يصعب الحديث عن المواقف حين يختلط فيها الشخصي بالموضوعي، ويتداخل فيها العائلي بالوطني. وقد كنت أتحاشى المزج، في التعبير، بين القضايا العامة، والخاصة. وللصدق فقد اختلطت علي المشاعر في موقف النائب المحترم جمال ولد اليدالي من تغيير المواد المحصنة في الدستور، فلأول مرة أشعر أن أحد من تربطني بهم القرابة رأس حربة في معركة وطنية بحجم مواجهة الانقلاب على الدستور.
أشفقت على النائب المحترم من حجم الضغوط التي قد يتلقاها رجل منتخب على قوائم الحزب الحاكم، وهو يقف في وجه ما ظهر أنه محاولة انقلابية من النوع اللصيق بساكن القصر، وظهر المقربون منه وكأنهم يحملون تفويضا بحمل الناس عليها حتى تمضي إلى غايتها.
واعترتني هزة اعتزاز من يمسك بقبضته حلما تحدق الأبصار في جنباته. لقد نظرت إلى تلك القبضة بمزيج من الرجاء والأمل، والاعتزاز والشفقة والخوف.. خفت ارتخاءها، وأنا المدرك لحجم الضغوط التي ستواجه، وأملت أن تحقق ما حققت لأن البلد يحتاجه، وأشفقت واعتززت..
ليس سرا أن المعركة لم تكن معركة بين الأغلبية والمعارضة، ولا أن المعارضة لا تستطيع أن تقف في وجه التغييرات التي يحلم بها خارقو الدستور، ولا أن المعركة ليست معركة تصويت على تعديلات يعدها فريق من الحالمين بتأبيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، فهي معركة إقناع وطنية لحماية أهم المكتسبات السياسية في العشرية الماضية. وهي معركة معنوية تحتاج من يعلن أن ثمة رافضين في صفوف من يحسبون موالين للرئيس.
لا يكفي لهذه المعركة استبطان نية التصويت برفض التعديلات، وملتمساتها، فعندما لا تجد لها صادا من داخل الأغلبية فسيكون التصويت أقرب إلى الشكلي، ولا يغني أن يقف في وجهها محسوب على هذا الطرف من الأغلبية أو ذلك.. كانت تحتاج رجلا بمواصفات النائب جمال ولد اليدالي، وفي موقعه، وقد امتلك أدواتها، ووقف الوقفة التي يحتاجها الوطن والمعركة واللحظة، وأنهى حلم التأبيد، فلله هو، ولله موقفه!.
عندما كتبت عن انضمام يعقوب ولد امين إلى جوق العابثين بالدستور إنما كنت أسطر أملي المعلق على النائب جمال ولد اليدالي. لقد وضعت نفسي في إطار الصورة إلى جانب ولد امين وتصورت حجم الخجل الذي يمكن أن يعتري من يعنيهم سياسيا أو اجتماعيا، ولم أستطع أن أقف في الصورة إلى جانب النائب صهيب، ولا أن أتصور حجم الخجل الذي يعانيه موتاه في أجداثهم.
وحين وضعت نفسي في إطار الصورة إلى جانب جمال انتشيت، وظننت أني أستحق ذلك.
لو قدر أن كان للرئيس محمد ولد عبد العزيز مستشارون لكان ثناؤه على النائب جمال ولد اليدالي ورفاقه أندى وأرفع من ثنائه على جوق صهيب، حتى ولو داعب الآخِرون خواطره، وسقاه الأولون مرارة الحق، لأن الفريق الأول نصحه نصح الرجال، وجعله ينحاز للوطن، ويخلد اسمه في التاريخ، كرجل حلف يمينا فبر بها، ووعد وعدا فوفى به، وأراد الآخرون به سوء خاتمة ومسبة تعقبه في ذويه إلى حين نصب لواء الغدرة في عرصات القيامة.
لقد أنقذ جمال ورفاقه للرئيس ما تبقى من ماء وجهه، وللأغلبية ما تبقى من أغاني وطنيتها، وللبلد ما كاد يضيع من سمعته وهيبته وتضحيات أبنائه.
من لا يعرفون النائب جمال معرفتي به يظنونه مجرد اسم انسل من غفلة التاريخ في زحمة تدافع اجتماعي في مقاطعة واد الناقة، ووصل قوائم الحزب الحاكم وحملته الأموال إلى البرلمان. وما هو كذلك.
لقد عرفناه مذ عقل الحلم مقبلا على شأنه، مستنكفا عن كثير مما يشتغل به أقرانه، فبعد أن نال حظا من التعليم المحظري اختار أن يكمل في طريق التعلم، فواصل حتى نال شهادة الدكتوراه في القانون من الجامعات الفرنسية، ومع أنه انخرط في صفوف الأغلبية إلا أنه اشتهر بموقفه الرافض للاستهزاء بالدستور أيام المجلس الأعلى للدولة.
أدرك أن النائب جمال ولد اليدالي يعي الحدود التي يتحرك فيها نائب من الأغلبية الحاكمة في بلد ناشئ التجربة ومجتمع حديث عهد بالدولة ضعيف الإيمان بها، إلا أن مواقفه منذ بداية المبادرات الرامية لخرق الدستور كانت واضحة وصريحة، فقد رفض أن يكون جزءا من الحراك الجهوي، وصرح علنا بمناقضة ذلك الحراك لمنطق الدولة، وحين وقع الاختبار الأكبر بالاختيار بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز والدستور والتناوب اختار جمال أن ينحاز لثقافته، وقناعته، ولموقعه، ولتكوينه القانوني، ووقف موقفا كان القريبون سيدفعون ثمنه، ولكنه اختار الوطن والموقف الصحيح. فشكرا له.