تنتظر الرئيس الموريتاني المنتخب محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الغزواني تحديات محلية، وإقليمية، ودولية كثيرة ومتشعبة، عنوانها الرئيسي التكيف مع الظروف الجديدة على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ساحة، وترتبط هذه التحديات بالمسار المستقبلي للأحداث، والاتجاهات الاستراتيجية العالمية، وانعكاسها على توازن القوى داخليا وخارجيا؛ وهذا ما يجعل رئيس العهد الجديد مطالب بقراءة صحيحة ودقيقة لمسار الأحداث، وذلك لتحويل هذه التحديات من معوقات إلى فرص للتنمية الشاملة، وأي قراءة خاطئة قد تكون فاتورتها الدبلوماسية والاقتصادية، وربما الأمنية باهظة جدا، بل إن تداخل بعض هذه التحديات لا قدر الله قد يشكل تهديدا حقيقيا لمستقبل البلد، وتأتي على رأس هذه التحديات ثلاثة تحديات إستراتيجية على الساحة الدولية وهي:
(1)
التكيف مع عالم متعدد الأقطاب
يواجه رئيس الجديد لبلادنا تحديات خارجية إستراتيجية كثيرة في مقدمتها ثلاثة تحديات جوهرية، أولها التكيف مع التغيير الجاري من عالم القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب، إذ أن التخلص من العقليات والأجندة العالمية لعالم ما بعد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي لم يعد احتمالا قائما بقدر ما هو واقع، وتحدي يفرض نفسه بقوة على الساحة الدولية، وما حروب الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية بين القوى العظمى التي تجتاح العالم إلا انعكاسا طبيعيا لذلك. الحروب التي باتت تحدث تغيرات في أكثر من مكان ومجال يترتب عليها تغيير في موازين القوى على الساحة السياسية والاقتصادية العالمية خاصة في المناطق القارية الجيوإستراتيجية التي تزداد أهميتها يوما بعد يوم مع بروز دور التجارة القارية، وإحياء الطرق التجارية القديمة، والربط الإقليمي والدولي، المناطق التي تعتبر بلادنا من أهمها عالميا؛ وهذا ما يجعل من الضروري لرئيسنا الجديد إيلاء أهمية قصوى لمواكبة التغيرات المتسارعة التي تؤثر في توازن القوى إقليميا وعالميا، وتنبأ ببروز عالم متعدد الأقطاب.
(2)
التكيف مع تحول مركز الاقتصاد العالمي
التحدي الثاني هو التكيف مع التحول الجاري في مركز الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، وما يصاحبه من تحول في تركيز الدبلوماسية العالمية من من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، فالصعود الآسيوي وتحول ميزان القوى الاقتصادية أصبح حقيقة لا مراء فيها، وإذا نظرنا إلى الوراء قبل حوالي 20 عاما كانت مساهمة القارة الصفراء تمثل 27% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بينما كانت مساهمة أمريكا الشمالية تصل إلى 32%، و أوروبا 29%، وخلال 2017 أصبحت مساهمة آسيا تمثل 36.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتراجعت مساهمتي أمريكا الشمالية، و أوروبا إلى 27.4 % و 26.1 % على التوالي، وتشير بعض التوقعات أنه في أفق 2028 سيمثل الاقتصاد الآسيوي أكثر من نصف الاقتصاد العالمي على أن يمثل حوالي 80% من الاقتصاد العالمي في أفق 2050. الصعود الآسيوي جعل منها مركزا للنشاط الاقتصادي العالمي، وموطنا لأكثر من نصف سكان العالم من الطبقة الوسطى ذات القوة الشرائية العالية؛ وهذا ما يحتم على الرئيس الجديد أن يمم وجهه شرقاً، ليس إلى أكبر اقتصادين في آسيا الصين والهند فحسب بل إلى بلدان آسيوية أخرى مثل إندونيسيا، والفلبين، وكوريا، واليابان وغيرهم، فلا فرصة لمن لم يمم وجه شرقا.
(3)
التكيف مع الثورة الرقمية العالمية
أما ثالث التحديات الجوهرية التي تواجه الرئيس الجديد فهو التكيف مع التغيرات المتسارعة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي باتت تلقي بظلالها وأبعادها على كل شبر من الأرض محدثة تأثيرات عميقة في مختلف جوانب الحياة البشرية. التأثيرات التي باتت تطوراتها المتسارعة تحسب بالدقائق، وتبرهن بما لا يدع مجالا للشك أن مسايرتها مفتاح الولوج إلى المستقبل. صحيح أن منافسة بلادنا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء حلم بعيد المنال لكن وضع إستراتيجية للرقمنة الشاملة تستجيب للتطور السريع الجاري، وتضمن استفادة ومواكبة بلادنا يعد تحديا رئيسيا خلال الخمسة سنوات القادمة.
الرقمنة الشاملة ستمكننا من إحداث نقلة نوعية في مجال الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين عن طريق الحكومة الإلكترونية، وتعزيز ديمقراطيتنا عن طريق التصويت الإلكتروني، وكذلك الاندماج في القطاع المالي العالمي، وتعزيز محاربة الفساد، وتجفيـف منــابع تمويــل الارهــاب عبر رقمنة القطاع المالي، وتعزيز الأمن في المدن الكبيرة عن طريق الرقمنة الأمنية بزرع كاميرات المراقبة الذكية القادرة على التعرف وتعقب الأفراد والسيارات معا، والسعي إلى التحكم في تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مهددا حقيقيا للسلم والأمن، ليس فقط في الدول النامية بل حتى في الدول المتقدمة، مما أصبح يطرح سؤالا جوهريا حول مدى تكيف ظام الحكم الديمقراطي مع تحديات الثورة التكنولوجية الحالية، التي باتت تفرض إعادة تعريف لمفاهيم كثيرة كالدولة، والحرية ، والمواطنة، والسيادة.
إن التغيرات الجارية في مسار الأحداث، والاتجاهات الاستراتيجية العالمية الجديدة تتيح هامشا كبيرا للمناورة لبلادنا لمواجهة ضغوط الدول العظمى خاصة الغربية، وتصنع فرصا كبيرة للتنمية، التي لن يتسنى لنا الاستفادة منها إلى بالتوجه شرقا إلى الشراكة الاقتصادية تعتمد مبدأ نربح معا بدل الشراكة المجحفة مع الغرب التي تعتمد مبدأ الرابح – الخاسر، التوجه شرقا هو توجه إلى من ينظر إلينا كشريك، ويحترم خياراتنا بدل التوجه إلى من ينظر إلينا كمستعمرة، ويسعى إلى فرض خياراته علينا. التوجه شرقا توجه إلى حجز مقعد في قطار التنمية الصيني فائق السرعة.