في السادس من شهر أكتوبر عام 2010 رأيت دمعة تتحدر من عين الرئيس محمد محمود ولد أمات، بعيدا عن الوطن في معسكر الطلائع بمدينة اللاذقية السورية..
كنا في انتظار أن يأذن لنا النظام السوري بالعبور إلى مدينة غرة بحرا لكسر حصارها الذي استشهد على أسواره قبل أربعة أشهر مواطنون أتراك ضمن ما عرف باعتداء جنود الاحتلال على أسطول الحرية.
عبرة وفاء
تحدرت الدمعة على خد الرئيس الصلب وهو يعيد هاتفه إلى أرضية الغرفة، وتفوه بكلمات خفيضات، تبينت بعد طلب إعادتها أنه استرجع.. تمالك نفسه، وقال والعبرة تخنقه: اليدالي ولد الشيخ.. خنقته العبرة، وهو يسترجع، قائلا: اليدالي ولد الشيخ في ذمة الله..
وفي هزة انتشاء تذكر جلال الموقف الذي يرابط فيه، وهو في طريقه إلى غزة، وربط الراحل بالحال: رحم الله أخي اليدالي.. لقد قال في آخر مسيرة لحزب اتحاد القوى الديمقراطية: ستكون هذه آخر مسيرة سلمية ندعم فيها إخواننا في فلسطين، وانتفاضتهم المقدسة، ولم تكن آخر مسيرة سلمية فقط، بل كانت آخر مسيرة للحزب قبل حله.. واستفاض في ذكر الخليل الراحل، ومواقفه، دون أن يخفي غشاوة مصاب تغطي وجهه المتهلل طيلة تلك العشية.
زيارة للموت
قبل ستة أيام كان لنا موعد مع زيارة للموت على متن طائرة الخطوط الجزائرية التي أقلتنا من العاصمة نواكشوط تجاه أولى محطات الرحلة إلى غزة... بفضول صحفي مشوب بفزع كنت أتصفح وجوه الركاب في مقصورة الدرجة الأولى، والطائرة تفرغ حمولتها من الوقود استعدادا للهبوط الاضطراري الثاني في مطار العاصمة نواكشوط..
كان الشيخ الحاج ولد المشري في المقعد أمامي، وكان بجواري بعض أعضاء الوفد؛ الصحفي الصديق محمد يحيى ولد ابيه، وعمدة تكنت المحامي المامي ولد أبابا، وفي المقاعد الأخرى الشيخ عمر الفتح، والنائب عبد الرحمن ولد ميني والرئيس محمد غلام ولد الحاج الشيخ.. كان الكل منخرطا في الحديث؛ تعليقا على وضع الطائرة المشرفة على التحطم (في اعتقادنا، فهي تعود للمرة الثانية بعد أقل من عشرين دقيقة من الإقلاع).. لم ألاحظ أي نوع من الفزع على أحد من الوفد، باستثناء الحالة التي انتابتني من التطلع في ملامح الركاب.. بعد أن قرأت المعوذتين والإخلاص، ودعوت الله أن يجعلها لي شهادة..
لفت انتباهي بقاء الشيخ الحاج ولد المشري في مقعده، دون التفات أو حديث، وكأن شيئا لم يكن.. كان الشيخ مستغرقا في حال هيمان بشيء خارج عالم الطائرة، التي اصطلحنا على تسميتها بـ"أم جنيح"، ندَّ صوت شاقا سكينة الصمت الذي خيم بعيد إعلان طاقم الطائرة عن رحلة العودة الاضطرارية إلى مطار نواكشوط.. كان عدد الركاب قد تناقص إلى أقل من الخمس بعد العودة الأولى، وفي الدرجة السياحية تناثر حوالي ثلاثين طالبا. كان الصوت حارقا، توقعت أن يثير اهتمام الشيخ الذي استغرق في أوراده بعد حديث مقتضب مع الرئيس محمد غلام، فهمت بعد أنه أهداه نسخة من كتاب الأذكار للإمام النووي.. مرّ الصوت الحاد مخترقا طبلة أذني؛ ما الذي يؤخر الهبوط؟ توقعت التفاتة من الشيخ الحاج، ولكن توقعي خاب.
وفي المقاعد الأمامية من الصف الموازي كان الرئيس محمد محمود ولد أمات وهو حينها نائب رئيس البرلمان في صمت شبيه بصمت الشيخ الحاج، وحين دققت النظر رأيته مغمض العينين، حسبت الأمر لبرهة حالة تأمل صوفي أخرى في الطائرة العائدة أدراجها، سرحت قليلا في ملامح الرجل فإذا هو يهوي برأسه إلى الأمام ثم يعود، كأن انتباهة مفاجئة اعترته، دفعني الفضول إلى مواصلة الرقابة، فإذا الرجل في غفوة كأنه يسترقها بين موجات الضجيج التي تصاحب نوبات الهبوط، في رحلة توقعنا أن تكون الأخيرة...
كان الموت ينتظر في المحطة الموالية، أو هكذا توقعنا، وكان الرئيس محمد محمود يسترق إغفاءة بين الموت الحياة والموت.. اعترتني حالة نرفزة من وضع الرجل، حتى فكرت في تنبيهه. كانت تلك مجرد التماعة فزع أخرى تنتابني، تبددت مع سكينة الشيخ والرئيس..
كانت ملامح الرئيس عبد الرحمن ولد ميني قريبة من ملامح الشيخ الحاج ولد المشري.. ثبت في مقعده كأن الأمر لا يعنيه، أو كأن شيئا لم يقع.
رئيس التكتل
بين الدمعة والغفوة تتداعى إلى ذهني صور الرئيس محمد محمود وهو يقارع استبداد ولد الطائع، ومن بين كل الصور، في مسيرات المعارضة، وفي اعتصاماتها ونضالاتها، وفي انتخاباتها، في مسيرات فلسطين والعراق، تبقى تلك الصورة الأيقونة للشاب المحامي الذي أشبعته الشرطة جلدا في مظاهرة بالعاصمة الاقتصادية نواذيبو..
ثم ذلك القائد الثابت في مسيرة شهر من نواكشوط إلى غزة مرورا بالجزائر فدمشق فاللاذقية فالعريش فرفح، حيث معبر جهنم إلى غزة.. كانت صورة القائد الرزين نزر الحديث، ثابت النظرات، نادر حركة اليدين..
شهر من السفر يكفي لتعجم معادن الرجال، ومن شهري مع ولد أمات خرجت بملاحظة مفادها أن ثبات الرجل على خط سياسي منذ أكثر من عشرين سنة ليس حالة عابرة في شخصيته.. وكيف تكون عشرون سنة عابرة؟
كانت أول انتخابات أخوضها بوعي تحت أعلام تكتل القوى الديمقراطية بقيادة الرئيس محمد محمود ولد أمات، الذي اختاره رفاقه لخلافة مؤقتة للرئيس أحمد ولد داداه، وكان نجاح الحزب فيها باهرا بمقاييس ذلك الزمن الجميل.. ولا أنسى تصريحا للرئيس محمد محمود قال فيه إن المعارضة فازت في نواكشوط وعلى السلطة إدراك ذلك.. لم يسلم النظام بالهزيمة، ولم يستسلم محمد محمود..
تعلقت النفوس بالنائب البرلماني الرصين وبالسياسي المحنك الذي يمثل عنفوان المعارضة، وقوة شكيمتها، وحين رأس بعض جلسات البرلمان بالإنابة كانت النفوس تهدأ بمجرد أن يعتلي المنصة...
صرفت رياح المعارضة الرئيس محمد محمود أنَّى تصرفت، وقادته رؤيتها إلى حيث تسير.. لم يكن دائما راضيا، وكان يختلف أحيانا، ويعلن الاختلاف، لكنه آثر دائما السير ضمن القافلة التي كان أحد روادها..
لم يقده قربه من الإسلاميين إلى الاندماج فيهم، ولا شكل لديه عقدة "النأي بالنفس" التي حزت في نفوس كثير من الساسة المحافظين.. كان رجلا مستقلا يمثل شخصية التكتل؛ يشبه في محافظته، وثباته، الرئيس أحمد ولد داداه. وفي استقلاله وهدوئه يشبه نفسه.
استدارة الزمن السياسي
حين يودع الرئيس محمد محمود حزب التكتل فذلك حدث في التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا، وواقعة في تاريخ الأحزاب المعارضة، وداهية في تكتل القوى الديمقراطية.. لم يتغير التكتل، ولا تغير الرئيس محمد محمود، ولكن الذي تغير هو الزمن السياسي.. لقد استدار زمن السياسة في موريتانيا كيوم خلقه الله أول مرة، وليس الرئيس محمد محمود ممن تفوتهم اللحظات التاريخية، أو يغيبون عن صناعتها.
لحظة التقط ولد أمات وميض اللحظة السياسية التي دشنتها عودة الرئيس أحمد ولد داداه إلى البلاد، والتفاف طيف واسع من المعارضة حوله برقت أسارير الفتى المعارض، ومنح الوطن زهرة شبابه من صفوف المعارضة، ودفع من أجل ذلك كل شيء، حتى نفسه التي بين جنبيه، وهو اليوم على أعتاب موقف سياسي دشنه خروجه من التكتل، قلعته التي آمن بها، وشادها.
وحين سألته عن سر تصريحه الغامض أياما قبل الاستقالة، أجابني ستفهمه، وسيكون خيرا للوطن! وأعرف أنه سيكون خيرا لأن الرئيس محمد محمود لم يكذب علي قط، وعرفت أني سأفهمه أيضا لأنه وعدني ذلك، وسيفي..