على مدار الساعة

الإسلاميون بين أخطاء الأنا وتشويه الآخر

10 مايو, 2018 - 17:24
الشيخ ولد المامي

القصة: بعد ما اشتد غضب الخليفة العباسي هارون الرشيد على وزرائه آل برمك أصبحت أقرب الطرق إلى قلبه هي تلك التي تمر فوق أجداثهم وتناصب العداء لكل ماله علاقة بهم، وتطور الأمر في اللاحق حتى صار النيل منهم وسيلة للعفو عمن يدان في جريمة سياسية لا تغتفر في المنهج الحكامي المَحتِدي.

 

المقال: تعاني كثير من الكتابة عن تيار الإسلام السياسي في موريتانيا الذي يمثله "تواصل" من فقر معرفي وتحامل مكشوف، وانحراف منهجي شديد، باتجاه فهم هذا التيار أو تجاهل فهمه لأغراض مختلفة، وهو ما يجعلها تستعيض عن البحث الموضوعي والمتجرد بنماذج جاهزة، يجري ترديدها دون أي تفكيك أو محاولة إثبات.

 

وبالطبع فان الهدف من كتابة هذا "الهراء" ليس الدفاع عن تيار الإسلام السياسي أو "مغازلة له" ، كما سيتبين لاحقا ، لكن الحملات المكشوفة والمغرضة على هذا الفصيل قد أصبحت قضية رأي عام يجب على الكل أن يسهم قدر طاقته في معرفة أبعادها وتفكيك رموزها، وعموما فإن من يعرفون هذا الكائن "وقليل ما هم" يدركون موقفه من "الإسلام السياسي" ولكن ثمّة فرق كبير بين النقد الموضوعي الذي يبنى على الفهم والتحليل، وبين الإصابة بداء متلازمتي "الكنتي إخوان" الذي إن لم يخفي هدفا "دسما" في طياته، فإنه يطمس الحقائق ويشوه الواقع.

 

ومن ضمن النماذج التي يتم التسويق لها عن تيار الإسلام السياسي "أخونة الدولة"، و"الميكافلية" و(العودة إلى عصر النخاسة وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف) وحكم "الدهماء" والهرولة خلف "الباب العالي" والتأسيس لخلافة عثمانية جديدة، وهي مقولات فضلاً عن أنها تعكس موقفاً تشويهيا تجاه فصيل معتبر من الطيف السياسي الأيديولوجي والسياسي الوطني، فإنها تفتقد الجدية والموضوعية من منظور مرن ، بل أكثر من ذلك، أن مواقف الإسلاميين تنفي بتجرد، مثل هذه المقولات، فقد أصبح في حكم الثابت يقيناً أن إستراتيجيتهم تناقض ذلك تماماً، حيث سعوا إلى الشراكة والتوافق والتقارب مع القوى السياسية الأخرى رغم اختلافها الجذري معهم، ولم يكن ذلك، على نحو ما أبرزت العقود الماضية، "فقها مرحليا" وإنما إستراتيجية تكاد تكون ثابتة، وهو ما تجسد في تجربة "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية" التي وقفت ضد الانقلاب على حكم سيدي ولد الشيخ عبد الله، في السابق ، والمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة حاليا.

 

كذلك فان موقف الإسلاميين من معظم الترسانات الدستورية الماضية سوى دستور "ولد ابنيجارة" رغم ما تمتاز به من أسس علمانية ليبرالية ويسارية، على الأقل من وجهة نظر الإسلاميين، ليكشف، بسهولة، مدى إصرار التيار على روح التوافق والاعتدال والسير نحو الحداثة والانفتاح، بعيداً عن "الرجعية" الذي يتهمه بها الكثيرون.

 

أيضا، لا يخلو خطاب الحركات اليسارية والليبرالية و"الوطنجية"، من نظرةٍ استعلائيةٍ ووصائية تحكم معيارياً على غيرها من المكون الوطني، والترخيص لنفسها الحكم عليه من خلالها، حيث تحدد للإسلاميين برامج قيمية يجب أن يقبلوا بها، لكي يتم قبولهم في المجتمع، وهي بذلك لا تقع في ازدواجية فحسب إذ إنها ترفع التعدّدية الفكرية والإيدولوجية والسياسية كشعار لها، وإنما تفرض الوصاية على الآخر، بنفس الطريقة التي تروج لها عن الإسلام السياسي، ما يعكس استعلاء قيمياً وإيدولوجياً على الآخر، ولا يستند إلى أرضية منهجية أو موضوعية.

 

***

ومنذ بداية الخطوات الأولى لنظام ولد الطائع نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل أخذت ظاهرة الخوف من تيارات الإسلام السياسي والتخويف منه تأخذ شكلاً جديدا وتحالف في ذلك أكاديميون وإعلاميون ومراكز دراسات معظمها ذو خلفيات يسارية أو ليبرالية أو مرتبطة بجهات أمنية دولية أو محلية.

 

وهذه الظاهرة بلغت أشدها بعد التحولات الجذرية للعالم بعد أحداث 11 من سبتمبر ثم ازداد نضجها بعدما تأكد للجهات الرسمية ذلك الدور الكبير الذي لعبه تيار الإسلام السياسي في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها فرسان التغير ضد نظام ولد الطائع، ودورهم القوي في الحركة الدعوية والفكرية بشكل عام، إضافة لتصدرهم لقائمة العاملين في الحقل الخيري، مع الإشارة إلى حجم دورهم الذي يلعبونه في تدفق رأس المال العابر للحدود نحو الداخل ونحو الخارج في آن معا.

 

وقد أخذ مسلسل التنفير من التيار الإسلامي أساليب مرحلية تتعدد أشكالها بحسب الظرف الزماني باعتبارهم تيارا إرهابيا أو متطرفا أو دوغمائيون رجعيون إلى تيار ينتهك الحريات الفردية ويميز بين الأفراد من منطلق الجنس أو يمارس الديكتاتورية باسم الدين هذا بالإضافة إلى نصيب وافر من الاتهام بالعمل لأجندات خارجية كجزء من تنظيم دولي محظور مع اتهامات "تمييزية" بالبرغماتية، إضافة إلى النظرة الاستعلائية الساقطة التي تطلق عليهم "الغلمان" وتشكك  في قدرتهم على إدارة دولة معاصرة تساير ركب الحداثة بما تحمله الكلمة من دلالات حقيقية كإدارة مؤسسة اجتماعية متعددة الأعراق والمشارب الفكرية ترتكز شرايين حياتها على ما تجنيه من علاقاتها الخارجية بالغرب في الأغلب.

 

ومن منظور سبري قياسي متجرد فإن واحدة من هذه التهم كفيلة بالقضاء على أي تيار بما فيه الإسلام السياسي في أقل من عقدين لو أنها كانت واقعية على الأرض، بل وتحويله إلى ثلة صغيرة من الثابتين على المبدأ بخيره وشره، كما حدث مع عدد من الجماعات الإيديولوجية التي رأت النور على هذه الربوع في وقت معين من تاريخها، واستفحل أمرها، ومع وضوح أهدافها وكشف عوراتها بدأت تنحصر شيئا فشيئا، حتى آلت للسقوط.

 

إن ما يمتاز به تيار الإسلام السياسي في موريتانيا من حيوية ومرونة وقدرة زئبقية على التمدد وكسب ثقة الأفراد (والتي تجعل منه رقما صعبا في المرحلة القادمة حسب منظوري الخاص ولا أعني بذلك الاستحقاقات القادمة بالضرورة، لكن أسهمه سترتفع مع تنامي الرغبة في التغيير والتحرر من قيود الزعامة التقليدية، والتطلع إلى البديل القوي الذي يمكن أن يضع حدا لحكم المؤسسة العسكرية، ورغبة المجتمع الدولي في إقامة ديمقراطية حقيقية في البلد) إذا وضعنا ذلك في الحسبان، ونظرنا إلى ماضي التيار القريب حيث كان ينحصر في جماعة صغيرة تتكون من عدد من الطلبة وأئمة المساجد، فإن ذلك سيشكل مصدر تشكيك في التهم التي يستخدمها معارضوه، إلا إذا وضعنا المعايير السبرية والقياسية في محل المشكوك فيه أيضا، وهو استثناء يجانب المنطق المصطلح عليه لدى الجميع.

 

ومن منطلق متجرد وحسب الإمكانيات النقدية المتواضعة، فمن حقي أن أحاول تفكيك رموز تلك المواقف وكيف أصبحت موقفا مدرا لـ"لإعجاب" على منصات التواصل الجمعي، كلما أحس أحد أباطرة "الفسابكة" بالعزلة، وكيف أصبحت تلك المواقف مصدرا للفت انتباه أطراف حزبية داخلية ومراكز نفوذ داخلية ودول خارجية عربية وغربية...!

 

***

لم يغب تيار الإسلام السياسي نفسه عن تلك الصورة التي يحاول بعض النخب رسمها في المخيلة العامة عنه، بل إن أخطاءه، وممارساته و"فقهه المرحلي"، وعدم عزله وتبرئه من بعض من ينتسبون إليه من أصحاب الرؤى الأصولية الدوغمائية، بهدف الاستقطاب السياسي، واستدرار الحوالات المصرفية السعودية العابرة للحدود أوجد فخاخا وذرائع لمن يناوئون التيار في الطرح، فمنذ البداية استقطب الإصلاحيون الوسطيون والجماعة الإسلامية قبلهم المئات من فلول السلفية "الوهابية" والاتجاهات الإسلامية الأصولية والجماعات التكفيرية البعيدة كل البعد عن المنهج الإخواني الوسطي الذي يتبناه الرأي الرسمي للتيار "التواصلي" الذي هو محور الاهتمام، وذلك بعد الضربات الأمنية التي وجهت للتيار الوهابي التكفيري في نهاية حكم ولد الطائع والتحولات التي شهدها العالم أجمع بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما اكتنفها من تحميل للمسؤولية للجماعات الوهابية التكفيرية.

 

كذلك فإن سقف الشعارات التي يرفعونها كشعار "الرحيل" مثلا ركوبا لموجة الربيع العربي، والتي لا تتناسب مع إمكاناتهم غالبا في مراحل من عمرهم السياسي، قد حد من قوة تأثير رسائلهم الإعلامية، وفاعليهم الاستقطابية، ويضاف إلى ذلك حالة العزلة الإعلامية التي كان التيار يعانيها ما قبل عصر "الجزيرة"، والأنترنت، كما أن لجوئهم إلى العمل في الخفاء خلال الفترة ما قبل الترخيص لحزبهم وخصوصا في فترة تنظيم "حاسم" شكل نوعًا من الغموض لدى البعض وولد هاجسا حول حقيقة أهدافهم فيما لو وصلوا إلى مرحلة ما يسمى "التمكين".

 

إن المواقف السياسية التي تعطي شعورا عن براغماتية تيار الإسلام السياسي والتي دعته في مرحلة ما إلى المشاركة في حكومة مطبّعة مع الكيان الصهيوني، لتشكل نقاطا سوداء في تاريخه، إضافة إلى اتخاذه لجملة من المواقف السياسية الاستعجالية دون دراسة وتفكير وإدراك لعواقبها والتي تطرح تساؤلات جمة عن مدى النضج السياسي للتيار، كما حدث في الانتخابات التشريعية الماضية حيث شاركوا فيها، فيما قاطعها حلفائهم في المنتدى وغير ذلك من المواقف التي تطبعها البرغماتية، من منظور الآخر، وتضعف ثقة الشركاء فيه.

 

وفي بعد آخر فإن محاولة بعض المنظرين في التيار الإسراع به نحو صدارة الموكب الحداثي أدى إلى مسلسل من التنازلات والمراجعات الجذرية ما حوله إلى موقع أكثر علمانية وأضعف ثقة المحافظين الإسلامين فيه، وأكسبه طابعا  "ميكافليا" يمكن أن يضحي بكل ثوابته في سبيل كرسي الحكم، كل ذلك من منظور الآخر طبعا.

 

ومن ناحية أخرى نجد أن الاهتمام بالبعد الإقليمي والدولي و"الجماعاتي" يحظى باهتمام أكثر في أدبياته ومواقفه، من البعد المحلي، من المنظور المناوئ، الأمر الذي أضفى عليه نوعا من الغرابة عن الجسم العام للمنظومة الوطنية وأجلسه في موقع "الدخيل".

 

 كما أن الهالة القدسية أو المكانة الكهنوتية التي يحيط بها بعض رموزه وثوابته، والحدة في الخطاب تجاه أي منتقد لتلك الرموز والثوابت، والتي تتنافى مع حرية الفرد في تكوين رأيه حول شخص ما، أو مسألة ما، قد يكوّن ذلك تساؤلات لدى منتقدي التيار حول إيمانه الفعلي بالمنهج الديمقراطي كسبيل أمثل للحكامة، وحول مدى ترسخ مبادئ الحريات الفردية في فقهياته، وأعطى تخوفا من ممارسته للدكتاتورية حالما يصل إلى كرسي الحكم.

 

صحيح أن أصحاب الأيديولوجيات الأخرى التي تنفر الآخر من الإسلاميين، قد قمعت الحريات وأنشأت الأنظمة البوليسية ومارست شتى صنوف الاستبداد والطغيان وعطلت الانتخابات ورسخت الحكم العسكري وحكم الفرد وأن معظم التيارات العلمانية اليسارية والليبرالية والقومية المناوئة للإسلاميين كانت سنوات حكمها "سنوات جمر"، لكن الإسلاميين لم يناوأ بأنفسهم عن فخ التهمة بسبب المعطيات آنفة الذكر.

 

***

وإذا نظرنا إلى الآخر فمن وجهة نظري الخاصة أن ضعف اطلاع على الترسانة الفكرية والأدبية للإسلام السياسي ضمن أسباب عديدة قد أدي لظهور تلك المواقف، فمعظم من يتبنونها ظلوا بعيدا عن قراءة ما كتبه منظرو التيار وعن برامجه وأفكاره، بل إن منهم من يخلط بينه مع تيارات أخرى بأسلوب يوضح مدى التيه في الخلفيات الفكرية للحركات، وحتى أولئك الذين تكلفوا عناء القراءة عنه وسلطوا الضوء على أدبياته فإن دراستهم كانت بشكل مجتزئ، أو مما يكتبه المناوئ، أو الأفراد داخل التيار الذين لا يمثلون خطه الرسمي، أو ما كتب في مراحل سابقة وتم النظر فيه وأخضع لمعيار التجديد لأن التيار يؤمن بالتدرج في الخطوات حسب ما يصرح به، كما يضع عدم استعداء الآخر كقاعدة للوصول لهدفه المبتغى، وهذا ما لم يضعه أصحاب الرأي الآخر في الحسبان.

 

إن معظم أصحاب الطرح المناوئ للتيار قد ركزوا في قراءاتهم – إن حصلت - على ما يكتبه أفراد من التيار في مرحلة من المراحل تحت إكراهات الواقع وظلم الحكام واضطهادهم الفكري دون اعتبار الظرفية الزمكانية لصاحب لنص فضلا عن كونه لا يمثل الرأي الرسمي للتيار، ولم يضعوا في الحسبان أن المتصدين لتلك الآراء كان معظمهم من التيار نفسه، كما حدث خلال مرحلة "حوار السجون" وضف إلى ذلك أن التاريخ أثبت أن كل حملات الاضطهاد والاعتقال والمصادرة لم تستطع أن تفقد التيار سلميته ومدنيته.

 

كذلك لم يغب الصراع الأيديولوجي عن المشهد فتكوين المؤسسة الفكرية لدولتنا الفتية قد بنيت أسسه على دعائم علمانية قومية أو يسارية أو ليبرالية أو معا، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون هناك رفض من أصحاب تلك الإيديولوجيات لأي رافد فكري جديد، خصوصا إذا كانت مبادئه دينية بعدما تم تدجين المؤسسة الدينية التقليدية ذات المبادئ الرجعية وصهرها في المنظومة المسيطرة، فظهور مؤسسة دينية جديدة مرنة تواكب الحداثة وتطرح بديلا إسلاميا في مجتمع متدين بطبعه سيشكل قضاء شبه تام على تلك الإيديولوجيات - كما يحدث بالفعل - وذلك بسبب الإمكانات التنظيمية والقدرة التعبوية الواسعة للتيار مما ولد هاجسا من استحواذه على الملعب، وطرد الآخر منه. 

 

إن كينونة التيار الإسلامي في موريتانيا كجزء من منظومة دولية تختلف مسمياتها حسب الدول والأقطار، والحملات التطهيرية والتشويهية التي يقام بها من حين لآخر ضده في البلدان العربية كما يحدث في مصر والإمارات والسعودية حاليا، وهي امتداد لممارسات دأب عليها الحاكم العربي منذ نشأة الإسلام السياسي وحتى الآن، وبلغت ذروتها بتداعيات "الخريف المضاد" قد ساهمت بشكل كبير في شيطنة الإسلام السياسي.

 

 كما أن "شهر العسل" الذي يعيشه المعسكر السعودي - حلفاء حكام نواكشوط- مع إسرائيل، والحديث عن "صفقة القرن" وتحويل السفارة الأمريكية من عمارة تل ابيب كان له دوره هو الآخر، في محاولة تشويه صورة هذا التيار، إذ لا ينبغي أن ننسى موقفه من القدس، "قضيته المركزية" حسب ما تمليه خلفيته الدينية والثقافية و"الإخوانية".

 

وإذا علمنا أن الموقف الغربي المهيمن والمنحاز لإسرائيل جذريا، والذي ساهم مع الدكتاتوريات طوال العقود الماضية في إقصائهم، حتى ربط البعض بين أنجع وسيلة لاستمرار الحاكم في السلطة، وبين قدرته على مطاردة الإسلاميين وكبحهم وتهميشهم، بل تعدى الأمر ذلك إلى تكريم الكتاب والمفكرين المناوئين لهم وحيازتهم لأكبر الجوائز العالمية، ناهيك عن الامتيازات المادية والحصانات - غير المعلنة - لمن يناوئ طرحهم، فإننا لن نستغرب وجود جبهة إعلامية وفكرية وسياسية تناوئ التيار إذ إن مبدأ النفعية هو أكثر ما يجمع نخبتنا.

 

***

وإذا كان فرانسيس فوكوياما في أطروحة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" قد وصف الإسلام "الأصولي" بأنه دين شمولي يريد التحكم بكافة مظاهر الحياة العامة والخاصة، وقد لا يعارض الديمقراطية الانتخابية على الطريقة الإيرانية، ولكن اعترافه بالحقوق المرتبطة بالليبرالية مثل حرية الفكر والدين قد يكون تحديا بالغ الصعوبة.

 

وإذا كانت نخبنا الليبرالية، وحتى اليسارية في مفارقة غريبة تتلقف "عميانيا" تلك الأفكار وتواجه صعوبة في تعريف كلمة "أصولي" ودلالتها الحقيقية عند فوكوياما وعلى من يمكن أن تطلق، وضف إلى ذلك أن التيار الإسلامي يطرح منظومة قيمية متكاملة بمنهجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتشكل بديلا إسلاميا، فمن الطبيعي أن نجد في زمن القطب الواحد "السيطرة الأمريكية" من يحارب هذا التيار ويطرح في نقده رؤية تجانب الواقع بل وتشوه قيمه، فغياب الوعي المعرفي الداخلي والانبهار بالنهضة الغربية وحالة البؤس الداخلي وتحالف المؤسسة الدينية التقليدية مع الحاكم في تفقير الشعب وتجهيله، وثورة المعلومات الحديثة وما وفرته من انفتاح على الآخر، والأذرع الليبرالية الطويلة، لن يكون أي من  تلك المعطيات ببعيد عن تشكيل جبهة داخلية مناوئة للبديل الوحيد الذي ما زال يشكل خطرا على الحضارة الليبرالية الغربية المهيمنة.

 

ولكن من منظور متجرد فإن أي مقارنة موضوعية بين حزب "تواصل" وبين أترابه من الأحزاب السياسية ذات المشارب الفكرية المختلفة في البلد ستبين عن فرق شاسع في السلوك الديمقراطي بشكل عام، مع العلم أن الأنظمة الديمقراطية العلمانية نفسها تختلف في تطبيقاتها للديمقراطية، الأمر الذي لفت انتباه السفارات الغربية وخصوصا الأمريكية لهذا الحزب، وأكسبه مكانة لديها رغم تاريخ العداء الطويل والممتد نحو الأزل، لكن سياسة الأمر الواقع قد فرضت هنا على أمريكا وحلفائها، مما يحسب كمكسب للتيار، وبالتالي فإن تقبل الأمريكيين له ربما يعزز فرصه، لكنه يسحب البساط من تحت أقدام مناوئيه ما يفسر الحملات الأخيرة.

 

 لقد تعزز الحضور الشبابي والنسوي في وسط الحزب، بسبب طرحه لبرنامج حداثي يحافظ على القيم والمبادئ الدينية والوطنية بحيث لا يفرط ولا يفرط غالبا، كما أن التبادل على السلطة وعدم الانجراف الأعمى نحو القيادة كما شاهدنا في انتخاباته الداخلية قبل شهرين ولد شعورا برؤية مختلفة عما يسير عليه قطار الأحزاب السياسية المعهود في البلد، لكن غياب الرؤى المختلفة داخل الحزب تعطي شعورا عن مدى فهم أفراده لمبادئه، إذ من الصعب أو حتى المستحيل أن ينقاد هذا الكم من البشر نحو هدف واحد دون أن يتساءل أحدهم لماذا، ولعل المنظومة العقائدية التي تشكل منطلقا لأفكاره كانت السبب خلف ذلك.

 

***

إن العمل على تنظيم ندوات فكرية "شاملة" تضم مختلف الطيف الإيديولوجي الوطني، و"متسلسلة" توضح نقاط الخلاف تباعا، وتسعى إلى إيجاد تقارب فيها مع بقية الطيف، وتصحح مفاهيم ظلت حقيقتها غامضة، وتكشف ما علق بتيار الإسلام السياسي من تهم غير صحيحة، وتؤكد احترامه للتعددية الفكرية، ولمواقف الآخر، وتبين رؤيته البديلة وبرنامجه "النهضوي" إضافة إلى مراجعات داخلية وفلترة لأعضائه الذين لا يمثلون الرأي الرسمي له، والتبرأ من أطروحاتهم والاعتراف بأخطاء الماضي مهما كانت، وتوضيح النقاط التي لم يزل فهمها عالقا في ذهن المراقبين، ربما تكون المسمار الأخير في نعش التيار المناوئ، وبالتالي وصول تيار الإسلام السياسي الذي يمثله "تواصل" إلى كرسي الحكم.

 

وعموما فإن كل هذه المعطيات تظل مشروطة برغبة المجتمع الدولي في إيجاد ديمقراطية حقيقة في بلد إسلامي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية منذ أكثر من ربع قرن ويقبع في منطقة الساحل ذات الوضع غير المستقر أمنيا، لكنه يتمتع بمقدرات اقتصادية هائلة تجعله هدفا لشتى لمطامع.

 

للعبرة: ليس المهم أن ترى نفسك أكثر الرجال وسامة، بل المهم أن تقنع الآخرين بذلك.