فيزا: بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية واستسلام الرايخ الثالث، نشر أحد الرسامين، في إحدى الصحف واسعة الانتشار، رسوما لبعض الزعماء وبعض الحيوانات، مبرزا التشابه بين كل زعيم وأحد تلك الحيوانات، فمنهم من شبهه بزرافة كالجنرال ديچول، ومنهم من قارنه بكلب من نوع البلدغ، كاتشيرشيل، وحتى روزفيلت وستالين لم يسلما أيضا، حيث كان لكل واحد منهم شبيهه من الغابة. وحينما رأى الزعماء تلك الرسوم وتفاعل الشعوب معها استاءوا من الأمر فاستشاروا الحكيم اتشيرشل، فرأى أن رفع قضية على الصحيفة أو سجن الرسام ليس حلا، بل إن تكريمه سيكون أفضل وسيلة للتخلص من سخرية الشعب، وذلك بإبراز الوجه المشرق للديمقراطية، وتقبل القادة للنقد، وبالتالي سيتم قطع الطريق على السخرية.
***
المقال: شأنا أم أبينا هي الحياة مهزلة، فما من حدث إلا ويبدأ بفتح ستار، وينتهي بإسداله، والحياة في مجملها عبارة عن مسرحية كبيرة يسدل الستار عليها حينما نصل إلى مرحلة الحقيقة. وبالتالي فهي كذبة كبرى. الأمر هنا نوع من المسرح، ولكل مسرح أحداثه وأبطاله، وفترة عرضه، وإغلاق ستاره. وما دمنا في مسرحية فكل الاحتمالات واردة. تتعدد السيناريوهات، وتختفي فجأة قبل نهاية وقت العرض، ويبقى سيناريو واحد كان يعرفه الأبطال والمخرج فقط. أما المشاهدون فليس لديهم غير التكهنات.
وإذا كنا في مسرحية فجميع المسرحيات لا تخلو من قاسم مشترك، ووجه شبه فكل مسرحية لها نصها، بعقده وحلوله وحبك سناريوهه، الذي يتفاضل الكتاب في صياغته من حيث الإتقان والإبداع والإقناع، كما أن أدوار الممثلين فيه تختلف من حيث الموقع والإبداع والقدرة على إقناع المتابع. وكم من سيناريو واقعي عشنا أحداثه وذكرتنا بسيناريوهات كنا شاهدناها في التلفيزيون أو المسرح أو السينما، فالفن مرآة الواقع، واقتباس منه وحتى في الفنتازيا فإن الأمر لا يخلو من شبه بينها وبين الواقع فمعركة الأحاسيس وتجسيد صراع المصالح وصراع البقاء هو جوهر أي إبداع إنساني مهما شطح كاتبه ومخرجه خارج فلك الواقع المعقول والمنطقي.
هل إننا فعلا نعيش في مسرح كبير وكلنا ممثلون لنا أدوار سنموت بعد أدائها..؟ لا أدري لكن في الأمر تشابه كبير، فبعد نهاية دور لممثل في أي مسرحية واقعية، سيختفي اسمه وصورته من المشهد ويبقى مجرد ذكرى، نفس الشيء بالنسبة للشخص بعد ما تنتهي رسالته في الحياة ويبقى اسمه مجرد ذكرى.
صحيح أن الكل سيمر من هنا حتما، قصر الأمد أو طال، كما أن الأدوار تختلف تماما كاختلافها في المسرح من البطل في القمة وحتى الكومبارس في الحضيض، نفس الحال بالنسبة لحياتنا ففيها أبطال وبها كومبارسات لم يتركوا أي بصمة تذكر لهم.
لكن العبور من مسرح الحياة مسألة حتمية يستوي فيها الكل.
***
مدرسة المشاغبين من أشهر المسرحيات العربية وأوسعها انتشارا، ورغم أن نصها مستورد من الغرب إلا أنها جسدت على أرض عربية، والتلقائيون وأصحاب نظرية المؤامرة يختلفون خلافهم الأزلي في الأغراض المبطنة من ذلك، ولكل فريق حججه التي لا تقل عن الآخر. المهم أن قصة المسرحية تتلخص في مجموعة من التلاميذ المشوشين يرفضون الانصياع لرغبة أساتذتهم في التدريس ويعزفون على وتر الانحراف، ويفعلون الأفاعيل في كل أستاذ في المدرسة حتى يصل معهم إلى مرحلة اليأس فتخور قواه ويستسلم للأمر الواقع، حتى يأتي يوم وتصل أستاذة الفلسفة التي تخبئ أكثر من ما يظهر عليها من شجاعة وقوة في الشخصية والشكيمة، وبعد مخاض عسير ينصاع الجميع لأوامرها وتعبر بهم إلى بر الأمان والنجاح.
ورغم أن رسائل السيناريت مررت بأسلوب ساخر أكثر من العادي إلا أنها واضحة وضوح شمس الثانية عشرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمرسي الزناتي بن التاجر وبهجت الأباصيري ابن الموظف المحترم، واللذان تعاهدا على الوفاء لبعضهما البعض في أهدافهما المشتركة كانا مكملين لبعضهما فقد عرف كل واحد منهم دوره وما يمكن أن يقوم به بجدارة، وأكمل النقص عنده بميزات الآخر حيث تعاهدا على عهد (أنا المخ وأنت العضلات) فكان مرسي قوي البنية شجاعا، وكان بهجت خجولا حسب الظاهر، قليل الكلام، لكنه هو الزعيم الفعلي بعيدا عن الأنظار بما يملك من قدرة على التخطيط وخلق المقالب، وإقناع الآخر ببراءته منها، وهي مقالب يستهدف بها التشويش على أي أستاذ حتى يسأم التدريس، ويتحكم بهجت بها في مصير (الشلة) أجمع. ورغم أن التلميذ منصور بن مدير المدرسة وله دوره أيضا إلا أنه بما يملك من مقومات متواضعة يبقى مجرد تابع لمرسي الذي يتبع هو الآخر للزعيم بهجت الأباصيري. والذي هو الزعيم الفعلي للمجموعة كلها، عكس ما يبدو للكثير من المشاهدين بأن الزعيم الحقيقي هو مرسي الزناتي بما يملك من قوة وشجاعة.
***
التقى الرئيس محمد ولد عبد العزيز والفريق محمد ولد الغزواني والعقيد الشيخ ولد بايه منذ فجر خدمتهم العسكرية، وأيام الكلية الحربية في مكناس.
رضعت الشلة لبان ثدي الكلية وأقسموا بأسحم داج عوض لا نتفرق. ورغم أن "المحمدان" برزا للعيان أكثر من الشيخ فقد كان صديقهم. كان الغزواني هو الدماغ وكان عزيز هو العضلات حسب بعض القراءات، بينما أظهرت الأيام في وقت لاحق ما بعد تصريح مثير للجدل له أن العقيد سيكون له دوره.
الثلاثي المعروف هو نفسه - شأنا أم أبينا - من يحرك كل شيء، بشكل مباشر أو غير مباشر، وسيبقى كذلك. تبادل الأدوار أمر مستساغ في الفترة هذه بعد ما انتهت الفترة التي يسمح بها الدستور للرئيس عزيز بقيادة "الشّلة"، أقصد الدولة. ومن نافل القول أن الفريق هو من سيتولى القيادة في العلن بعدما قادها في السر عشر سنوات أو تزيد.
دعك عزيزي القارئ من تشتيت الأفكار، فأنت تعلم وتعلم أنتي أعلم وأعلم أنك تعلم أن الفريق غزواني هو رئيس مرحلة ما بعد عزيز، أو المأمورية الثالثة لعزيز على الأصح وبمصطلح أدق، فالثنائي شركاء في الحكم وفي كل شيء. لا يجب أن نضحك على أنفسنا، لم نضحك..؟ أهو جهل أم تجاهل..؟!
***
خلال أيام الصِّبا كانت لدينا لعبة اقتسام أو اقتراع، حيث نضع أعوادا في الرمل بعدد المقترعين ونبل بالماء قاعدة أحدهما المخفية في الرمل ومن فاز بالعود الذي قد بلت قاعدته فهو المعني بالأمر. وفي حالما كان الأمر متعبا وكان من يقوم بالقرعة يريد أن يورط شخصا معينا يتم بل جميع الأعواد ويبدأ بالشخص المعني وحينما يأخذ أول عود يجده مبلولا فيقول أنت صاحب المهمة. ويرمي بقية الأعواد خفية. كي لا يُكتشف الغش.
لكن هذا ليس المهم، المهم أن جميع أعواد الفريق غزواني مبلولة. والكلام على رئيس مستقبلي غير غزواني هو نوع من التهريج غير المنطقي، كما أن الكلام على أن الرئيس عزيز كان يحكم لوحده هو نوع من العِرافة. فمنذ الإطاحة بالعقيد ولد الطائع والحكم ثنائي بين "المحمدين"، وسواء حكم هذا أو حكم ذاك فهو نفس الحكم.
الأمر الذي يجب أن نتساءل عنه هو ماذا سيميز الفترة القادمة، وهل سينجح الفريق فيما أخفق فيه الرئيس، وهل سيضيع الفريق ما نجح فيه الرئيس.
إن الرئيس لن يختفي من الصورة فمكانته في النفوذ والحكم والشراكة ستبقى محفوظة، فالحكم عندنا مبني على نظرية ثنائية الأبعاد، وسواء جلس في مقعد السائق أو جلس بجانبه، سيبقى شريكا في السيارة ومكانته هي نفسها بين الركاب.
بعد رصاصات اطويلة وما صاحبها من تداعيات ظهر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن البلد يحكم من خلال أشخاص وليس من خلال شخص واحد، لكن حملات التمويه على الحقائق حتى لا تتعرى للعوام أسلوب دولتي معروف، رغم أنه لا ينطلي على صاحب نظرة غير تلقائية.
***
إن الكلام عن فوز المعارضة في هذه الفترة بمنصب الرئيس أو حتى منافستها بقوة هو نوع من الوقاحة، فعن أي معارضة بالضبط سنتكلم، أين المعارضة..؟ أهي تلك المناطحة أو المناصحة، أهي المقاطعة أم المشاركة، أهي التي تأخذ الأوامر من وضعيات جيوب قادتها أم التي (تنبحها الكليبة) في كل مرة، وتهز ثقة الناخب فيها، أهي التي تقدم برنامجا مقنعا أم التي تكتفي بنقد الحكم والحاكم. أهي التي تتقن القيام بالفعل أم التي تتقن رد الفعل فقط..؟
لا يمكن لشجر العُلندى أن يستقيم بنفسه لوحده، فلا بد له من شجرة سرح أو طلح أو غيرها لكي ينبت وينمو، وهو نفس حال المعارضة عندنا، والكلام على مرشح واحد لا يعدو كونه نوع من عمليات التجميل التي تميت الخلايا وترهل الجسم بعد فترة وجيزة.
ويا ترى ما الضامن أن التحالف لو قام بالفعل سيبقى حتى آخر لحظة، مع العلم أن "لو" هي التي تفتح عمل الشيطان..!
نفس الرجلين الرمزين أحمد ولد داداه ومسعود ولد بالخير إضافة إلى الدكتور الزين ولد زيدان، ما زالو في المعترك أو أغلبهم، وما زالت تداعيات ما بعد الانقلاب على ولد الطائع وانتخاب الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، واقع معيش، وذاكرة شعب سياسية خالدة تأبى النسيان، وبالتالي فـ(الصيف ضيعت اللبن).
الحقيقة المرة أن معارضتنا اليوم أصبحت مترهلة، وشاخت أفكارها، وما عادت تواكب الواقع، ولعل أقرب ضوء في النفق هي تلك الكوكبة من الشباب المشع حيوية وعزما، والتي بدأت دخول المعترك، لكنني أستبعد فرصها في الاستحقاقات القادمة، فحتى عامل السن ما زال يقف عثرة في طريقها إضافة لعوامل أخرى كثيرة.
***
خلال مشاهد مسرحية (مدرسة المشاغبين) يظهر أستاذ مختل بسبب مقالب "الشلة" اسمه (الملواني) تقوم "الشلة" بتجريده من ملابسه في الفصل وتلبسه ملابس راقصة من الهنود الحمر، ويبدأ الرقص. عندها يحضر مدير المدرسة، فيتبرأ منه الجميع ويبقى في نظر المدير هو صاحب الجرم.
***
وبالعودة إلى عشرية الفريق غزواني في الظل، أو سنوات حكم الرئيس عزيز، فإننا شاهدنا العشرات من (الملوانية) فقد تم تجريد العشرات من ملابسهم، وإظهارهم على حقيقتهم وكشفت عوراتهم، فكم من رمز ضاعت رمزتيته، وكم ملهم ضاع الهامة، وكم من هامة صغرت في عيني الرائي، وكم معارض أصبح رمزا للموالاة، ولن أبالغ في الوصف إذا قلت - بقلب الأم - إن معارضتنا الحالية أصبحت ثلة من (الملوانية).
لكني لن أحملها المسؤولية كاملة، فالحقيقة أن هناك قوة خارقة وشخص صامت يخطط لكل شيء، وصحيح أن نفس الشخص هو من يجعل الكثيرين حيارى حول حقيقة برامجه، وصحيح أنه يسبقهم لعقولهم، وصحيح أنه من يأخذهم بمحض إرادتهم إلى البئر، وأنه هو من يرميهم فيه بمحض إرادتهم أيضاً، وصحيح أنه هو الرقم الصعب في المعادلة.
***
لم يكن الرئيس عزيز يوما منذ سطوع نجمه حتى اليوم صاحب وعود براقة، أو إظهار صورة جذابة، فقد اعتراف بعجز الدولة مرارا عن بعض التزاماتها، ولعل أول وعد براق له يلفت انتباهي هو ذلك الذي أطلقه في خطاب المسيرة الأخيرة، ومفاده أن موريتانيا سيتغير حالها إلى رفاهية منقطعة النظير ما بعد ألفين وواحد وعشرين.
قد يقول قائل إن وعد الرئيس أضمر فيه سوء نية، حتى يحرج زميله فيما لو حصل العكس، لكنني أستبعد ذلك الاحتمال، فحال "المحمدين" هو حال (الشامبو والبلسم) نفس العلبة ونفس المحلول، وما خبر الرجل من كفاءة في رفيقه إضافة إلى المعلومات الأخيرة حول حقول غاز الأطلسي قد تكون أو بالتأكيد هي مدرك كلام الرئيس.
ثم إن نظرة عابرة على جميع الملفات التي تولى الفريق غزواني في الماضي مثل الأمن والجيش وملف علاج الرئيس إبان حادثة اطويلة لتفسر ثقة الرئيس في كفاءة رفيق سلاحه وزد عليها العائدات العملاقة لحقول غاز الأطلسي المحتملة.
يبقى أن نتساءل أين مركز الرئيس عزيز من النفوذ ما بعد استحقاقات 2019..؟ والجواب هو، ليكن ما يكن، لكنه بالتأكيد سيبقى في الصورة عبر الحزب أو حتى عبر الفريق غزواني نفسه، فالرجل قد بنى لنفسه مكانة على المستوى الإقليمي والوطني والدولي، يستحيل أن يخرج صاحبها من الصورة بشكل كامل.
دعك من الترهات والشائعات التي تقول إن عزيز هو من يتحكم في شتى الموارد المالية للبلد، فأين الدليل..؟
اعلم عزيزي القارئ أن المال والعشيرة والقوة هي مجرد وسائل للوصول إلى السلطة، وأن من ملك السلطة زهد في كل تلك المسائل.
***
اضطر العقيد ولد الطائع بعد فترة من إقامته في المهجر إلى التدريس في إحدى الكليات الحربية، كي يوفر بعض المال لتغطية احتياجاته الأسرية حسب بعض المصادر، فأين الأسطول المكون من إثنى عشرة باخرة وأين أرصدة سويسرا ، وأين قصور الأندلس..؟ الحقيقة أننا شعب جعل كل تفكيره في المال، والمال هو هاجسنا وشغلنا الشاغل، كما أننا شعب مغرم بالشائعة، ولذلك فإن مواقع بث الشائعات هي الأكثر تصفحا بين مواقعنا، لكن الحقيقة شيء آخر.
الحقيقة أن الرئيس أي رئيس ليس مثلي ومثلك، فسقف أحلامنا هي أن نجد ما نكف به حاجيات أنفسنا وعائلاتنا، ونؤمن مستقبل أولادنا، أما سقف أحلام الرئيس فقد تجاوز ذلك بكثير. وأحلام الرؤساء أسمى من الأغراض المادية جدا.
***
في مشهد لا ينسى من مسرحية (مدرسة المشاغبين) اضطر بهجت الأباصيري الرجل الغامض لصفع صديقه مرسي الزناتي صاحب العضلات حينما أقنعته المُدرّسة بضرورة تغيير نهجه نحو الاجتهاد بل التشويش، والأخذ بدل التهريج. ورغم صدمة مرسي في صديق عمره إلا أنه تفهم الأمر وأخذه في حضنه قائلا (أنا ابتاعك يا زعيم).
***
إن المرحلة القادمة هي مرحلة التأسيس للتناوب، والتي يمكن أن يؤسس فيها لتناوب حقيقي يتيح للمعارضة الوصول لكرسي السلطة، فالبناء التي أسس خطوة خطوة هو ما يمكن أن يصمد أمام عوامل التعرية أكثر من غيره من الأبنية المؤسسة بشكل مستعجل.
***
لن أزايد على وطنية أي كائن كان لكنني أؤكد جازما أن إقناع قائد المرحلة القادمة بضرورة الإصلاح والتناوب لن يأتي إلا من الشعب، ومن نخبة ناصحة، وأن عدم الرجوع إلى الوراء هو الوسيلة الوحيدة للتقدم نحو الأمام، وأنه يوجد من بين نخبتنا من يستطيع إقناع أي قائد بخطوات من شأنها أن تسير بالبلد نحو الصدارة. وأن قائد المرحلة لو وضع هدف الإصلاح والتنمية نصب عينيه لن يثنيه عنه أي كائن كان حتى ولو كان أقرب إليه من حبل الوريد.
***
للعبرة: ليست كل الحقائق صحيحة، وليست كل المسرحيات خيالا.