لماذا يغلق النظام الموريتاني الجمعيات الدعوية والثقافية والعلمية؟ قال الناطق باسم الحكومة بعد إغلاق جمعية المستقبل ردها الله: إنها كانت تقف خلف المظاهرات المنددة بتمزيق المصحف الشريف، حجة بالغة الوقاحة والرداءة، لم نزل نتجرعها ولا نكاد نسيغها، فما هي حجته الداحضة في إغلاق مركز تكوين العلماء؟ ولماذا أغلقت جمعية الإصلاح؟
ما يزال الرأي العام حائرا في دواعي النظام لإغلاق جمعية الإصلاح للتربية والأخوة، تلك الجمعية التي أقامها الإسلاميون الموريتانيون بديلا عن جمعية المستقبل التي أغلقت مارس 2014 بقرار مفاجئ غريب، وكان في ترخيصهم لجمعية الإصلاح وعملهم تحت لافتتها رسالة واعية للنظام أنهم لا يريدون إلا العمل تحت طائلة القانون، وأنهم مؤمنون باليسير الذي نملكه من مسمى الدولة، ولكن النظام كافأهم بإغلاق جمعية الإصلاح، وهي رسالة غير إيجابية مطلقا.
ينبغي أن يحتكم الإسلاميون والنظام الجائر على المجتمع الموريتاني، فيسأل الشعب ماذا يعرف عنأنشطة هذه المؤسسات وماذا يعرف عن القائمين عليها (المستقبل-تكوين العلماء-الخير-الإصلاح) فإذا اعتبرهم أعداء وطن ودعاة عنف وأصحاب تطرف فإن مكانهم هو السجن والقيد والنكال، وإذا زكاهم وأثنى عليهم وذكر أياديهم البيضاء فيه تعليما وتثقيفا وإغاثة وحسن عشرة فعلى النظام أن يدعمهم ويمولهم وييسر لهم السبل حتى يؤدوا رسالتهم الإصلاحية الراشدة.
أعرف أن هناك في النظام صناع أزمات وأعداء فضيلة، صناع أزمات ترتفع أسهمهم ويزداد رصيدهم المادي والمعنوي كلما كانت هناك أزمة بين النظام وبين الإسلاميين، ويموتون نسيانا وجوعا في فترات السلم والاستقرار، وأعداء فضيلة يسوءهم التزام المجتمع بدينه ويحزنهم إقبال الشباب على المساجد ويحز في نفوسهم عفاف المرأة وشيوع الخير، وأعرف أن صوت هؤلاء وأولئكقوي وحاضر في بنية النظام، وأعرف أيضا أن ظهيرا دوليا يقف خلفهم ويشجعهم ويعدهم الأموال والمناصب إن هم حاربوا أهل الخير، وكانوا بالمرصاد لأصحاب الفضل.
ما يجب أن يفهمه النظام الموريتاني وصناع الأزمات هو أن المتضرر من ضرب استقرار البلد وأمنه هو أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم، وأن الضمير الصراعي الذي يدفعهم والظهير الخارجي الذي يدعمهم لن يجديا شيئا إذا انقلبت سفينة هذا الوطن بفعل الريح العاصف الذي يدفعونه تجاهها، فالوطن يسع الجميع، والتدافع المسؤول هو تدافع البرامج والمشاريع والأفكار، أما تدافع التنابز بالألقاب والتراشق الخشن فغير مُجْدٍ للمتراشقين ولا للوطن المُتَرَاشَقِ فيه.
إن محاربة الخطاب الوسطي المعتدل تشريع لخطاب التطرف والغلو، وسُقْيَا عَذَابٍ لهذا المجتمع الذي سيبقى حائرا بين من يدعوه للانسلاخ من قيمه ودينه وبين من يدعوه لفهم حَادٍّ قَاسٍ لشريعة الله السمحة الرحيمة، وسوف تدفعه فطرته المؤمنة لتفضيل خيار الفهم الإسلامي المتطرف أكثر من الالتحاق بتيارات التغريب التي تتمنى بعض النخب أن ييمم المجتمع وجهه شطرها.
ثم إن التضييق على أهل الخير وعدم السماح لهم بالتعبير عن أنفسهم في مؤسسات معلنة يقدمون فيها خطابهم في رابعة النهار، فيُقَوَّم اعوجاجه ويهذب نُتُوؤُه؛ سيدفعهم إلى العمل تحت الأرض وفي جنح الظلام بعيدا عن رقابة الدولة وضبط القانون، كما سيدفع الوقوف الصارم في وجه المؤمنين بالتغيير الاجتماعي المتدرج عبر وسائل التربية والدعوة والثقافة إلى القفز على المراحل والبحث عن سبل تغيير أخرى، مما قد يؤدي في النهاية إلى تصادم لن تكون مآلاته خادمة للوطن ولا للمجتمع.
إنه لا بد للمجتمع من حركة، فالمجتمعات البشرية لا تقبل السكون، فإما أن تؤطر حركتها وتوجه في مسار إصلاح وبناء وإلا فإنها ستتحول إلى مسار إفساد وهدم، إنها مثل السيل لا بد أن يجد متسربا لشلال الماء، فإما أن تصرفه بنفسك إلى الأودية لتنبت وتخصب وإما أن تحاول محاصرة الماء عسفا فيغلبك دفقه العاتي مجتاحا دارك وأهلك ومالك.
وفي تجارب الدول المجاورة لنا عبرة لأولي الأبصار، فقد أدركت الدولة العميقة في المغرب أن سنوات الجمر لا يمكن أن تستمر، وأن الصمت والخضوع الذي يراه المراقب لحركة الشارع لا يعكس حقيقة الغضب الذي يعتمل بذات الصدور، والذي ينتظر في كل لحظة القطرة التي تفيضه، فينطلق لا يلوي على شيء، فسمحت للحركات السياسية بالإعلان عن نفسها والعمل في مؤسسات قانونية دعوية وثقافية وفكرية وسياسية ونقابية وخيرية إلخ، فحافظت بذلك على كيانها ووحدة شعبها وأرضها، وحاصرت بذلك أيضا حركات التطرف والتنظيمات العاملة في الخفاء بعيدا عن رقابة المجتمع وضبط القانون.
والدول التي تملك جهاز أمن متعلم عاقل تدخل دراسة علم الاجتماع إلى كليات الشرطة، وتبني تقاريرها الأمنية على دراسات اجتماعية عميقة تنظر لما وراء الأرقام والبيانات، وتقرأ تلك الأرقام والبيانات في ضوء قوانين حركة المجتمع وقيمه وعاداته، ومن القصص الدالة على ذلك الشائعة بين المغاربة قصة الحل المفاجئ لـ"شرطة القرب" التي سماها المغاربة (كرواتيا)، وهي جهاز أمن أسسه المدير العام حميد لعنيكري، وقد استطاع في فترة وجيزة بسط الأمن والقضاء على ظاهرة (التشفار) التي كانت تؤرق المغاربة وتفقدهم الأمن على أنفسهم وأموالهم في الليل والنهار.
لقد تفاجأ الرأي العام المغربي في 18 أكتوبر 2006 ببلاغ من المدير العام الجديد للأمن الشرقي اضريس يقضي بحل جهاز شرطة (كرواتيا)، ويقول بعض المغاربة إن سبب حل هذا الجهاز الذي وطد أركان الأمن هو أن تقارير استخباراتية عليا وصلت إلى ديوان الملك محمد السادس حذرت من انفلات أمني أكبر إذا استمر جهاز شرطة القرب في ضبطه الصارم لحركة الجريمة في المجتمع، وعللت التقارير ذلك بأن مجتمعا كثير العدد قليل الموارد مثل المجتمع المغربي يعيش ضغطا نفسيا قويا لا بد أن يتنفس عبر مسارب معينة، فإما أن يسمح له بالتدافع فيما بينه بالتغاضي عن عمليات تلصص وسطو مضبوطة السقف والوجهة وإلا سوف يتنفس منفجرا باتجاه المملكة ومؤسساتها، وبناء على ذلك تم حل الجهاز الضابط للشارع بصرامة بتعليل من علم الاجتماع الأمني.
من الواضح أن مواجهة تدور منذ فترة بين الإسلاميين وبين صناع الأزمات في النظام الموريتاني، فما يوم "جمعية المستقبل بسر"، لكن الإسلاميين حينها تحلوا بالصبر وتعالوا على الاستخفاف، وطرقوا أبواب القضاء -مع علمهم بأنه قضاء سياسي- فاتحين فرصة التراجع الشريف عن القرار الجائر من صاحب القرار، وهي سياسة راشدة تتبادل بها الكتلُ والقوى الحيةُ في المجتمع الرسائلَ مع الأنظمة في الدول غير الديمقراطية، تَخْمِشُ مؤسسة الداخلية وتمسح مؤسسة القضاء ما نزف من جرح، ثم تنطلق الحياة وقد فهم كل طرف رسالة الآخر دون تمادٍ.
لكن رسالة التهدئة التي بعث بها الإسلاميون بعد إغلاق المستقبل وأعادوها بعد استهداف مركز تكوين العلماء، وكانوا يكررونها ويؤكدون عليها بسلوكهم المسؤول بعد إغلاق جمعية الإصلاح، تلك الرسالة تجاهلها النظام الذي ظل يوغل في تتبع كل مؤسسة تتبع لهم أو شخص يعلن إيمانه بفكرتهم، لقد ظل الإسلاميون مستمسكين بالصبر حرصا على الوطن أن تعصف به أزمة تشبه في عناوينها أزمتي 2003 و2005، وتختلف في مآلاتها عن مآلاتهما، وقد تطور وعي الشعب كثيرا وزادت شجاعته وجسارته أكثر، وتكاثرت وسائل الحشد والتجميع، وما تزال المنابر والساحات مسرحا للتعبئة ضد أعداء الوطن وأعداء الفضيلة.
فبالله عليكم يا عقلاء النظام انتبهوا لوطنكم وشعبكم، وخذوا على أيدي أعدائه في الداخل، ولا تنصتوا لأعدائه في الخارج.