بصفتي رجل من الورق والحِبر وأمتلك تجربة متواضعة من التدريس يناهز عمرها خمس سنوات متتابعة من الإقامة الجبرية تحت سفح السبورة، وهي تجربة متشعبة خضتُ غمارها في مناطق نائية من الوطن ودرست فيها طلبة كثر كانوا في طريقهم إلى الباكلوريا،
بعضهم ولج الجامعة، وبعضهم ولج ثانويات الامتياز، وبعضهم تسرب بهدوء، وبعضهم تفرق طرائق قددا في دروب الحياة، تعسكر البعض، وهاجر البعض، وتزوج البعض الآخر، وربما بعضهم ينوي الترشح للانتخابات القادمة من يدري؟
أما أنا فبقيت واقفا في مكاني مثل عامل محطة القطار أودع مسافرين جدد وأستقبل آخرين جدد. على كل حال شعوري أنني تلميذ عميق لدرجة أنني في نهاية الحصة أجلس عادة بينهم في المقاعد الخلفية كي أرى السبورة مثلما يرونها لا كما أراها أنا. أحيانا أشعر أنني مازلت في طريقي إلى الباكلوريا مثلهم، بصفتي أستاذ أشاهد غالبا التلاميذ وهم في طريقهم إلى الباكلوريا يقومون ويتعثرون ثم يقومون، وأعرف مقدار نشوة الفرح ومرارة الخسارة في قلوبهم وهم يخوضون غمار الامتحانات وينتظرون نتائج رحلة من العمر حاسمة. يسرني أن أتقدم بأحر التهاني لكل الذين نجحوا في الباكلوريا هذا العام ويسرني أكثر أن أوصيهم بشيئين لا ثالث لهما:
الشيء الأول: أن يختاروا تخصصهم الجامعي بكل عناية وحب وأن يخوضوا غماره بكل جدية، فالهدف في نهاية المطاف ليس دخول الجامعة والخروج منها، فكثيرون يفعلون ذلك ومنهم بواب الجامعة وبعض أصحاب الشهادات المزخرفة فقط.
الشيء الثاني: أن يستغلوا هذه المرحلة في كسب مهارات موازية، ففي النهاية، الخبرة هي من ستساعدنا في السباحة بين أمواج الحياة العاتية مستقبلاً، والجامعة تمنحنا الخبرة النظرية في تخصص واحد، أقول هذا لكم لأنني وقعت في تلك الأخطاء المذكورة أعلاه وتضررتُ منها.
أما الذين لم يحالفهم النجاح للأسف، للذين اجتهدوا منهم وسهروا وفقدوا أوزانهم في سبيل ذلك، أقول لهم لا تحزنوا فلا شيء يأتي قبل وقته المُحدد، يمكنكم البكاء قليلا في هزيع من الليل للتخفيف على أنفسكم لكن لا تتحسروا على إناء الماضي المكسور، استحموا وتعطروا وخططوا جيدا من الآن للسنة المقبلة. أما الذين لم يبذلوا جهدا ووقتا فذرفهم لدموع التماسيح مجرد تكتيك مكشوف لتبرير سقوط مُتعمد، بيد أنهم لن يكتشفوا مرارة ذلك السقوط إلا عندما يبصرون نظرات آبائهم ذائبة في حزن صامت وهي ترى كفاحها لتوفير مصاريف دراستهم تذهب أدراج الريح، أنصحهم بالجدية والتحلي بالمسؤولية لترتاح ضمائرهم وإلا فإن الطرق المؤدية للنجاح كثيرة وبعضها لا يمر من الجامعة لكنه لا يمر من تضييع العمر والكذب على الآباء بكل تأكيد.
ويبقى الطريق إلى الباكلوريا من أصعب الطرق وأجملها، مع أن القائمين على الشأن العام زرعوا الكثير من الأشواك من أمامه وخلفه بسبب غضهم الطرف عن تدهور التعليم الذي تترجمه بجلاء نسب النجاح الضعيفة كل عام خاصة في المدارس العمومية التي تحتوي السواد الأعظم من أبناء الوطن. على ذكر أهل الشأن العام، أقول لسكان الدوائر الانتخابية لا تصوتوا لمن لا يدرس أطفاله أو أخوته في مدارس دائرتكم الانتخابية.
هنا نواذيبُ، الساعة 01:15 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.