"اللهم اجعلني خامل الذكر" من دعاء سلفنا الصالح.
.. لا يستحسن الدعاء بمثل هذا الدعاء في حالتنا، فقد كان سلفنا الأوائل يبتعدون عن الأضواء والشهرة، ويكرهون أن يكونوا على الأفواه أو محلا للقيل والقال، ورعا وزهدا.
أما المؤسسات المدنية العصرية وخصوصا الاتحاديات الرياضية فالأمر لا ينطبق عليها، فهي على النقيض من ذلك تسعى للوصول إلى أكبر قدر من المستهدفين برياضتها التي تعود بفوائد جمة على المجتمع، ويصبح على هذا الأساس الوصول إلى الإعلام إحدى الوسائل الأهم لتحقيق أهدافها، مروِّجة لنشاطها، فاتحة أبوابها للجمهور لاستقطابه.
وهذا ما تفعله أغلب الاتحاديات الوطنية لمختلف الرياضات، بينما تتوارى الاتحادية الموريتانية للشطرنج، وتدير ظهرها للجمهور.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما الذي يجعل رياضة نخبوية (من المفترض أن ممارسيها هم من نخبة المجتمع وقادرون على الوصول إلى كل وسائل الإعلام، وقادرون على ترقيتها) متوارية عن الأنظار، خاملة الذكر، لا يعرف عن وجودها إلا القلة؟
للإجابة على هذا السؤال أعترف أنني استغرقت عشر سنين لفهم هذه المسألة، وأنا أخوض غمار تجربة إدارية جهوية داخل هذه الاتحادية، وهي فترة كافية لأخبر عن قرب ـ إلى حد ما ـ التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان!
إن غياب إرادة حقيقية لدى إرادة الاتحادية في إشهار / تطوير اللعبة على المستوى الوطني كان أحد أهم الأسباب التي تقف خلف الوضعية المزرية الحالية، وبالفعل تسهم الاتحادية الحالية في إثبات حقيقة تساعد علماء الإدارة، وهي أنه عندما تتوفر الوسائل البشرية والمادية والأرضية الملائمة فلن تأتي النتائج حتما بالجودة التي يطمح لها ما لم تتوفر إرادة حقيقية لدى الإدارة في تحقيق الأهداف.
أذكر أنه في 2011 تم الحديث عن هدف هو تطوير الشطرنج القاعدي، وتم تنظيم بطولة للناشئين موازية للبطولة الوطنية للكبار، لكنها كانت الأولى والأخيرة، وهذا يدلل على أن الهدف لم يكن نابعا من إرادة حرة لمسيري الاتحادية، وإنما كان لمسايرة توجه الاتحاد الدولي للشطرنج الذي حاول تعميم هذا الهدف على البلدان المتأخرة في الشطرنج.
وللأسف، فإنه في نفس السياق، تم إعداد مشروع اتفاقية إطارية بين الاتحاد الدولي للعبة والحكومة الموريتانية لإدخال الشطرنج إلى التعليم الموريتاني، كنت ممن واكب هذا المشروع، لكن الأمور تجمدت عند عقدة معينة، ولم تسعَ إدارة الاتحادية لفك العقدة لأنه ببساطة كانت إرادتها في هذا الاتجاه معدومة.
وبالمناسبة، كان الاتحاد الدولي مستعدا للمساهمة في تمويل هذا المشروع والمساعدة الفنية له، وجاءت زيارة رئيسه في 2012 لبلادنا في ذات الإطار، لكنه لاحظ بوضوح غياب تلك الإرادة، ومن ثم عدل عن دعم المشروع في بلادنا.
وقد يتساءل متسائل: لماذا تغيب إرادة مسيري الاتحادية اتجاه الإنجاز، ومن لا يحب الإنجاز وتحقيق الأهداف؟
فنجيبه بكل ثقة: لأن للعطاء فترة، وللحماس وقت، وأمام العقبات والرتابة، تصبح عملية الإدارة مملة، فيكون التقاعد أو التنحي أولى، وهو ما لم يحدث بتاتا في هذه الاتحادية، فنفس الأشخاص الذين يديرونها منذ عشرين سنة لا يزالون هم أنفسهم إلا مع تقدم في السن وانكسار في الإرادة.
والمكتب الحالي للاتحادية برئاسة السيد عبد الله ولد ابّاه يعاد انتخابه في كل دورة مع رتوش طفيفة منذ 1999، والحجة دائما كما في كل الأنظمة الدكتاتورية: أين البديل؟!!
فكيف يتوقع ـ والحال هذه ـ من إدارة عتيقة، أي إنجاز؟!
وبطبيعة الحال، فإن الأمور تتردى في هذه الاتحادية، ويكفي ـ للتأكد من ذلك ـ ملاحظة تقلص أعداد المشاركين في البطولة الوطنية من سنة إلى أخرى.
وحاليا، لا تتوفر لدى مكتب الاتحادية أية رؤية لانتشار اللعبة، لا أفقيا، ولا هرميا.
لقد فقد المكتب بصره وبصيرته بالتقادم وطول الأمد!
لقد انحسرت اللعبة ـ رسميا ـ في ثلة قليلة تمارسها كهواية وكشغف، ولكن من حق الجميع الولوج إلى هذه للعبة، وعندما تعجز الاتحادية عن هذا الهدف فلا تسأل عن بقية الأهداف مثل تحقيق مراكز فردية وجماعية متقدمة في البطولات الدولية.
وفي هذا الإطار، فإنه من المخجل التصنيف الحالي لموريتانيا في الترتيب العالمي، إذ تحتل حسب آخر تصنيف للاتحاد الدولي للشطرنج المرتبة 136 تعلوها جمهورية جنوب السودان وتليها برمودا التي لا يتجاوز عدد سكانها 65 ألف نسمة!
هذا الانحسار غير المقبول، وغير المفهوم على مستوى ممارسة اللعبة يتعزز يوما بعد الآخر، بعوامل الطرد والتنفير الممارسة ضد اللاعبين، والروابط الجهوية؛ ويكفي مثالا على ذلك المضايقات التي يتعرض الأبطال الوطنيون للشطرنج والذين ينتهي بهم المطاف في المهجر (ثلاثة على الأقل) وبقية الأبطال في العقد الأخير ـ في غالبيتهم ـ تعرضوا للظلم والاضطهاد بدل التقدير والتكريم لدرجة عزوفهم عن ممارسة اللعبة نهائيا والاتجاه إلى لعب الورق كبديل!
وأبرز مظاهر الظلم الممارس في هذا الإطار عدم استقرار معايير للمشاركة في البطولات الدولية خصوصا، فضلا عن الإهمال وعدم التحفيز.
ناهيك عن تجاهل الروابط الجهوية التي تعاني التهميش والإبعاد عن المشاركة في صنع القرارات، أو إسناد أي دور لها.
وحتى عندما تتحمس هذه الروابط للقيام ببعض دورها المنوط بها يتم تحقير ذلك الدور معنويا حتى يصبح الندم العزاء الوحيد لها.
يتواصل..