هناك حرب عسكرية من أجل السلام هناك حرب تجارية من أجل التجارة.
النموذج الاقتصادي مصدر القوة والضعف
من المعروف أن نموذج الاقتصاد الصيني يعتمد على السوق الخارجية، حيث تستورد الصين المواد الأولية، وتصدر السلع الصناعية، ومن أهم نقاط ضعف الاقتصاد الصيني اعتماده المفرط على الصادرات، حيث تصل نسبة هذا الاعتماد إلى حوالي 24% من إجمالي الناتج المحلي، كما أن حصة السوق الأمريكية من الصادرات صينية عالية نسبيا، حيث تقدر بحوالي 21% من إجمالي صادرات الصين، وهذا ما يجعل من الصين الطرف الأكثر تضررا في حالة استمرار وتطور هذه الحرب، حيث تشير بعض التقارير إلى أنه في حالة حدوث ركود تام للتجارة البينية مع أمريكا سينخفض نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 1.4٪، أي أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني سينخفض إلى حدود 5% هذا بالإضافة إلى أن صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين في أغلبها صادرات صناعة التكنولوجيا العالية، ومن صعب على الصين أن تجد بديلا عن أمريكا.
لكن الصين تملك ورقة قوية، فهي تعتبر في صدارة مالكي السندات الأمريكية بواقع حوالي 1.189 تريليون دولار كما أنها تستورد ثلث إنتاج أمريكا من فول الصويا، إلى جانب 25% من طائرات البوينج.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فمنذ تأسيسها، تبنت نموذج اقتصادي يعتمد على السوق الداخلية حيث يتركز على تعريفة جمركية عالية على الواردات، وأجور مرتفعة للعمال لضمان قوة شرائية عالية، وبالتالي خلق سوق داخلية كبيرة، لذلك لا يحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى الاعتماد على السوق العالمي على الإطلاق، وربما هذا هو مصدر القوة الحقيقية للولايات المتحدة، حيث تصل نسبة الاعتماد على الصادرات إلى حوالي 8% فقط، بالإضافة إلى أن صادرات الصين إلى أمريكا غالبيتها سلع استهلاكية وصناعات خفيفة من السهل جدا على أمريكا أن تجد بديلا عن الصين.
ما أشبه الليلة بالبارحة
خلال حقبة الثمانينات، زاد إجمالي الناتج المحلي الياباني ليصل إلى إجمالي النتاج المحلي لكل من بريطانيا وفرنسا معا، وفي سنة 1984 أصبح نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الياباني أعلى من نظيره الأمريكي، وخلال سنة 1985 أصبحت اليابان ثاني أكبر أقتصاد بعد أمريكا، وأصبح حجم التبادل التجارى بينهما الأكبر على المستوى العالمي بعجز تجارى بنسبة 50% من إجمالى العجز التجارى الأمريكى آنذاك.
لكن 22 من سبتمبر سنة 1985 كان يوما حاسما في تاريخ الياباني، ففي هذا اليوم تم التوقيع على اتفاق بلازا (The Plaza Accord) بين كل من حكومات اليابان، والولايات المتحدة، وثلاثة دول أخرى لخفض قيمة الدولار الأمريكي أمام الين الياباني، وقد انخفضت قيمة سعر صرف الدولار مقابل الين بنسبة 51% في الفترة ما بين 1985 - 1987؛ مما جعل الصادرات الأمريكية أرخص بكثير من الصادرات اليابانية آنذاك، وهكذا بين ليلة وضحاها تم القضاء نهائيا على التهديد الياباني للاقتصاد الأمريكي، ومن المفارقات أن السيد (Robert Lighthizer) روبرت لايتايزالرجل السبعيني الذي تم تعيينه قبل أيام الممثل التجاري للولايات المتحدة كان هو مهندس هذا الاتفاق، ومن المفارقات أيضا أن الصين اليوم هي صاحبة ثاني اقتصاد بعد الولايات المتحدة، وأكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، بعجز تجارى وصلت قيمته إلى 375 مليار دولار بنسبة 66% من إجمالى العجز التجارى الأمريكى، فما أشبه الليلة بالبارحة!! فهل يفعلها السيد روبرت مرة أخرى وينقذ الاقتصاد الأمريكي من التنين الصيني؟
يتواصل إن شاء الله