على مدار الساعة

الوعي أساس البناء والتنمية

12 ديسمبر, 2019 - 19:53
 الهادي بن محمد المختار النحوي

لا تقوم الدول إلا بالبناء والتنمية ، لكن طريق ذلك يتطلب حسم معركة الوعي الذي من غيره لن يستقيم البنيان ولن تكتمل التنمية.
وعندما نتحدث عن الوعي فلا يعني ذلك التعليم والتثقيف ، فالمسألة أعمق  بكثير لأن النخبة المستهدفة بمعركة الوعي هي في الغالب جمهور متعلم وعلى قدر كبير من التمييز والإدراك.
لذلك فمعركة الوعي تحتاج إلى  ثورة فكرية شاملة تستند إلى دربة وتربية لبناء جيل جديد محصن من عدوى تراكمات وإرث "العمل السياسي" على مدى عقود من الزمن ، هذا الإرث الذي هو في ظاهره ممارسة سياسية لكنه في حقيقته يجسد سلوك وثقافة مجتمع أصر ويصر على الجمع بين بداوة تشبع بها عاطفيا ومنهجا وقيما، ومدنية حديثة فرضت إكراهات ومتطلبات متعددة ، ولعل محاولة الجمع بين المنهجين جعل المجتمع يعيش حالة من الانفصام ، فضاع ذاك ولم يتمكن من هذا.
والأخطر في هذا الباب هو ترسيخ نمط معين من الوعي يعتمد على قلب الحقائق وتزيين الباطل وتجريم الوعي الحقيقي الذي جاءت من أجله شريعتنا الغراء. 
يقول الكواكبي : «الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان.. فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكى المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس في تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتّواً، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاروه على اعتبار النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة».

ولا يمكن الحديث عن هذه المعركة دون  استحضار تأثير ثلاثي القبيلة والعسكر والفقه السلطاني على الوعي تخديرا أو تشويها أو تغييبا.
والحديث عن القبيلة (أو الشريحة أو المجموعة) أو العسكر أو الفقه السلطاني لا يعني ذم أي من هذه الأطراف أو اعتباره شرا محضا، فالقبيلة خلية اجتماعية كبرى وهي ركن من البناء الاجتماعي حددت الآية الكريمة الغرض الأساسي منها : ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) لكن خطورتها تكمن في توظيفها بشكل يعيق بناء دولة المواطنة ، وكذلك العسكر فهم أشرف أبناء المجتمع عند تفرغهم للدفاع عن الوطن وحوزته الترابية أما عندما توظف المؤسسة العسكرية لتزييف الوعي وخدمة المصالح الخاصة فهناك الكارثة.
أما الفقه فهو المعين على فهم مصادر التشريع وهو آلية النظر في الأدلة وإعمالها وإنزالها على الواقع لكن توظيفه لخدمة الاستبداد هو جناية عظيمة مضاعفة.
مشكلة الحزب ...
أراد بعض أعضاء الاتحاد من أجل الجمهورية ، في صورة من صور اللاوعي، العبث بالمسار الديمقراطي قبل الانتخابات الأخيرة فسعوا إلى التمديد بالوسائل "القانونية" عن طريق (ربا المأموريات) وإدخال الدستور في حالة من الجهالة أو بيع (أو إعطاء) ما لا يملك وكل ذلك من المحظورات الشرعية.
 إن عودة الرئيس السابق ومشكلة الحزب "الحاكم" والحالة السياسية العامة في الأمة وفي بلدنا تحديدا، كل ذلك ليس إلا تشكلا من تشكلات أزمة الوعي خاصة أنه  لا يوجد خيط ناظم يربط أعضاء الحزب سوى الدوران في فلك الرئيس السابق مقابل مصالح معينة- أو دون مقابل- يحصل عليها بعض  "الأعضاء" ، ولذلك كلما ذهب رئيس تلاشى حزبه وانفرط عقده.
أراد الرئيس السابق ، على ما يبدو، دورا معينا في الحياة السياسية لكنه  بذلك لم يحترم هو و"مناصروه" نتائج الانتخابات الماضية التي أفضت إلى انتخاب رئيس جديد ، وجد قبولا عاما لدى الموريتانيين قبل وبعد الاقتراع.
فإذا كان استقلال السنة المالية l'indépendance des exercises من أهم المبادئ المحاسبية فالأمر أولى في الحياة السياسية.
عشرية النماء
لطالما سمعنا من "مناصري" الرئيس السابق أن النظام سيبقى ويستمر  وأن الرئيس السابق لا يمكن أن يفرط في إنجازات "عشرية النماء"، فهل جاءت عودته لحراسة إنجازات العشرية أم أن الأمر كان كما وصف الشيخ محمد الغزالي : " أسرع الناس إلى الشغب والتمرد من أقصوا عن الرئاسة وهم إليها طامحون"؟
سال حبر كثير حول العشرية الماضية بين المعارض و"الموالي" ، وإن كان الموالي مشكوك في صدقه لأن التجارب أثبت أن ولاءه أقرب إلى "الشعيري" منه إلى "النخيلي" ، فالشعير ينمو بسرعة وفي أحوال مناخية مختلفة أما النخيل فلا ينبت إلا في أمكان وظروف مناخية محددة وإذا نبت رسخ وثبت بعمق وصلابة.
 فالمعارض يراها-العشرية- أقسى السنوات العجاف وإحدى أقوى محطات الفساد والإفساد ، أما "الموالي" فيراها عشرية البناء والإنجازات بل ذهب بعض "الموالين" إلى أن ما أنجزه الرئيس السابق يفوق جميع ما انجزه  من سبقه ، وأن البلاد أصبحت خلال هذه العشرية تنافس الدول المتقدمة.
كانت العشرية حسب "الموالين" هي عشرية الحرب على الفساد وعلى المفسدين.
ورحم اللـه أهل الأذواق عندما يترنمون :
أنا مجنونة بحب حبيب .. لست أبغي عن بابه من براح
وصلاحي الذي رأيتم فسادي .. وفسادي الذي رأيتم صلاحي
لا حاجة للأرقام ولا نشرات وتقارير المنظمات المتخصصة ولا تقييم مؤشرات التنمية ، بل لننظر قريبا ، فالفقر معشش في كل زوايا الوطن ، والحالة العامة تتحدث عن مستوى خدمات التعليم والصحة.
اسألوا الفقراء وليس رئيسهم فعندهم الخبر اليقين.
أما الطرق فتعطيك صورة ناطقة من غير حاجة للسان.
أما الفساد فهو الناطق الفصيح ، فكأنه ،في التعبير، تجاوز ربيع أبي تمام :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا .. من الحسن حتى كاد أن يتكلما
أنواع الموالين
الموالون لهم طرائق وأساليب مختلفة في التقرب حتى لا نقول التزلف:
فريق يقبل كلما يقوله أو يفعله الحاكم لكنه يتدارك بعض ماء وجهه ولا يبالغ كثيرا
فريق مع الحاكم بصمت دون أن يصدر منه ما يزعج الحاكم
فريق يبالغ في إطراء الحاكم وفي تثمين منجزاته
وفريق ينسب للحاكم إنجازات غير موجودة ويزين له الباطل وينصب نفسه مدافعا عن غدراته وأخطائه ويتحامل على معارضيه بالباطل، وهذا النوع هو الأخطر.
فئات الموالين من حيث الاستفادة 
موالون صفقوا وحصلوا على ثمرة تقربهم فهؤلاء قبضوا الثمن
موالون لم يطبلوا واستفادوا فهؤلاء اصحاب حظ وفق قراءة معينة
موالون رضوا إن أعطوا وغاضبوا إن منعوا، فهؤلاء يمارسون التجارة في سوق السياسة
موالون طبلوا ولم يستفيدوا وبقوا على "ولائهم" فهؤلاء "خسروا" لكنهم ربما سلموا
موالون لم يطبلوا ولم يستفيدوا فهؤلاء كتبت لهم النجاة
موالون تأملوا وصدقوا مع أنفسهم  وخرجوا من السفينة قبل فوات الأوان ، فهؤلاء أصحاب شجاعة أعانتهم صحوة ضمير ، وقليل ما هم .
وبعد خروج الرئيس ينقسم "الموالون" أيضا إلى فئات :
"مناصر" خرج من السفينة بعد فوات الأوان وبعد خروج الربان فهؤلاء عليهم أخذ دروس في الوفاء والثبات على المبادئ والقيم 
مناصر بقي على "ولائه" وهذا عنده بعض شهامة لكنه ضحى بالحق ليتمادى على الباطل بحجة الوفاء وصدق الولاء ، وقليل ما هم .
مناصر كان في مقدمة "الموالين" ومن المتحمسين للدفاع عن الزعيم ، فسكت وبحث عن مقعده في السفينة الجديدة فهذا من تجار المواقف، 
مناصرون كانوا في من أشرس المدافعين عن الزعيم وربما رفعوه فوق البشر ، فلما سقط سلوا سكاكينهم وسيوفهم وتقدموا الجموع طعنا وضربا بعد أن خارت القوى وشلت الحركة فهؤلاء هم أسوأ الفئات وهم يحتاجون إلى مصحات نفسية.
وحال الرئيس السابق مع هؤلاء كما تقول الحكمة:
أخلاء إذا استغنيت عنهم .. وأعداء إذا نزل البلاء
وإن وجدوا عندي رخاء تقربوا .. وإن نزلت بي شدة خذلوني
ولكن الكارثة الكبرى لمناهج بعض " الموالين" أنهم يظنون أن الناس  تصدقهم والواقع أن الجمهور أدرك حقيقتهم. بل أصبح يشفق عليهم وعلى حالهم.
يقول الكاتب عمار علي حسن : "فالمبالغة في تصوير الحاكم، جسدا وعزيمة وفهما وإرادة وتصرفا وانحيازا لمقتضيات مهمته، تصنع بمرور الوقت مفارقة ساخرة، فإن قال عنه منافقوه، لاسيما إن كانوا قد صاروا مشهورين بين الناس بهذه الخصلة الممقوتة، إنه عظيم رآه المحكومون ضئيلا، وإن قالوا عنه فهيما رآوه معطوب الذهن، وإن قالوا محبا لشعبه، رأوه على النقيض، وإن قالوا طيب النية، بان سيئ الطوية."
 أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: ( ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك ) مراراً ، ثم قال : ( من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة ؛ فليقُل أحسبُ فلاناً والله حسيبه ولا أُزكِّي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه ).
هذا الحديث الشريف يحذر من مدح الناس والمبالغة في ذلك فكيف بمدح الحاكم الذي ترتبط به مصالح العباد خاصة إن كان المدح لا يسنده الواقع؟
إن النخبة تتحمل مسؤولية عظيمة في قيادة معركة الوعي وخاصة النواب لأنهم هم عنوان أي شعب وهم الذين يعطون للآخرين الانطباع عن حال هذا الشعب.
يقول تشرشل ،رئيس الوزراء البريطاني  الأسبق:
"إذا أردت أن تعرف أي شعب في العالم , أنظر إلى برلمانه ومن يمثله فيه.. وبعدها سوف تعرف أي الشعوب يستحق رمي الورود عليه أو ضربه بالأحذية".
إننا عندما ننتقد سلوك النخبة في عملها السياسي فإننا لا ندعو بذلك إلى مثالية زائدة ، فمن حق الناس البحث عن مصالحهم لكن ينبغي أن يكون ذلك بعزة نفس ولا يتأتى ذلك إلا بالوعي وبدولة المؤسسات وتكافؤ الفرص.
وبغض النظر عن الخلاف بين "الموالين" والمعارضين حول فترة العشرية الماضية ، فإنه ينبغي دراسة هذه الحقبة دراسة موضوعية ومحايدة ، وقد يكون ذلك بتكليف خبراء موريتانيين من خارج الانتماء السياسي بالمهمة وتقديم النتائج للشعب الموريتاني.
ويستحسن أيضا تقييم سلوك "الممارسة السياسية" للنخب خلال العقود الماضية لمحاولة فهم طرائق وفحوى هذا "الولاء المطلق" الذي يتحول إلى ولاء سائل خفيف أو طائر عند تغيير الحاكم.
ولعل نتائج هذه الدراسات والتقييم تعين الرئيس الجديد ،وفقه اللـه، على رسم خارطة عمل أساسها بناء وتعزيز الوعي الفكري والسياسي والاجتماعي.
وبهذا يؤسس الرئيس للبناء بكسب معركة الوعي أولا ،أو استرداد كرامة الإنسان ، فالمسألة هنا ليست مرجعية حزب أو إدارته بقدر ما هي معركة وعي وتغيير عقليات تمهيدا لبناء تنموي شامل أساسه دولة المؤسسات وسيادة القانون وترسيخ مفهوم المواطنة القائم على العدل والمساواة.
وهناك بشائر ورسائل إيجابية أطلقها الرئيس محمد الشيخ الغزواني تمهد لمعركة الوعي هذه، وذلك ما سيكون بإذن اللـه موضوع مقال في قابل الأيام.
ملاحظات أخيرة : هذه الفقرات ليست موجهة ضد أشخاص بأعينهم إنما محاولة لتتبع حالة شائعة ومتداولة بين الناس.
وصلى اللـه وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.