إن إخراج أبوينا آدم وحواء من تلك الجنة التي لا يزال نفاذ إبليس إليها أمرا محيرا قد يحسب أول تجليات الصراع بين الشر والخير وقد يرى آخرون أن قتل أحد أبنائهما لأخيه هي بداية الفساد الذي عم في زمننا البر والبحر وكل مستويات التجمعات والتنظيمات والتكتلات بدءا بالأسرة وانتهاء بمنظمة الأمم المتحدة مرورا بالدول.
ونظرا لحال تفشي الفساد هذا ولتعدد معانيه وتنوع مظاهره وسوء انعكاساته أصبح لزاما على الدول والهيئات تصنيفه (أي الفساد) عائقا للتنمية تجب محاربته والقضاء عليه.
وفيما يخص موريتانيا الحبيبة فقد سلكت هذا الطريق وقطعت فيه أشواطا كبيرة تتناسب مع تطور الظاهرة واستفحالها وانتشارها على مستوى مختلف مفاصل الإدارة العمومية.
ويشكل إنشاء لجنة برلمانية مكلفة بالنظر في تسيير عشرية حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز آخر إجراء ينقل الموضوع من مجرد شعارات براقة ملها الشعب إلى قرار ملموس يعلق عليه السذج من الناس الكثير من الأمل. وقد صاحب وجود هذه اللجنة ظهور متطرفين ومتشددين يطالبون بضرورة محاربة الدولة للفساد بجميع أصنافه ومعاقبة المفسدين مهما كان عرق الواحد منهم وشريحته وقبيلته وجهته ووظيفته السابقة والحالية واللاحقة وكأننا في إعادة تأسيس دولة إثر ثورة شعبية أو انقلاب عسكري أبطاله من الدرجة الثالثة أو غوغاء أفرزت حالمين يجهلون أمور تسيير الدول.
ورغبة مني في متابعة دور النصح الذي ألزمت نفسي بلعبه منذ كتابتي للمقال الأول في إبريل 1999، فإنني أعلن من هذا المنبر وبأعلى صوتي مساندتي التامة لمحاربة الفساد من جهة ومعارضتي الشديدة لمعاقبة المفسدين.
ولكي لا يقع اللبس حول هذا الموقف من طرف السادة القراء فعلى الجميع أن يعلم أنني أدعم أي جهد يقوم به رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني وحكومته في سبيل محاربة فساد من اختارهم لتحمل أي مسؤولية في حكمه وأعطاهم ثقته ليكونوا من ركائز نظامه الجديد وخدام شعبه. وهذا يعني باقتصار شديد اتخاذ عدة إجراءات من أهمها:
أولا: تفعيل دور محكمة الحسابات في الرقابة المالية عبر مراجعة نصوصها بحيث يتم تخويلها إحالة تقاريرها إلى القضاء مباشرة ثم دعم وسائلها البشرية والمالية؛
ثانيا: القضاء على المفتشيات الداخلية للوزارات والمفتشية العامة للدولة وإعادة النظر في دور وصلاحيات المفتشية العامة التابعة لوزارة المالية، بخصوص المفتشية العامة للدولة فإن الموريتانيين يعتبرونها أداة سياسية بيد النظام يعاقب بها خصومه ويتخلص منهم أحيانا أو يستقوي بهم أحيانا أخرى؛
ثالثا: التطبيق الفعلي لمبدإ المحاسبة على كل من يخون الأمانة ابتداء من فاتح أغسطس 2019 ومعاقبة من تثبت إدانته بفساد أثناء فترة حكم الرئيس غزواني. ومن العقوبات البدهية تنحية المفسد من الوظيفة ومنعه من أي مسؤولية طيلة الفترة 2019 ـ 2024 ثم استرجاعه للمال العام المسروق مع تطبيق باقي ما ينص عليه القانون بصرامة.
رابعا: الاستغناء فورا عن خدمات من تثبت اللجنة البرلمانية فساده ومنعه كذلك من تولي أية مسؤولية تسييرية أو انتخابية مستقبلا.
خامسا: تحسين ظروف العمل والموظفين والتشجيع المعنوي والمادي لكل من يتميز في أداء مهامه ومسؤولياته العمومية؛
سادسا: إطلاع الموريتانيين على نتائج عمل اللجنة البرلمانية إذ من حق المواطنين أن يعلموا بالأسماء والصفات من خانوا أمانتهم أمام الله وأمام الشعب وعبثوا بالثقة التي أعطوهم منتخبوهم أو مزكوهم لعضوية الحكومة على وجه الخصوص.
أما معارضتي لمحاسبة المفسدين فتتعلق بمن قد يثبت فسادهم خلال العشرية الماضية من طرف اللجنة البرلمانية المكلفة بالنظر والتدقيق في تسيير عشرية حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. بعبارة أخرى أرجو من الله العلي القدير أن لا يرضخ السيد رئيس الجمهورية لضغوط من يدعون مناصرته ومؤازرته ويقدم على محاسبة من فسدوا وأفسدوا قبل توليه الحكم وذلك لأسباب عديدة ومتعددة من بينها أن إمبراطورية غانا وقبائل صنهاجة وزناتا والإمارات التي قامت في هذه الأرض بعيد قدوم بني حسان من ماض يعتبر مع الأسف هذه الأيام حاضرا في ذهن وربما في تصرفات وعمل قوة لا يستهان بها من الموريتانيين الذين يجدون آذانا صاغية داخليا ودعما متنوعا خارجيا.
ومنها أيضا كون الموريتانيين يعتبرون أن هناك مفسدون وخونة منذ جاء المستعمر إلى هذه الربوع وأن الفساد لم ولن ينته بانتهاء عشرية الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
وحقيقة مجتمعنا القبلي والجهوي والجاهلي في حميته سبب آخر في معارضتي لمحاسبة أي مفسد بعد خروجه من الوظيفة إلا إذا كان ذلك ضمن عملية كاشفة شاملة تتطرق إلى مختلف الأحكام ومن شارك فيهم وتولى مناصب تسييرية؛ خارج هذه الظروف يخشى أن ينتصر للمفسد عند معاقبته من هم من شيعته ومن أحلاف شيعته تقليديا أو ممن استفادوا من فساده.
من جهة أخرى أرى أن الموقع الجغرافي لموريتانيا وتركيبتها السكانية وتاريخ علاقاتها مع جيرانها وغنى وتنوع ثرواتها الطبيعية وظهور حركات الإلحاد جهرة وأسباب عدم الاستقرار في المنطقة والعالم، كلها عوامل تفرض المحافظة على السلم الاجتماعي وضرورة تقوية الجبهة الداخلية ودفع كل ثمن في سبيل ذلك.
وبالمناسبة لا يخفى على أحد أن التحولات التي سيعرفها العالم من الآن فصاعدا ستتأثر بها لا محالة موريتانيا إذ ينتظر أن يدخل لاعبون جدد غير فرنسا ودول الجوار في قضايا البلد ومصيره؛ هناك بالفعل من الموريتانيين من يوجس في نفسه خيفة من دور متنامي قادم لأميركا والسعودية والإمارات ومصر وحتى إسرائيل.
وبناء على ما تقدم وفي غياب فتح ملفات الفساد والخيانة منذ استقلال البلد على الأقل، فإنني أتمنى على السيد رئيس الجمهورية تبني مبدأ "عفا الله عما سلف" بخصوص من ستؤكد اللجنة البرلمانية تورطهم في ملفات فساد تحت حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، تلك اللجنة التي يتطلع الجميع لمعرفة نتائج عملها.
إنه قرار تقتضيه الحكمة وسيكون فيه بعض الإنصاف وقد لا يتنافى أو يتعارض مع التخلص فور إعلان نتائج اللجنة البرلمانية من المفسدين الذين يشغلون حاليا مناصب في الدولة والتوقف عن تعيين أي مواطن تمت إدانته بسبب الفساد.
كما أن تطبيق مبدإ "عفا الله عما سلف" المذكور لا يمنع إعادة النظر في بعض الصفقات والاتفاقيات ولا استرجاع ما يمكن استرجاعه من ممتلكات الدولة التي لا يسمح القانون بالتنازل عنها لصالح الخصوصيين كبعض العقارات مثلا.
وأخيرا، اعلم سيدي رئيس الجمهورية بأن العديد ممن يرفعون شعار محاربة الفساد والمفسدين ويدفعون بكم لمعاقبة متهمين بالفساد يعتبرون من جهة أخرى أن من غير الإنصاف ترك السلف بغنائمه ومنع الخلف من الغناء السريع عبر الاستيلاء على المال العام واستغلال المنصب والنفوذ في الدولة، واعلم كذلك أن هذا الأمر
تتساوي فيه الانتلجنسيا والسياسي والمتطفل عليهما معا من الموالاة والمعارضة ولو سكتت.
عجيب ومحير فعلا أمركم أهل موريتانيا بإحراجكم دوما لقادتكم وجعلهم باستمرار في موقف "يللالي كان كلت العيش ويللالي كان ما كلتو".