على مدار الساعة

لا تخذلونا، ما زلنا نحلم بدولة مدنية

23 مايو, 2019 - 12:25
الشيخ أحمد ولد البان

"نريد العبور نحو دولة مدنية"، كلمة بالغة التأثير العاطفي فينا معاشر الجيل الذي ولد تحت الحكم العسكري (شخصيا يؤرخون مولدي بانقلاب 1978)، ولكن كيف تولد الدولة المدنية؟ إن ما يريده البعض من استيلاد الدولة المدنية من رحم العسكر هو شبيه بما يعرف في عالم الطب بـ"الحمل خارج الرحم"، ذلك بأن الرحم الطبيعية لنضج الدولة المدنية هو المجتمع المدني؛ مؤسسات تصنع الوعي الفكري والثقافي وأحزابا تدرب على المغالبة المدنية وتقترب من السلطة لتصل إليها عبر نضال تراكمي.

 

الفكرة التي بدأ العسكر يسربها إلى وعينا عبر كُتَّابه هي أنه علينا أن نقترب منه كي نؤثر فيه، وأن ندخل تحت خيمته قبل أن تكتظ الكراسي المحيطة بحملة التيجان، وهي فكرة تصلح مسوغا نفسيا لإنسان أتعبه الركض أو لمصاب بداء "الرباط الصليبي"، فحكم عليه القدر بضرورة القعود، وهو معذور مرفوع عنه الحرج للعلة المذكورة، لكنها لا تنهض مشروعا سياسيا مجتمعيا لإزاحة حكم عسكري وجلب دولة مدينة، خاصة في مجتمع قبلي يفهم السياسة بعقلية "الشيوخ" و"كوميات" و"انصارى".

 

لابد أن نفهم أنه ليس لدينا (نظام) بالمفهوم السياسي لهذه الكلمة، وليست لدينا (دولة عميقة) بالمفهوم الاجتماعي لهذا التعبير، كل ذلك استيراد دعائي لمصطلحات ذات مفهوم معين وتنزيلها على واقع مغاير تماما، إننا نملك لجنة عسكرية تأسست في عام 1978 (تاريخ أول انقلاب عسكري)، وهي تجدد نفسها بين الحين والآخر، وما حولها من مدنيين هم حواش ورعايا منهم المقربون ومنهم المنبوذون، والمقربون لا يملكون حق الرأي خارج ما تنتجه تلك الجماجم المستترة تحت قبعاتها العسكرية، أي أن دور المثقفين والمفكرين من الحاشية هو إنتاج الأفكار والرؤى والخطط في ضوء الاستيراتيجية العمياء المرسمومة سلفا.

 

مما يؤسف لهاليوم أن تخترق اللجنة العسكريةالجيل الذي ولد في أيام انقلابها الأول على السلطة (مواليد 75-78)، الجيل الذي ناضل ضد العسكر وناهضه طيلة عقدين (منذ 2000) ذاق فيهما ويلات السجن والمطاردة والتهميش، وعرف فيهما مثالب الحكم العسكري وتطلع لفضائل الدولة المدنية التي عايش بعض تجاربها مساكنة أو مدارسة.

 

إن دعم بعض النخب المدنية الواعية لمرشح العسكر ليس قضية رأي سياسي عادية-كما يسعى البعض لتصويرها-، بل هي خيانة مكتملة الأوصاف لمسيرة أربعين سنة من بناء الوعي ومراكمة لبنات الدولة المدنية المنشودة، كما هي استهزاء غير أخلاقي بمعاناة هذا الشعب الذي أذاقه هؤلاء العسكريون لباس الجوع والخوف بما كانوا ينهبون ثرواته ويخنقون حرياته، بل أكثر من ذلك؛ إنها جريمة نرتكبها في حق أنفسنا التي أتعبناها في سبيل قضية رعيناها بذرة حتى إذا اقترب حصادها تركناها.

 

ليس من المروءة الأخلاقية ولا من التدبير السياسي–وأدرك هنا قسوة التعبير- أن نهتف للشعب كل هذه المدة أننا نريد دولة مدنية قوامها جيش يقوم بمهته الدستورية ومجتمع راشد يتفاعل ديمقراطيا لبناء وطن منكوب، حتى إذا وصل الحكم العسكريرمقه الأخير، وأصبح مخنوقا بأكثر من يد ومركولا بأكثر من رجل قلنا في لحظة جنوح عاطفي: تعالوا نعيدها جذعة، ونفتح للعسكر بابا آخر نحو الحكم لا يأتي عبر الدبابات رأسا ولكنه يأتي عبر صناديق اقتراع معسكرة، إنه والله الجنون أو الخرف لا غير.

 

إنها النكسة التي ستركس الوطن في أربعينة أخرى من تداول العسكريين المتقاعدين على السلطة، على طريقة (بوتين ومدفيديف)، بل على الطريقة الموريتانية التي لا تعرف حدودا لشيء، وإذا نجح مرشح العسكر الآن فإن هذه هي أولى لبنات التمكين للحكم العسكري الناعم، وكلما انتهت حقبة جنرال سيستقيل جنرال آخر ليرشحه السابق فيجد من أتعبتهم لأواء النضال أو أوهمتهم أحابيل التغيير مسوغا للقفز إلى ضفته وتأمين مأموريته فكريا وسياسيا، ومحال أن ينتهي الليمون/الجنرالات.

 

لا مناص من منازلة العسكر سعيا لافتكاك الوطن المختطف من قبضته العاتية، تلك هي أولوية الأولويات في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ البلد، وهي واجب يلزم أن تنخرط في استحقاقاته كل القوى المدنية، مسلحة بالصبر والوعي والأمل، الصبر على طريق المغالبة والوعي بأن حفار الآبار حينما يصل إلى الصخر سيصبح عمله بطيئا جدا فعليه أن لا ييأس، والأمل بأن ما بعد الصخرة هو النبع الفياض، أي الدولة المدنية القائمة على عقد اجتماعي راشد.

 

من المهم أن تفهم القوى المدنية أن اللجنة العسكرية تمر بخلاف عاصف وأن حواشي المدنيين المحيطة بها تعيش يأسا نفسيا وتتطلع سرا إلى تغيير يمنعها من الهتاف معكم جبن غالب ومصالح مُقَيِّدَةٌ، وهي تحتاج قائدا مدنيا واعيا بمقتضيات المرحلة وعارفا بدواليب الحكم والدولة، لا ينتمي لإيديولوجيا شرقية ولا غربية،  يمثل طمأنة للأطراف الجادة المؤمنة بالتغيير في المعارضة وفي حواشي اللجنة العسكرية، تلتئم حوله فتدفعه لتحقيق تفوق يمكنه من التجاوز إلى الشوط الثاني مع مرشح العسكر، ثم تلتحم به في الشوط الثاني كي ترفعه رئيسا مدنيا غير لا يمتن عليه العسكر بأنهم من أجلسه على الكرسي.

 

"نريد العبور نحو دولة مدنية" كلمة رخية الإيقاع تأنس بها النفس، يؤسفني أن جمالهايخدشه هذه الأيام ساسة وكتاب يتنازعونها مع المؤمنين بالتغيير المدني، والعبور نحو الدولة المدنية -كما أكرر دائما- طريقه لاحب غير مجهول، والبحثعنالدولةالمدنيةفيفضفاضةجنرالعسكريماتزالعناصرالجيشتحرسهعبثوِلْدَانوخَرَفُشيوخ.