بشر الرئيس الأمريكي بصفقة “القرن” وهي تعني ببساطة أن الولايات المتحدة تنطح الشعوب العربية والفلسطينيين بقرنها وقرن إسرائيل وهذه القرون الناطحة ليست موجهة لبعض العرب الذين التزموا بيعة الطاعة للبيت الأبيض ولإسرائيل فهؤلاء تصدق عليهم الحكاية التي تقول إن رجلا لقي الشيطان ووجد عنده حبالا بأحجام مختلفة فالقوية منها أعدت لأهل الاستقامة والصلاح والحبال الأخف أعدت لمن هم أقل استقامة، لكن الرجل سأل الشيطان: وأين حبلي؟ فأجابه أنت لا تحتاج إلى حبل.
وهي صفقة من عنوانها لأنها تتحدث عن بيع الأوطان وشرائها وبعض العرب لهم تاريخ واضح في بيع الأرض والكرامة وإن كانت الولايات المتحدة لا تحتاج إلى البيع والشراء لأن منهجها العادي هو أخذ الأوطان عنوة وبالقوة وفق قانون الغاب.
إن إعلان الصفقة في واشنطن قد يدخل قانونيا فيما يعرف بتعاقد الشخص مع نفسه، وهو " العقد الذي يتم عن طريق الجمع بين صفتين في شخص واحد، بحيث يقوم هذا الشخص بدور الطرفين، فيصدر تعبيرين عن الإرادة متقابلين في شأن مصالحهما المتعارضة". فالولايات المتحدة تنوب عن إسرائيل كما أنها تنوب أيضا عن العرب لأنهم نصبوها وصية عليهم وسلموها مفاتيح الحل والعقد.
ولنستعرض بعض بنود " صفقة القرون" كما نشرتها صحيفة، دنيا الوطن، نقلا عن إحدى الفضائيات العربية:
- “في الشق العسكري، تمنع مسودة صفقة القرن على "فلسطين الجديدة" أن يكون لها جيش، والسلاح الوحيد المسموح به هو سلاح الشرطة”.
- “تفكك حماس جميع أسلحتها وتسلّحها ويشمل ذلك السلاح الفردي والشخصي لقادة حماس، ويتمّ تسليمه للمصريين”.
هذا البند وحده يكفي لإظهار أن الصفقة عبثية فنزع سلاح المقاومة دونه خرط القتاد.
- “بخصوص قطاع غزة، نصّت مسودة "صفقة القرن" على أن تقوم مصر بمنح أراض جديدة لفلسطين لغرض إقامة مطار ومصانع وللتبادل التجاري والزراعة، "دون السماح للفلسطينيين بالسكن فيها”.
- “فيما يتعلّق بتوزيع المساهمات بين الدول الداعمة، ستقوم الولايات المتحدة الأميركية بدفع 20%، الاتحاد الأوروبي 10%، بينما ستدفع دول الخليج 70%، حيث تحدثت المسودة عن أنّه ستتوزع النسب بين الدول العربية حسب إمكانياتها النفطية”.
هذه المادة من الصفقة تذكرنا بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين عندما تعاقبهم بإرغامهم على هدم بيوتهم بأيديهم انتقاما من مشاركة أبنائهم في المقاومة سواء استشهدوا أو أسروا، فالعرب، وفق الصفقة، سيلزمون بشراء أرضهم.
- “بعد مرور عام على الانتخابات يطلق سراح جميع الأسرى تدريجياً لمدة ثلاث سنوات.”
ونلاحظ في هذه المادة أنه على الأسرى انتظار أربع سنوات إضافية قبل الإفراج عنهم.
لكن الاتفاقية تضمنت أيضا تهديدا واضحا للسلطة الفلسطينية في حال رفضها للصفقة:
"في حال رفضت حماس ومنظمة التحرير الصفقة، فإن الولايات المتحدة سوف تلغي كل دعمها المالي للفلسطينيين وتعمل جاهدة لمنع أيّ دولة أخرى من مساعدة الفلسطينيين".
لكن الأخطر هو التهديد بتصفية قادة حماس والجهاد الإسلامي بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة:
- "إذا وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على شروط هذا الاتفاق ولم توافق حماس أو الجهاد الإسلامي، يتحمّل التنظيمان المسؤولية. وفي أي مواجهة عسكرية بين إسرائيل وحماس، ستدعم الولايات المتحدة إسرائيل لإلحاق الأذى شخصياً بقادة حماس والجهاد الإسلامي، حيث أن أمريكا لن تتقبل أن يتحكم عشرات فقط بمصير ملايين البشر".
غير أن أطرف ما في صفقة القرون هو أن إسرائيل ستحمي فلسطين الجديدة مقابل ثمن:
"في الوقت نفسه، تشير مسودة بنود الصفقة، إلى أنّه سيتمّ توقيع اتفاق بين إسرائيل وفلسطين الجديدة على أن تتولى إسرائيل الدفاع عن فلسطين الجديدة من أيّ عدوان خارجي، بشرط أن تدفع الأخيرة لدولة الاحتلال ثمن هذه الحماية، فيما يتمّ التفاوض بين إسرائيل والدول العربية على قيمة ما سيدفعه العرب للجيش الإسرائيلي "ثمناً للحماية".
ومن سيعتدي على فلسطين غير إسرائيل؟ وهذه بالضبط هي صورة "حاميها حراميها".
الجامعة العربية والصفقة
رفضت الجامعة العربية الصفقة وهذا أمر جيد في ظاهره لكن الحقيقة لها صورة أخرى ، فبعض الدول العربية تبنت بشكل واضح الصفقة وبعضها سكت بما يفيد الرضى أو التأييد، ولكن الأهم في هذا السياق أن الجامعة العربية أعلنت مرارا وتكرارا عن تمسكها بالسلام "خيارا استراتيجيا" أي بمعنى التقاعد والتنازل عن المقاومة بل وتجريم رجالها ووصفهم بالإرهابيين، ومن تنازل عن حمل السلاح لمقاومة المعتدي فقد مهد الطريق لبيع الأوطان وصفقة القرون موسم رابح من مواسم البيع والشراء.
ولا بد أيضا من تأمل موقف أبي الغيط فالرجل معروف بعدائه للفلسطينيين وقد هددهم أيام حسني مبارك، فرفضه للصفقة ربما يقصد به أمرا آخر، لأن موقعه العادي ليس إلا مع المحتلين ومؤيديهم.
كما أن هرولة المطبعين تؤكد أن رفض الصفقة ليس صادقا عند بعض الأعضاء، وإنما هو انسياق مع تيار إعلامي، فبعض العرب يتسابقون إلى إسرائيل ويمنحونها غنيمة باردة بتطبيع دون ثمن، وذلك بعد موت "لاءات" الخرطوم المشهورة: "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض قبل أن يعود الحق إلى أصحابه" كما جاء في بيان قمة الخرطوم التي عقدت سنة 1967 بعد الهزيمة.
وهاهم العرب يعترفون ويصالحون ويفاوضون، والحق أبعد من أن يعود إلى أصحابه.
والسؤال المحير هو ما معنى هذا الحماس الزائد نحو التطبيع؟ فلو نجح العرب في تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين قضى بعضهم عشرات السنين في السجون الإسرائيلية لقلنا لا بأس، فكرامة الإنسان الفلسطيني تستحق ذلك لكن هيهات، فلا أحد يفكر في هؤلاء ولا في مأساتهم.
السلطة الفلسطينية والصفقة
رفض الرئيس الفلسطيني أبو مازن الصفقة وذكر أنه رفض الرد على اتصال ترمب بشأن الصفقة وهذا يوحي، بادي الرأي، بأن الرئيس الفلسطيني صاحب مبادئ وأنه حريص على الثوابت لكن سلوكه وتعامله مع الإسرائيليين ومع المقاومة والوقائع على الأرض، كل ذلك يؤكد أنه إن كان يرفض الصفقة إعلاميا فإنه يقبلها واقعيا.
فأبو مازن صرح في أكثر من مناسبة بأنه ضد ما أسماه العنف وأنه يقبل بدولة منزوعة السلاح كما ذكر في خطابه في اجتماع الجامعة العربية الأخير.
وكان عباس قد صرح سنة 2018 لوفد إسرائيلي أكاديمي زاره في مكتبه في رام الله، ترأسه البروفسور عيلاي ألون أنه يقبل بدولة دون جيش: «أنا أدعم دولة في حدود 1967 من دون جيش. أريد قوات شرطة غير مسلحة، مع هراوات وليس مسدسات»، وأضاف: «بدلا من الطائرات الحربية والدبابات، أفضل بناء مدارس ومستشفيات، وتخصيص الأموال والموارد لمؤسسات اجتماعية بدلا من الجيش".
وقال محمود عباس في مقابلة مع قناة روسيا اليوم إنه يرفض أن يعود الشعب الفلسطيني إلى الكفاح المسلح، لأن "موازين القوى ليست معنا. وبالتالي لا فائدة منه.. ونحن رأينا ماذا حصل في الانتفاضة الثانية، وما بعد الانتفاضة".
وأضاف في مقابلته مع القناة الروسية: "لكن الشعب الفلسطيني بيده اسلحة أخرى.. يستطيع ان يقوم بالمظاهرات السلمية الشعبية.. يستطيع أن يذهب إلى المنتديات الدولية كما ذهبنا قبل عدة أشهر إلى الأمم المتحدة.. هذا باب من الأبواب وهو باب ليس سهلا أبدا".
والعالم يعرف أن المحتل لا تنفع معه المظاهرات السلمية ولا المقاومة الشعبية فالمحتل إذا لم يدفع ثمن احتلاله لن يتحول إلى حمل وديع يعيد إلى أصحاب الحق حقهم، أما الأمم المتحدة فهي مشلولة بسبب هيمنة الولايات المتحدة ومن يتوجه إليها طالبا الدعم فهو كمن يدفن رأسه في الرمال ليحجب عن نفسه رؤية الحقائق والواقع.
بل إن عباس حصل على شهادة تزكية من بعض الإسرائيليين لحسن سلوكه في عملية السلام، فقد قال الصحفي الإسرائيلي "رفيف دروكر" في مقالة نشرتها صحيفة "هآرتس" العبرية سنة 2015: إن نتنياهو يضيع الفرص بعدم حله للصراع مع شريك معتدل وغير متكرر كعباس وأضاف رفيف في معرض مدحه لمواقف عباس "لا يمكننا الحصول على شريك كأبي مازن، فحتى لو حاول كبار خبراء التكنولوجيا الفائقة لدينا، وفي المختبرات الأكثر تطوراً في العالم إعادة استنساخ أبو مازن فلن يفلحوا".
وزاد من شهادته مشيدا بعباس "ففي الوقت الذي قامت عدوته إسرائيل بقصف أبناء شعبه بغزة هاجم خاطفي الجنود الإسرائيليين"، "زعيم فلسطيني يهاجم حملات رفع الشرعية عن إسرائيل"، "زعيم خطب عشرات المرات ضد الإرهاب ويحارب من يحاول تنفيذ العمليات الإرهابية ويعارض المقاومة المسلحة". وأضاف رفيف مطريا عباس: "لا يمكن تكرار شخصية كأبي مازن على الساحة الفلسطينية.
فإذا كان الرئيس يرفض المقاومة ويصنفها إرهابا ويقبل بدولة منزوعة السلاح فلا معنى لرفضه لصفقة القرن.
فلماذا إذن نلوم ترمب وأمريكا وإسرائيل إذا كان العرب سلموا رقابهم، خوفا وطمعا، لأمريكا،؟ فالأولى أن يقبلوا بصفقة "القرون" بل كان عليهم أن يقولوا لترمب إنهم على استعداد لترحيل الفلسطينيين إلى الدول الأخرى مع تحمل التكاليف لتعيش إسرائيل في سلام وليتم لهم التطبيع معها في جو من الهدوء والسكينة، فلا بديل للصفقة سوى الأمر الواقع القائم على قوة إسرائيل وهيمنة أمريكا وحصار الفلسطينيين وإبقائهم بين سجون صغيرة أو كبيرة في أرضهم أو في الشتات والمنافي.
يحصل هذا لأن المدافعين عن فلسطين أصابهم الضعف والهوان، وإن كان ليس من قلة، وهذا ما عبرت عنه قبل عقود جولد مائير خلال عام 1970، عندما عرض عليها كاتب بولندي انطباعه عن فلسطين بعد زيارته لها قائلًا: "العروس جميلة ولكن لديها عريس"، فأجابته: "وأنا أشكر الله كل ليلة، لأن العريس كان ضعيفًا، وكان من الممكن أخذ العروس منه".
ضاعت فلسطين لأن العريس كان ضعيفا وأصبح ذليلا بلا عزة ولا كرامة ولا شرف ولا نخوة.
بيروت -(فلسطين)- كل القارعات سلام ** ذهب الرجال ودالت الأيام.
والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع.