لا مراء في أن نشر محكمة الحسابات لتقارير عشر سنوات في آن واحد أمر لافت لأنه بدلا من أن يكون تقليدا سنويا أضحى حدث العقد، فرغم نص القانون الذي يوجب على المحكمة أن تنشر تقريرا سنويا لإنارة الرأي العام وإقناع السلطات بجدوائية رقابتها للمال العام: حيث تنص المادة 65 من القانون النظامي 032 - 2018 الصادر بتاريخ 20 يوليو 2018، المتعلق بمحكمة الحسابات، على ما يلي: "تساهم محكمة الحسابات بواسطة نشر تقريرها السنوي العام في إعلام المواطنين. يمكن للمحكمة كذلك إعداد تقارير خاصة حول مواضيع تخص مسائل هامة" كما تضيف الفقرة السادسة والأخيرة من المادة 67 من نفس القانون: "ويُنشَر التقرير السنوي العام". وطبقا للمنطق والقانون ينبغي أن يكون التقرير المنشور في سنة 2019 هو تقرير سنة 2018 المنقضية التي يفترض أن معطياتها وأرقامها أصبحت جاهزة ومسؤولياتها أضحت جلية.
ومن الملاحظ أن تقارير محكمة الحسابات المنشورة مؤخرا ليست، في الحقيقة، تقارير سنوية فلو كان الأمر كذلك لكانت عشرة تقارير بمعدل تقرير عن كل سنة إلا أنها لم تكن أكثر من أربعة: يتعلق كل واحد منها بثلاث سنوات بينما يتعلق التقرير الأخير زمانه بسنتين وهكذا صدر تقرير سنوات 2009 - 2008 - 2007 في يونيو 2014 بينما لم يصدر التقرير المتعلق بسنوات 2012 - 2011 - 2010 إلا في إبريل 2017 تلاه تقرير سنوات 2015 - 2014 - 2013 الذي صدر هو الآخر في أكتوبر 2017 وأخيرا تقرير سنتي 2017 - 2016 الذي صدر، فيما يبدو، في يوليو 2019 ولا تزال محكمة الحسابات مدينة بتقرير السنة المنصرمة.. وإذا سارت المحكمة على هذه الوتيرة فقد لا يرى تقرير 2018 النور قبل أربع أو خمس سنوات عندما تتجمع جملة جديدة من التقارير.
ولا خلاف في أن الصحوة المفاجئة للمحكمة إيجابية من حيث المبدأ لأن تقاريرها صيحة في وجه الفساد وخطوة في اتجاه الشفافية التي يلاحظ أنها كانت معلقة التنفيذ إبان العشرية المنقضية وظلت غير معتمدة في تسيير المرافق العامة ومؤسسات الدولة وخاصة صفقاتها التي رغم التوصيات المتكررة لمحكمة الحسابات ظلت بعض كبرياتها بمنأى عن احترام مدونة الصفقات وكان من المتعين أن تفرد محكمة الحسابات لتجاوز إجراءات الصفقات تقريرا خاصا وأن توليها عناية أكبر من ذكرها في خضم التوصيات التي لا تلقي لها السلطات بالا.
ورغم الإيجابيات إلا أن البادرة لا تخلو من مساوئ فالإفراط غير محمود والجدوائية تفرض التدرج ونشر التقارير منجمة على شاكلة مناهج التدريس فالطالب التقليدي عندنا يعكف على لوح واحد بل على صفحته الأخيرة حتى إذا استقام نطق لسانه بما سُطر بها عاد لتكرار الصفحة السابقة وحفظ ما تضمنته قبل أن تبدأ كتابة صفحة جديدة لا تتأتى إلا بعد محو القديمة لأن من العسير مطالعة الجديدة و"الدرس" في آن فكيف بعشرة ألواح!!
إن من واجب محكمة الحسابات أن تنشر تقريرها سنويا حتى ينتج أثره القانوني وما يترتب عليه من مساءلة وكي يسهل تتبع آثار المخطئين قبل أن تندرس ذلك أن إرجاء النشر يجعل البعض ينجو من المساءلة وربما يستفيد من التقادم كما يؤدي لتداخل الآثار وتعذر تتبعها.. حتى محكمة الحسابات نفسها ارتبكت كما ورد في الصفحة 22 من تقريرها لسنة 2017 - 2016 واعترفت بأنها حائرة بخصوص تحديد نقطة بدء المتابعات.. ولسان حالها يقول:
تكاثرت الظباء على خداش *** فما يدري خداش ما يصيد.
ومن المشروع الاعتقاد بأن نشر التقارير بالجملة في هذا الظرف لا يخلو من بواعث سياسية ما كان ينبغي لهيئة قضائية مستقلة أن تعبأ بها فبينما ينشغل الرأي العام الوطني بالعشرية المنقضية - وينقسم حولها إذ يعتبرها البعض فترة عدل ونماء بينما يراها آخرون فترة ظلم وبلاء - يتم الإفراج عن هذه التقارير دفعة واحدة لتغطي المدة المثيرة للجدل لا أكثر ولا أقل!!
فهل كانت التقارير مشمولة بالسرية ورفعت عنها فجأة أم أن المحكمة كانت في سبات طويل وعندما أفاقت أرادت أن تقضي كل فوائتها دفعة واحدة؟! وهنا يجوز لنا أن نتساءل: لماذا تجاوزت المحكمة الحكم الشرعي الذي يقضي بالاقتصار على نشر التقارير الخمسة التي لم يُسْقِط التقادم متابعة أخطائها؟ ولماذا لا تبرئ ذمتها من التقرير السنوي المتعلق بذمتها في الوقت الراهن وتتذرع بتسويات قد لا تتم أبدا؟!
صحيح أنه يمكن لخصوم الرئيس السابق السيد / محمد ولد عبد العزيز توظيف التقارير ضده بتحميله مسؤولية الفساد المذكور فيها وتعتيمه على تسيير البلاد إبان فترة حكمه خاصة لأنه في ظل القانون السابق المنظم لمحكمة الحسابات كان نشر تقاريرها منوطا بإرادة رئيس الجمهورية ولم ينسخ ذلك الحكم إلا في 10 أغشت 2018، تاريخ صدور العدد 1418 من الجريدة الرسمية الذي تضمن القانون النظامي الجديد المتعلق بمحكمة الحسابات ولكن ينبغي أن لا نغفل عن كون مسؤولية عدم نشر التقارير السنوية أصبحت، بموجب القانون الأخير تقع، بالدرجة الأولى والأخيرة، على عاتق رئيس الهيئة التي نص الدستور على استقلاليتها: فبعد أن يسلم رئيس محكمة الحسابات نسخة من تقريرها السنوي لرئيس الجمهورية ويحيل نسخة منه لرئيس البرلمان يجب عليه أن يقوم بنشر التقرير للعموم وباعتبار النشر واجبا عليه، لا ينبغي له أن يتشاور فيه مع أحد، أحرى أن يعطله نزولا عند رغبته.. مع أن الإنصاف يقتضي أن نلاحظ أن رئيس محكمة الحسابات غير مدين بنشر التقارير باستثناء التقارير الصادرة أو التي يتعين أن تصدر بعد 10 أغشت 2018 تاريخ صدور عدد الجريدة الرسمية الذي تضمن القانون النظامي الأخير لمحكمة الحسابات.
ويلاحظ المتابعون للشأن الوطني أن كبار قضاة موريتانيا (رئيس المجلس الدستوري، رئيس المحكمة العليا ورئيس محكمة الحسابات) الذين قرر الدستور استقلاليتهم يحرصون على مراعاة شعور رئيس السلطة التنفيذية على حساب الالتزامات التي يفرضها عليهم القانون، وقد يكون ذلك من تبعات "ربقة التعيين" التي يشعرون بأنها تطوق أعناقهم لذلك يتعين التفكير في عتقهم بوضع معايير خاصة لاختيارهم وتعيينهم وتوفير ضمانات استقلاليتهم بما يتيح لهم رفع الرؤوس في مواجهة رئيس الجمهورية وغيره.
ومن أمثلة قرارات مراعاة الشعور: قرار الشغور الذي أصدره المجلس الدستوري وقرر فيه شغور منصب رئيس الجمهورية إثر تنحي السيد / محمد ولد عبد العزيز بينما كان السيد / سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رئيس الجمهورية المنتخب جاهزا ومستعدا لاستعادة مسؤولياته. ومنها فتيا رئيس المحكمة العليا السابق (رحمه الله وعفا عنه) لرئيس الجمهورية السابق (هداه الله) بعدم لزوم التصريح بممتلكاته بعد انتخابه لفترة ثانية رغم أن القانون ينص على تجديد التصريح بصورة دورية.. واليوم يبدو أن رئيس محكمة الحسابات قام بتأخير نشر التقارير وحجب ما صدر منها قبل أن يفرج عنه دفعة واحدة وبمقدار قد لا يكون تطابقه مع شعور ولي الأمر من قبيل الصدفة.
وفي متناول رئيس الجمهورية توظيف الامتياز والاعتبار الذي يحظى به كرسيه لخدمة دولة القانون فعندما يعطي المثل ويبادر بالتصريح بممتلكاته ويجتهد في احترام النصوص ويشاهد المواطنون ذلك سنشاهد تدافع الموريتانيين في الطريق الصحيح وتنافسهم الإيجابي في احترام القواعد التي يجب أن يخضع لها الجميع.