في تعريفه للمثقف يذهب الفيلسوف الفرنسي "رجيس دوبريه" إلى أن المثقف هو من يتمتع بشجاعة "الخروج على القبيلة"، أي بعبارة أخرى من ينتزع حقه في صناعة هويته الحرة المستقلة دون أن يقوده القطيع المتلاحم.
قد تنطبق أو لا تنطبق عَليَّ تعاريف المثقف الأخرى، لكن هذا التعريف بالذات يُخرج كاتب هذه السطور، من دائرة المثقفين، ولَنْ أكْتُم السَّبَب، فأنا لا أتمتع بأي شجاعة، لا للخروج ولا للدخول، إذ قد تراجعْتُ عن نشر مقال كنتُ قد أعددتُه الأسبوع قبل الماضي، بعد أن خُوِّفْتُ من القبيلة ومن الجهة وخُوِّفْتُ مِمَّن له ظِلٌّ و مِمَّن لا ظِلَّ له بَلْ مِن فرْطِ ما خُوِّفْتُ أصبحتُ أخافُ، حتى مِن ظِلِّي!
في الأيام التالية ولَمَّا خمدَتْ عاصفة الخوف والتخويف قامت تحدثني نفسي أن أنشر المقال، ولو على طريقة الكاميكاز، ولا أبالي، لكني تذكرت قول الشاعر:
قامتْ تُشَجِّعُنِي نفْسٌ فقُلْتُ لَها *** إنَّ الشَّجَاعَةَ مَقْرونٌ بِها الْعَطَبُ
لا والذي منع الأبصار رؤيته **** ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضلَّ الله سعيهم *** إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
فقررتُ العدول ثانية عن النشر، خوفاً من العطبِ، فجزى الله هذا الشاعر عني وعن أمثالي خيراً!.
ذكَّرَنِي ما حدث، بما كنتُ قد قرأته للأديب السوري الكبير محمد الماغوط في كتابه الشهير بعنوان: "سأخون وطني"، إذْ قالَ:
لكي تكون شاعرا عَظِيماً يجب أن تكون صادقاً
ولكي تكون صادقاً يجب أن تكون حُراً
ولكي تكون حُراً يجب أن تعيش
ولكي تعيش يجب أن تَخْرَسْ!
فكيف لنا إذاً بالشعر أو بالنثر كيف لنا بالقول أو النطق، والواجب علينا في نهاية المطاف أن نخرس.
لو كنتُ عدلتُ عن نَشْر مقالي خوفاً من احتمال رفع دعوي قضائية عليَّ بحجة تجاوز هذه المادة أو تلك من القانون الفلاني أو المرسوم العلاني لهان عليَّ الأمر، لكني عدلتُ عن النشر خوفاً من أن أُغْضِبَ جهات لا سلطة قانونية لهم عليَّ ولا على ما كتبتُ ولا ما سأكتب.
لماذا، ونحن في القرن الواحد والعشرين، نعود إلى سيطرة مكونات المجتمع ما قبل الدولة الحديثة، من قبيلة، وجهة، وشريحة، وعنصر؟
إنَّ حضور هذه القوى ونعراتها وسيطرتها تدل على أن مجتمعنا انتكس انتكاسة قوية ليعود فِعلاً إلى مجتمع ما قبل الاستقلال، فنحن نعيش في وضع متخلف وغير صحي يدل على أن مجتمعنا يعاني من التهابات حادة في المفاصل الأساسية التي تربط مكوناته.. فهل حان لنا أن ندعو.. واطبيباه!، أم حُقَّ لنا أن ننادي وامعتصماه! مع العلم أنَّ هذه الأخيرة قد تُلامِس الأسْماع لكنَّها بالتَّأكيد لن تُلامس نخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ!
والحقيقة أنه، إن لم تُوقَفْ هيمنة وسيطرة الجهة والقبيلة فلا يتفاجأنَّ أحدكم أبداً:
إذا ما أصبح لكل قبيلة عَلَمُها ونشيدها القبليين،
وأصبح لكل جهة علمها ونشيدها الجهويين،
وأصبح لكل منهما تلفزيونه الخاص وإذاعته الخاصة
إنما نراه ونشاهده اليوم من مسلكيات لَمُثيرٍ للدهشة وللخوف معاً
الكل يعارض الكل ولا يعرف لماذا يعارض،
الكل يشتم الكل ولا يعرف لماذا يشتم.
والكل يخاف الكل ولا يعرف لماذا يخاف!
لا يحب أحد الخير لأخيه،
ولا تحب قبيلة الخير لقبيلة أخرى،
ولا تحب جهة الخير لجهة أخرى
والجميع في دوامات وفي حلقات مفرغة من ضياع للوقت والجهد وللمال، لا أحد يعرف إلى أين ستؤدي، الكل يريد أن يضحي بالكل.. والضحية هي الوطن!.
إنها مسؤوليتكم أنتم المثقفون وأنتم الشجعان الذين لا تخافون العطب، أما أنا فقد {كفي الله المؤمنين القتال} إذ لستُ لا مثقفاً ولا شجاعاً وأخاف العطب.
ولأنَّ أكره ما اكرهه هو أن يُغَشَّ المواطنُ أو تُزوَّرَ إرادَتُه، فأنا كذلك أكره أن يُغَشَّ الْقَارِئ أو تُزوَّرَ قَناعاتُه لذلك وجَبَ التَّنْبِيه إلى أنكم تقرؤون "لِكاتِبٍ" "مَغْشُوش": غَيْر شُجاع وغير مُثقَّف ويُفضِّل أن يعيش!.
وكردِّ فِعْلٍ على ما سبق، فقد تَخَلَّيتُ عن لغتي وعن أبجديتها وكسرت القلم والدَّواة، وقررت الهجرة ، وأعطيت أمراً بتحرير ذاكرتي من كل ذلك "الْغُثَاء" ومن تلك البيانات، لكن الطبيعة لا تقبل الفراغ فقد استحوذ على ذهني منطق جديد سَلِمْتُ به فأنا سُليمان وعُلِّمْتُه فإذا بيَّ عالمٌ من حيث لم أشعر، وما إن اسْتَبنْته حتى تَبَيَّن لي بإنه منطق الطَّيْر وأنه قد حُشِرتْ ليَّ كذلك الجنود من الجن والإنس، والطير فهم يُوزَعُون، ولأنني أخافُ توجيه القوى الخفية فقد استغنيت عن الجن ولأنه لا قبل لي بتحريك القوى الظاهرة فقد اعتذرت للإنس فأنا لا أريد أكثر من توجيه "رسائل" مشفرة وغير مشفرة، لذلك اكتفيتُ بالطَّير فهو بالرسائل أدري وأخص.
ولأن الطير أيضاً لا تحركها أيادي ولا أصابع خفية بل تتحرك في السماء وفقاً للفيض المغناطيسي الأرضي المنبعث من عمقها وهو الفيضُ الَّذِي أُوتِيتُ سِرَّ "حَرْفِهِ" وفهمه بعد أن درسته على "المشايخ الأفاضل"، نفعنا الله بعلمهم وبعلم أمثالهم!، السادة: كوص الألماني، والفرداي الإنكليزي، وماكسويل الأسكوتلاندي.
لَيْتَ من أخذتُ عنهم هذا العلم كانوا أجدادي، السادة: فُلان الدمشقي، وعَلان الفاسي، و بَلان الشنقيطي، عندها كنت سأطير زهواً وفخْراً، وأنشد قول عمرو بن كلثوم:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها *** ونبطش حين نبطش قادرينا
إذا بلغ الفطام لنا رضيعاً *** تخر له الجبابر ساجدينا
بالله عليكم، أرجوكم، لا يَتَّهِمنَّني أحدٌ بالْعنجَهية والْجَبروت، فما تَصَوَّرْتُ أنِّي قائِلُه لو كانتْ ناصِيَّة العلم بيدي، هو بالضَّبط سُلوكٌ بَشَري!
ألم يكن كريستوفر كولومبس، وهو في الغرب، يلتقط حبوب مزارع الهنود الحمر عند بدايته ولما أوتي العلم والملك، بطش بهم وأبادهم في "مجزرة الركبة المجروحة" The Wounded Knee Massacre، ثم توجه إلى العالم فإذا هو يبطش به اليوم بطشاً شديداً..
أولم يبدء الْجَمِيع في الشَّرق، "يلتقط البعْر والحَطبَا" ولما أوتوا الملك، دون العلم، إذا هم حين يبطشون اليوم، بشعوبهم في معركة "الضَّمِير الْمَيِّت والقَلب الْمَجْروح"، يبطشون بطش الْقادِرينا.
أليست هذه سُنَّة الحياة؟ في الغرب! وفي الشرق! أم أني على خطأ؟
أعود فأقول إنه لما أوتِيتُ سِرَّ "حَرْفِ" ذلك العلم أصبح تَحَكُّمي في اتجاه ملاحة الرسائل إلى أن "تُصيبَ" وجهتها كتَحَكُّمِ الفارابي في عِيدَانِه لَدَى مجلس سيف الدولة، إذ بِتَركِيبِها وفَكِّهَا كان الفارابي، يُضْحِكُ... ويُبْكي... ويُنَوِّمُ، حَسبَ رغْبَتِــهِ، كل من في المجلس!.
ورغم أننا كائنات تعيش بالصدفة وتموت بالصدفة، دون احترام للوقت ولا للزمن إلاَّ أني تَعلَّمتُ فيما تَعلَّمتُ أنَّ الوقت من ذهب، ولأنني أحب الذهب وأسعى للحصول عليه، كما أحبه وسعى للحصول عليه من التقط "الحبة" ومن التقط "البعر والحطبا"، فقد أحبَبْتُ الوقت وسعيتُ لاستغلاله، فلم أكن إذاً لأضيعه، لذلك قررت السفر فوراً فأعطيت أجنحتي للريح متجهاً إلى حيث أفْهَمُ و أُفْهَمُ، إلى جزيرة الطيور - نيو ساوث ويلز - استراليا.
وأخيراً، واستفادة من رخصة التَّعجُّل، بعد أن رَمَيتُ قبل الزوال في يوم النفر الأول، وبعد الإذن من سَـيـْـنِ، فإنني أتعجل الحملة الانتخابية داعياً الجميع إلى التحزب حتى ولو كان "من تحزَّبَ خانْ" والتصويت بِـ"لاَ" لكل من يرفع شعاراً قَبَلياً أو جَهَوياً أو عِرقياً أو شَرائحياً، حينها لن يفوز على حزبنا إلاَّ حزب البطاقات اللَّاغية!
حفظ الله الجيش... حفظ الله موريتانيا.